تعد استراتيجية الأمن القومي التي أصدرتها الإدارة الأمريكية في ٤ ديسمبر ٢٠٢٥ بمثابة دستور شخصي للرئيس وإدارته، إذ تعكس أولوياته الفردية ورؤيته للعالم، وتوضح الأساليب التي يختارها لمواجهة التحديات والحفاظ على النفوذ الأمريكي، إذ لا تقتصر على كونها وثيقة تحليلية موضوعية، بل تحمل أيضًا بصمة الرئيس في تقييم المخاطر، ترتيب الأولويات، وتحديد مجالات النفوذ، مما يجعلها مؤشرًا مباشرًا على توجهات السياسة الخارجية والاستراتيجية الدفاعية للولايات المتحدة خلال فترة حكمه المتبقية.
في هذا السياق، يهدف هذا التقرير إلى تحليل استراتيجية الأمن القومي الجديدة عبر محورين رئيسيين: الأول هو محاور الاستراتيجية بما تضمنته من نصف الكرة الغربي، آسيا، أوروبا، الشرق الأوسط، شرق أفريقيا على الترتيب.
والثاني يقدم عرضًا نقديًا لهذه الاستراتيجية مع التركيز على الطابع الشخصي للرؤية، تناقضاتها المحتملة، والتحديات المرتبطة بتنفيذها على المدى الطويل، سواء على الصعيد الدولي أو الإقليمي أو حتى الداخلي:-
أولًا: محاور الاستراتيجية
تتناول الاستراتيجية مختلف المناطق الجغرافية العالمية من منظور أمريكي واضح، بدءًا من نصف الكرة الغربي كمساحة نفوذ حصري، مرورًا بالمنطقة الآسيوية كمسرح للتنافس الجيوسياسي مع الصين، وأوروبا التي تواجه تحديات هيكلية متعددة، وصولًا إلى الشرق الأوسط حيث تعالج التوازنات الإقليمية والصراعات، وانتهاءً بشرق أفريقيا كنموذج لتحويل المساعدات التقليدية إلى شراكات اقتصادية وتجارية قائمة على المنفعة المتبادلة.
ويهدف هذا المحور إلى تقديم عرض شامل للنقاط الأساسية في الاستراتيجية، موضحًا كيف تعكس أولويات الإدارة الأمريكية أسلوبها في إدارة التحالفات والمنافسات الدولية، ورؤيتها للتحديات والفرص على الصعيد العالمي، وذلك قبل الانتقال لاحقًا إلى التحليل النقدي لهذه الرؤية:-
1- نصف الكرة الغربي
تضع الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي التي أصدرها ترامب نصف الكرة الغربي في قلب أولوياتها، باعتباره المجال الحيوي المباشر للولايات المتحدة، والمسرح الذي تتحدد فيه قدرة واشنطن على الحفاظ على هيمنتها العالمية. وتعيد الوثيقة إحياء مبدأ مونرو بصياغة معاصرة، حيث تؤكد أن الأمريكيتين -الشمالية والجنوبية- تمثلان ساحة النفوذ الأساسي للولايات المتحدة، وأن أي وجود لقوى معادية داخل هذا المجال يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي. وفي هذا السياق تتعامل الاستراتيجية مع نصف الكرة الغربي كأولوية قصوى تستدعي انفتاحًا أمريكيًا واسعًا اقتصاديًا وأمنيًا وسياسيًا، سواء من خلال تعزيز التعاون الاستخباراتي ومكافحة الجريمة العابرة للحدود، أو من خلال دعم البنية التحتية والتنمية في دول الجوار لمنع تمدد استثمارات الدول المنافسة والمعادية، التي تصفها الوثيقة بأنها اختراقات يجب تنحيتها وإزاحتها عن المنطقة.
وتؤكد الاستراتيجية أن الحفاظ على استقرار هذا المجال الجغرافي القريب يعد شرطًا أساسيًا لحرية الحركة الاستراتيجية للولايات المتحدة في بقية مناطق العالم، وأن السماح لقوة منافسة بالتغلغل فيه سيحد من قدرة واشنطن على إدارة منافستها العالمية مع القوى الأخرى.
2- آسيا
تقدم استراتيجية الأمن القومي الأمريكية رؤية حاسمة تجاه آسيا باعتبارها الساحة الرئيسية للمنافسة الجيوسياسية مع الصين، وتشير بوضوح إلى أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة ارتكبت خطأ استراتيجيًا حين سمحت لبكين بالاندماج العميق في منظومة التجارة الحرة العالمية، وفتحت أمامها أبواب الأسواق الأمريكية والدولية دون تقييم دقيق لتداعيات هذا الانفتاح.
