مقدمة
في ظل نظام عالمي كان شبه مستقر، اعتقد الكثيرون اختفاء دور الجيوش التقليدية واستبدالها بهجمات سرية، سواء في الفضاء السيبراني، أو من خلال الطائرات المسيرة، وفي نظام عالمي متشابك اِقتصاديًّا، تُصور استحالة وقوع حرب كبرى، تهدد المصالح المشتركة بين الدول، فكان من شأن الغزو الروسي لأوكرانيا، بأن يخيب كل التوقعات، ويعيد تنظيم التوازنات الدولية في النظام العالمي المتعدد الأقطاب، إضافةً إلى دخول دول العالم في دوامة من التحديات الاقتصادية؛ بسبب الأزمة الأوكرانية، والتي تؤدي إلى إرباك الأسواق العالمية وارتفاع أسعار صادرات الطاقة و السلع الأساسية والبضائع الصناعية، و ارتفاع التضخم بشكل عام في جميع الدول، الأمر الذي يؤثر بشكل سلبي على مسار التنمية العالمي.
ومن الناحية السياسية، فيمكن الجزم بأن الأزمة الأوكرانية، ستعيد تشكيل موازين القوى، وتضفي بتغيرات جوهرية على النظام العالمي، وعلى شكل التحالفات وتوازنات القوى في أفريقيا والشرق الأوسط، بالإضافة إلى تغير ات مهمة في أولويات بعض الملفات في السياسة الدولية،منها (ملف الطاقة، والأمن الغذائي، والنزوح)، في حين أن الأول والثاني من شأنهما خلق تداعيات وفرص في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، وفي هذه الورقة نحاول استقراء أهم التغيرات العالمية والإقليمية التي ستنتجها الأزمة الأوكرانية الروسية.
المحور الأول: الأزمة حجر الأساس في تغير النظام العالمي
أولًا: زوال القطبية الأحادية وإحلال نظام عالمي جديد
من بعد الحرب العالمية، وعرف العالم نظامين عالمين، الأول: الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، وهو القطبية الثنائية، بدأ بعد الحرب العالمية الثانية من 1945، إلى غاية نهاية الحرب الباردة 1989، وتميز هذا النظام ببروز قطبين متصارعين على فرض هيمنتهما ونفوذهما على العالم هما: الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الجهة المقابلة الاتحاد السوفيتي، اتصفت تلك المرحلة بأن الأطراف العالمية تسعى للحشد، وتحرص على تعبئة الدول الأعضاء غير المرتبطة بكتلة لصالح أيٍّ من القطبين.
بنهاية الحرب الباردة، حسم الصرع لصالح الولايات المتحدة؛ لنبقى أمام نظام أُحادي القطبية، تقودها الولايات المتحدة، دون وجود منافس، هذا ما أثبته الواقع، وظهرت العديد من النظريات السياسية؛ لتدعم هذا الطرح، منها ما أكّده( كينيث والتز) في ستينيات القرن الماضي، بأن الولايات المتحدة هي القطب الوحيد الذي يمتلك مصالح عالمية، بعيدًا عن التفوّق في مؤشرات القوة السكانية، الموارد الطبيعية، القدرة الاقتصادية، والقوة العسكرية، بجانب ما أضحه فوكوياما في كتابه(نهاية التاريخ)، بأن القرن الحادي والعشرين، سيكون قرنًا أمريكيًّا بامتياز.
باتهام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الغرب بتجاهل مطالبه، ورفض الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي رسميًّا مطالب تعتبرها روسيا حيوية؛ لضمان أمنها، في مقدمتها، إنهاء سياسة التوسع التي ينتهجها الحلف الأطلسي، وعودة الانتشار العسكري الغربي إلى حدود 1997، أمر غير مقبول، وبناء على هذا التهديد، حشدت روسيا الجنود على الحدود، وقامت بغزو أوكرانيا.
وبهذا الشكل، ظهر قطب جديد يرى أن يحافظ على مصالحه أمر شرعي، ومستعد على أن يحقق انتشار، ويسخر قوته الصلبة، لما يراه أنها مصالح مصيرية لدولته، هادمًا بذلك كل التوقعات السياسية، بأن استخدام القوة التقليدية والحروب النظامية أمر يكاد يختفي، لقد فاجأ الدب الروسي منافسيه، بل إن ردود فعل الدول الأوروبية والغربية بوجه عام، أتت غير قوية، وعلى نحو غير متوقع، الأمر الذي يؤكد أن قطبًا روسيًّا فرض نفسه وقادمًا لا محالة، سواء بمنافسة أمريكية، أو أوروبية، أو بكلاهما، وليعلن بذلك النواة الأولى لنظام عالمي جديد، إما ثنائي القطب، أو متعدد الأقطاب، وعلى الأرجح، سيكون متعددًا؛ ليطوي بذلك حقبة أُحادية القطبية.