وترى الوثيقة أن هذا النهج الممتد لعقود منح الصين فرصة غير مسبوقة للنمو الاقتصادي والتكنولوجي، وهو ما جعلها اليوم أقرب ما تكون إلى الند الاستراتيجي للولايات المتحدة.
وانطلاقًا من ذلك، تدعو الاستراتيجية إلى إعادة ضبط التوازن في الإقليم عبر تعزيز التحالفات والشراكات مع القوى الآسيوية الرئيسية مثل اليابان وكوريا الجنوبية وحتى أستراليا، وإعادة تأكيد أهمية الهند باعتبارها قوة صاعدة قادرة على الإسهام في الحد من التمدد الصيني، وهي مقاربة تقترب من فكرة سد الفراغ أو حتى تطويق الصين عبر شبكة تحالفات واسعة.
كما تُولي الوثيقة تايوان أهمية خاصة باعتبارها نقطة ارتكاز محورية، ومركزًا تكنولوجيًا حيويًا في صناعات الرقائق والمعالجات الدقيقة، مؤكدة أن الولايات المتحدة لن تسمح بتغيير وضع الجزيرة بالقوة أو بأي شكل من أشكال الاعتداء العسكري. وفي الوقت نفسه تشدد الاستراتيجية على أن تحقيق هذا التوازن لا يمكن أن يتم عبر الجهد الأمريكي وحده، إذ يتوجب على دول الإقليم نفسها زيادة ميزانياتها الدفاعية، وتطوير قدراتها العسكرية، والانخراط في بنية أمنية جماعية تتيح مواجهة التحديات الصينية بصورة مشتركة ومستدامة.
3- أوروبا
تنظر استراتيجية الأمن القومي الأمريكية إلى أوروبا باعتبارها ساحة تعاني أزمة بنيوية أعمق بكثير من الركود الاقتصادي أو ضعف الإنفاق الدفاعي، إذ تؤكد الوثيقة أن المشكلة الحقيقية تكمن في المؤسسات العابرة للحدود التي رسختها العولمة خلال العقود الماضية، والتي ترى أنها قيدت سيادة الدول الأوروبية وأضعفت قدرتها على التعامل مع التحولات الجيوسياسية المتسارعة.
وتشير الاستراتيجية إلى أن هذا النموذج العابر للسيادة سيُلحق بالقارة أضرارًا متزايدة في السنوات المقبلة، وقد يؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي داخل أوروبا بصورة جذرية. وفي ما يتعلق بروسيا، تتعامل الوثيقة مع الملف الروسي والحرب الروسية الأوكرانية باعتباره أزمة أوروبية بالأساس، حيث تُحيل مسؤولية المواجهة الرئيسية إلى الدول الأوروبية نفسها، فيما يقتصر الدور الأمريكي على تدخل يشبه دور الوسيط لا المتضرر المباشر، في محاولة لإعادة توزيع الأعباء الأمنية داخل حلف الناتو.
أما في تقييمها للسياسات الأوروبية الراهنة، تصف الاستراتيجية توجهات بعض الحكومات بأنها غير واقعية في تقدير حجم التهديدات التي تواجه القارة لا سيما الحرب الروسية الأوكرانية وسب إنهائها، لكنها تبدي في المقابل قدرًا من التفاؤل تجاه صعود التيارات القومية والشعبوية التي ترى فيها فرصة لإحياء الدولة الوطنية الأوروبية وتعزيز استقلاليتها في مواجهة البيروقراطيات فوق القومية.
4- الشرق الأوسط
تتعامل استراتيجية الأمن القومي الأمريكية مع الشرق الأوسط باعتباره إقليمًا لا يزال يشكل مصدر قلق في السياسة الخارجية الأمريكية، خصوصًا بسبب استمرار الصراعات المسلحة وتعقيدات التوازنات الإقليمية، إلا أن الوثيقة ترى في الوقت نفسه أن التطورات الميدانية إيجابية مقارنة بالسنوات الماضية.
وتضع الاستراتيجية إيران في مركز التهديدات، مؤكدة أن طهران باتت أضعف منذ السابع من أكتوبر 2023 وما تلاه من تداعيات، وأن الضربة الأمريكية المعروفة بعملية مطرقة منتصف الليل في يونيو 2025 ساهمت في تقييد قدرتها على المناورة الإقليمية. وفي ما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تصفه الاستراتيجية بأنه ملف شائك ومعقد، لكنه يشهد خطوات تقدم على الأرض، بما يسمح بإبقاء القنوات مفتوحة لفرص سلام أكثر ديمومة.
أما سوريا، فترى الوثيقة أنها لا تزال تمثل مشكلة محتملة، لكنها في الوقت ذاته قد تتحول إلى فاعل إيجابي داخل الإقليم إذا استمرت عملية تثبيت الاستقرار عبر الدعم الأمريكي والعربي والإسرائيلي والتركي. ومع تراجع القيود المفروضة سابقًا على قطاع الطاقة داخل الولايات المتحدة، تشير الاستراتيجية إلى أن الشرق الأوسط لن يكون محور الانشغال الرئيسي لواشنطن كما كان في العقود الماضية، لكن هذا لا يعني تراجع أهميته، بل تحول دور أمريكا في الشرق الأوسط إلى نمط يقوم على الشراكة والتعاون والاستثمار بدلًا من الانخراط في الصراعات.
وفي هذا الإطار تركز الاستراتيجية على حماية الملاحة والممرات البحرية وضمان عدم وقوعها في يد القوى المعادية، بالإضافة إلى قبول الأنظمة القائمة -وخاصةً في دول الخليج- كما هي دون تنظيرات وملاحظات على طرق الإدارة، بالإضافة إلى اعتبارهم شركاء استراتيجيين يجب تثبيتهم ودعمهم للحفاظ على توازنات الإقليم واستقراره.
5- شرق أفريقيا
تتبنى الاستراتيجية الأمريكية رؤية تجاه شرق إفريقيا تنطلق من القناعة بأن النموذج التقليدي القائم على المساعدات لم يعد كافيًا أو مناسبًا للمرحلة الراهنة، وأن الوقت قد حان للانتقال إلى شراكات اقتصادية وتجارية تقوم على المنفعة المتبادلة، واستثمار الموارد الطبيعية والفرص الكامنة في المنطقة.
وتشير الوثيقة إلى أن الولايات المتحدة تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع دول شرق إفريقيا من أجل تقليل حدة النزاعات، ودعم الاستقرار السياسي، وتوسيع آفاق التعاون في مجالات التجارة والطاقة والاستثمار، في إطار يهدف إلى تحرير الاقتصادات المحلية ودمجها في السوق العالمي.
وترى الاستراتيجية أن المنطقة تضم فرصًا مهمة للمشاركة الأمريكية في تسوية النزاعات القائمة -مثل الأزمات بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، وبين السودان ودول الجوار، والصراعات الممتدة في إثيوبيا وإريتريا والصومال- وهو ما يستدعي مقاربة تجمع بين الضغط الدبلوماسي والانخراط الاقتصادي.
وفي البعد الأمني، تحذر الوثيقة من استمرار أو تجدد النشاط الإرهابي الإسلامي في أجزاء من القرن الإفريقي، مشددة على أهمية منع تحوله إلى تهديد طويل الأمد قد يستدعي وجودًا عسكريًا أمريكيًا أكبر. لذلك تدعو الاستراتيجية إلى بناء منظومات أمنية محلية قادرة على إدارة المخاطر الإقليمية دون الاعتماد الكامل على التدخل الخارجي.
وتولي الاستراتيجية اهتمامًا خاصًا بقطاعات واعدة مثل الطاقة، والتعدين، وتطوير المعامل الحيوية، والبتروكيماويات، وتكنولوجيا الغاز الطبيعي، حيث ترى في هذه القطاعات فرصًا استثمارية تُحقق أرباحًا للشركات الأمريكية وتساعد في تعزيز القدرة التنافسية تجاه القوى الدولية الأخرى التي تتوسع في إفريقيا. وبهذا المنظور، تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة صياغة وجودها في شرق إفريقيا بالاعتماد على نموذج يقوم على الشراكة الاقتصادية والاستثمار بدلًا من نموذج المساعدات التقليدي، بما يعزز الاستقرار ويتيح نفوذًا أمريكيًا طويل المدى في واحدة من أكثر المناطق ديناميكية في القارة.
ثانيا: العرض النقدي
يهدف هذا المحور النقدي إلى تقديم تقييم متوازن لاستراتيجية ترامب، من خلال تحليل الطابع الشخصي للوثيقة، قدرتها على التنفيذ، الانحيازات الإيديولوجية الضمنية، جدوى السياسات الاقتصادية، وتعاملها مع النزاعات الدولية والاستثمار في المناطق الفقيرة. ويتيح هذا التحليل فهمًا أعمق لمدى قدرة الاستراتيجية على الصمود في بيئة دولية متغيرة:-
1- الطابع الشخصي للاستراتيجية
تعكس استراتيجية الأمن القومي في عهد ترامب طابعًا شخصيًا واضحًا، كأنها امتداد لرؤية ترامب الفردية وشخصيته. حيث يظهر ذلك في تركيزها على أولويات محددة وفق منظور “أمريكا أولً”، وفي أسلوب التعامل الحازم مع الحلفاء والمنافسين على حد سواء. كما أن الاستراتيجية ليست مجرد وثيقة تحليلية موضوعية، بل تحمل بصمة ترامب في معالجة التهديدات وتقييم المخاطر، وهو ما يجعلها وثيقة أقل حيادًا وأكثر انعكاسًا لتوجهات الإدارة الأمريكية تحت قيادته الشخصية.
كما يبدو الطابع الشخصي أيضًا في اختيار النغمة والأسلوب في الوثيقة، حيث تميل اللغة إلى التأكيد على القوة الأمريكية والقدرة على فرض المصالح، مع تجاهل بعض التحليلات الدقيقة للتداعيات طويلة المدى للسياسات المعتمدة.
وهذا النهج يجعل الاستراتيجية مباشرة وسهلة الفهم، لكنه يثير مخاوف بشأن الاستدامة، إذ أن التوجهات الفردية قد تتغير مع أي تبدل في القيادة، مما يقلل من الطابع المؤسسي المستقر للسياسة الأمريكية.
2- احتمالات التنفيذ والتحديات السياسية
تواجه استراتيجية الأمن القومي احتمالات متفاوتة للتنفيذ، إذ تعتمد بشكل كبير على الاستقرار السياسي واستمرار القيادة ذاتها، وهو ما يجعلها عرضة للتغيرات المفاجئة مع أي انتخابات قادمة أو تبدل في السلطة.
كما أن بعض السياسات والإجراءات المقترحة تحتاج إلى دعم تشريعي واسع أو توافق مع أجهزة الدولة المختلفة، وهو أمر غير مضمون خاصة في ظل ترقب الانتخابات النصفية أو أي تغيير في توازن القوى داخل الكونجرس.
بالإضافة إلى ذلك، تعتمد بعض خطوات ترامب على قرارات تنفيذية قوية، مثل فرض الرسوم الجمركية أو تعديل السياسات التجارية لتعزيز رؤيته الاقتصادية، إلا أن هذه القرارات غالبًا ما تنتظر مراجعة القضاء أو مواجهات قانونية قد تؤخر أو تعدل مسار تنفيذها.
وهذا يعني أن الاستراتيجية، رغم وضوح أولوياتها، تبقى في بعض جوانبها نظرية أو قابلة للتعديل حسب التغيرات السياسية والاقتصادية، مما يثير التساؤل حول مدى استدامتها وفعاليتها على المدى الطويل.
3- التناقض بين الحياد المعلن والميل الإيديولوجي
على الرغم من أن استراتيجية الأمن القومي تصف نهج إدارة ترامب بأنه غير مؤدلج وموضوعي، إلا أن الوثيقة تكشف عن تناقض واضح في هذا الطرح. فعلى سبيل المثال، تصف الاستراتيجية تقريبًا يعبر عن تفاؤلها بصعود التيارات القومية والشعبوية في أوروبا، معتبرة أن هذه الحركة تمثل فرصة لتعزيز استقلالية الدولة الوطنية الأوروبية.
هذا التفاؤل يشير إلى ميل إيديولوجي ضمني، إذ يعتمد على قيم سياسية معينة ويعطي وزنًا لأجندات قومية معينة، وهو ما يتناقض مع الادعاء الرسمي بعدم الانحياز الإيديولوجي.
ويعكس هذا التناقض التوتر بين الرغبة في تقديم الاستراتيجية كوثيقة تحليلية محايدة وبين الواقع العملي لتوجيه السياسة وفق رؤى ترامب ومعتقداته الخاصة، مما يجعل جزءًا من الاستراتيجية متأثرًا بالتقديرات الشخصية والتفضيلات الإيديولوجية، بدلًا من أن يكون قائمًا على تقييم موضوعي شامل.
4- تجاهل روسيا كتهديد مباشر
تظهر استراتيجية الأمن القومي في عهد ترامب ميلًا واضحًا لتقليل التركيز على روسيا كتهديد مباشر للأمن القومي الأمريكي، على الرغم من النشاطات العسكرية والسياسية الروسية المتزايدة في أوروبا. وبدلاً من أن تعتبر روسيا منافسًا استراتيجيًا يجب مواجهته بشكل مباشر، تُحيل الوثيقة المسؤولية الأساسية إلى الدول الأوروبية نفسها، مع اقتصار دور الولايات المتحدة على التدخل كوسيط أو داعم داخل حلف الناتو.
وهذا التوجه يثير تساؤلات حول الواقعية الاستراتيجية للاستراتيجية، إذ يقلل من قدرة واشنطن على فرض نفوذها بشكل فعال في مواجهة النفوذ الروسي المتنامي، ويعتمد على توقع أن تتحمل الحلفاء الأوروبيون العبء الأكبر في مواجهة المخاطر. كما أن هذا النهج قد يضعف الردع الأمريكي ويخلق فجوات محتملة يمكن لروسيا استغلالها لتعزيز موقعها الجيوسياسي، وهو ما قد يأخذه البعض بأن ثمة محدودية في الرؤية لدى الإدارة الحالية في تقييم التهديدات العالمية مقارنة بالنهج التقليدي الشامل الذي تتبناه الإدارات السابقة.
5- التناقض في السياسة تجاه الهند
تدعو استراتيجية الأمن القومي إلى تعزيز التعاون مع الهند باعتبارها قوة آسيوية صاعدة وقادرة على المساهمة في مواجهة النفوذ الصيني، وهو توجه يعكس اهتمام الإدارة الأمريكية بتطوير شبكة تحالفات قوية ومستدامة في المنطقة الآسيوية.
حيث تبرز الوثيقة الهند كشريك محوري لإعادة التوازن في الإقليم، مع التأكيد على أهمية تعزيز العلاقات العسكرية، التقنية، والدبلوماسية لتعزيز القدرة الأمريكية على مواجهة تحديات صعود الصين.
مع ذلك، أظهرت السياسات التجارية لإدارة ترامب مثل فرض الرسوم الجمركية والقيود التجارية على السلع الهندية أن العلاقة بين واشنطن ونيودلهي تعرضت لضغوط كبيرة وأدت إلى إضعاف الثقة الاقتصادية المتبادلة.
وهذه القرارات الاقتصادية تتعارض جزئيًا مع الرؤية الاستراتيجية التي تعتمد على الهند كشريك قوي، مما يوضح أن تنفيذ أهداف الاستراتيجية يحتاج إلى تماسك بين السياسة الاقتصادية والسياسة الجيوسياسية، وهو أمر لم يتحقق حتى الآن.
6- التحول من دور المنظر الديمقراطي إلى الشراكة القائمة على المصالح
تعكس استراتيجية الأمن القومي تحولًا واضحًا في طبيعة دور الولايات المتحدة على الساحة الدولية، من كونها داعية للديمقراطية ومرجعًا للقيم الليبرالية إلى دولة تسعى لعلاقات قائمة على المصالح المتبادلة.
حيث تؤكد الاستراتيجية أن التعاون مع الدول الأخرى يجب أن يقوم على الفوائد العملية المشتركة، مع احترام خصوصية كل مجتمع وثقافة، دون فرض قيم أو أنماط سياسية معينة.
وهذا التحول يحمل إيجابيات من حيث الواقعية والفعالية، إذ يسمح لأمريكا بالتركيز على مصالحها الاستراتيجية المباشرة، ويقلل من التدخل المفرط في شؤون الدول الأخرى.
لكنه في الوقت نفسه يمثل تحديًا، لأنه يقلل من القدرة الأمريكية على تشكيل النظام الدولي وفقًا لمبادئها التقليدية، ويضعف من دورها القيادي في نشر القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
علاوة على ذلك، قد يثير هذا التوجه انتقادات من شركاء تقليديين يتوقعون التزام أمريكا بدور قيادي أخلاقي، ما قد يؤدي إلى توترات في التحالفات القائمة.
7- السلام غير المكتمل
تتفاخر استراتيجية الأمن القومي في عهد ترامب بالإنجازات المتعلقة بالسلام، مشيرة إلى أن الإدارة نجحت في إنهاء ثمانية صراعات خلال ثمانية أشهر فقط. وهذا الطرح يعطي صورة سريعة عن الفعالية والنجاح في معالجة النزاعات الدولية، ويعكس حرص الإدارة على تقديم نفسها كفاعل قادر على تحقيق نتائج ملموسة في فترة قصيرة.
ومع ذلك، يثير هذا الإنجاز تساؤلات حول مدى استدامة هذا السلام وعمقه، إذ أن إنهاء الحرب بشكل شكلي لا يعني بالضرورة معالجة جذور النزاعات أو ضمان استقرار طويل المدى.
كما أن العديد من النزاعات المعقدة تتطلب حلولًا سياسية واقتصادية واجتماعية مستمرة، وهو ما لا يظهر بوضوح في الوثيقة.
وعليه، فإن الاستراتيجية تميل أحيانًا إلى تصوير النجاحات بشكل مبسط وسريع، مع إغفال التحديات الهيكلية التي قد تعيد ظهور النزاعات نفسها في المستقبل، مما يجعل السلام المعلن غير مكتمل وقابلًا للاهتزاز تحت ضغوط الأحداث الإقليمية والدولية.
8- التحول من المساعدات إلى الاستثمار
تعكس استراتيجية الأمن القومي رؤية جديدة تجاه العالم بشكل عام، وأفريقيا على وجه الخصوص، حيث تعتبر المساعدات التقليدية غير كافية للمرحلة الراهنة، وتدعو بدلاً من ذلك إلى شراكات اقتصادية وتجارية قائمة على المنفعة المتبادلة والاستثمار في الموارد المحلية.
ويهدف هذا التوجه إلى تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة، وتوسيع النفوذ الأمريكي عبر العلاقات التجارية بدلاً من الاعتماد على التدخلات الميدانية المباشرة.
ومع ذلك، يطرح هذا النهج تساؤلات حول جدواه في دول فقيرة تواجه تحديات هيكلية كبيرة، مثل الفقر المزمن، ضعف البنية التحتية، النزاعات الداخلية، والفساد الإداري. حي أن اعتماد الاستثمار والتجارة كمحرك رئيسي للتغيير قد يحقق أرباحًا للشركات الأمريكية ويعزز النفوذ، لكنه لا يضمن بالضرورة تحسن الظروف المعيشية للسكان المحليين أو استقرارًا دائمًا.
علاوة على ذلك، تحتاج هذه المقاربة إلى إصلاحات داخلية عميقة في الدول المستقبلة للاستثمار لضمان بيئة اقتصادية جاذبة ومستدامة، وهو ما قد يكون صعب التحقيق في المدى القصير.
وعليه، فإنه على الرغم من أن التحول نحو الاستثمار يعكس طابعًا براجماتيًا للسياسة الأمريكية، إلا أن فاعليته محدودة إذا لم يترافق مع دعم مستمر للتنمية الاجتماعية والبنية التحتية، مما يجعل الاستراتيجية عرضة للنقد بشأن قدرتها على تحقيق تأثير طويل الأمد في أفريقيا.
إجمالًا
تبدو استراتيجية الأمن القومي في عهد ترامب متوافقة إلى حد كبير مع تصريحات الرئيس نفسه بحيث يمكن اعتبارها امتدادًا طبيعيًا لرؤيته ومبادئه المعروفة “أمريكا أولًا”.
كما أنه من خلال متابعة خطاباته ولقاءاته، يمكن استنتاج هذه التوجهات بسهولة، حيث تعكس الوثيقة الأسلوب الشخصي لترامب ونهجه العملي المباشر في التعامل مع التهديدات والتحالفات الدولية. و تعتمد الاستراتيجية بشكل واضح على منطق الصفقات والمصالح المتبادلة -باعتباره المنطق المهيمن على جميع أجزائها ومحاورها- وهو نهج قد يحقق مكاسب سريعة وواضحة على المدى القصير، سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي.
ومع ذلك، يطرح هذا التركيز على الصفقات أسئلة حول استدامة الاستراتيجية على المدى الطويل، إذ أن الاعتماد على مصالح فورية قد لا يضمن استقرارًا دائمًا في العلاقات الدولية أو قدرة مستمرة على مواجهة التهديدات المعقدة والمتغيرة.
وعليه، يمكن القول إن استراتيجية ترامب للأمن القومي تعكس رؤية شخصية وعملية، تقدم نتائج ملموسة بسرعة، لكنها ستواجه تحديات كبيرة في ضمان الاستمرارية والفعالية الاستراتيجية على المدى الطويل، خاصة في بيئة داخلية ودولية شديدة التعقيد.