ثانيًا: شكوك حول فاعلية الأمم المتحدة ومجلس الامن
نشأت الأمم المتحدة لتحقيق هدف رئيس، وهو حفظ الأمن والسلم الدوليين، فإذا اندلع قتالٌ بين قطرين أو أكثر، في أي مكان، يجوز أن يُطلَب من الأمم المتحدة التدخل ؛لمحاولة وقفه ومنع تكراره مرةً أُخرى، ويعتبر مجلس الأمن الأداء الرئيسية والقادر وحده دون أجهزة الأمم المتحدة الأُخرى على إصدار قرارات إلزامية، والفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، يسمح للمجلس أن يقرر “ما إذا كان قد وقع تهديد للسلم أو إخلال به، أو كان ما وقع عملًا من أعمال العدوان”، وأن يقدم توصيات، أو يلجأ إلى القيام بعمل غير عسكري أو عسكري؛ “لحفظ السلم والأمن الدوليين”، ومن جهة أخرى المادة 51،جاءت في الميثاق لتنص على الحق الفردي والجماعي في الدفاع عن النفس، وبموجبها، يمكن أن يمارس إذا “اعتدت قوة مسلحة” على أحد أعضاء الأمم المتحدة، وعلى الدول أن تبلّغ المجلس فورًا بالتدابير المتخذة، وأن تتوقف عن اتخاذها، حال ما يتخذ هذا الأخير الإجراءات الضرورية لحفظ السلم والأمن الدوليين.
لقد انتهك بوتين المادة 51، فأقر التحرك العسكري دون إخطار مجلس الأمن، ناهيك عن أنه ارتكب هذا الاختراق في فترة رئاسته لمجلس الأمن، من ناحية أُخرى، فنظام التصويت المتبع في مجلس الأمن، والذي يجري باتّخاذ قرارات مجلس الأمن عن طريق التصويت بالإيجاب لتسعة أعضاء، يكون من بينها أصوات الأعضاء الخمسة الدائمين متفقين.
وبما أنه لا يتمّ اتّخاذ أي قرار إذا عارضه واحدٌ من الخمسة، خصوصًا ونحن في أزمة أطرافها الأعضاء الدائمين، فتكون النتيجة الفعلية هي تعطيل فعلي لأي عمل يمكن أن يقوم به مجلس الأمن، بالتالي، أبطل هذا فاعلية مجلس الأمن، وأصبح شبه مستثنى، أما الحديث عن قرار أممي من شأنه إعادة تشكيل مجلس الأمن، فهذا أمر قد يطرح، لكنه يظل محال التحقيق، وبالتالي، هذا يطرح احتمالًا، بأن يكون هذا التقويض لجور مجلس الأمن بداية النهاية لدور الأمم المتحدة.
ثالثًا: هل يبعث حلف الناتو من جديد، أم يأفل نهائيًا؟
واحد من أسباب الصراع بين أوكرانيا وروسيا، هي رغبة الأولى في الانضمام إلى حلف الناتو، وما اعتبرته الثانية تهديدًا لأمنها، خصوصًا بعد أن صرَّح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، أن الحلف يسعى إلى تثبيت وجود عسكري طويل المدى في أوروبا الشرقية؛ لتعزيز قوته الردعية
فانضمام أوكرانيا المحتمل لحلف شمال الأطلسي، ومن بعدها جورجيا، من شأنه أن يفرض نوعًا من الحصار على روسيا، وسيكون بمثابة إعلان هزيمة وحصار روسيا مجددًا، مقابل انتصار واشنطن وحلفائها؛ لذا طالبت روسيا بالضمانات الأمنية، وبالأساس وقف توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقًا، أي منع انضمام أوكرانيا، ولذلك فإن ما يريده بوتين اليوم من منع كييف من الانضمام للناتو، هو إعادة النظر في الترتيبات المنبثقة إبان ضعف روسيا، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
تتعدد الرؤى حول تأثير الأمة على الناتو، فهناك من يرى أن الحرب أعطت الناتو قبلة الحياة، وذلك باعتبار أن الناتو الذي ارتبط بالحرب العالمية الثانية، ظهر كسبب رئيسي لتجدد الصراع بين الطرفين، وهو ما يعني على الأقل أن روسيا مازالت تأخذ في حساباتها ثقل الناتو.
لكن من ناحية أُخرى، فردود فعل الناتو حول التدخل الروسي، مازالت محدودة، فمن ناحية، لم تردع الجانب الروسي، ولم تقدم الدعم الكافي لحليفتها أوكرانيا، وهو ما بدا إحباطًا صرح به الرئيس الأوكراني علانيةً، سواء خصَّ فيه الناتو، أو دوله الأعضاء على حدة، بل بدا أن هناك إحباطًا حقيقيًّا من دول الناتو نفسها، من قدرة الناتو على أن يشكل أداة دفاع حقيقي.
ويلمس ذلك من تصريحات المستشار الألماني لتخصيص 2 % من إجمالي موارد الدولة إلى مخصصات الدفاع، وكأنه اعتراف ضمني بأن الأمن الجماعي لم يعد فعالًا، وأن الأمن يعول بكامله على مقدرات كل دولة على حدة، وهو ما يعتبره مؤشرات فعليه لتتراجع قوة الناتو، وفاعلية دوره.
ويتزامن مع هذا اهتزاز الثقة في الاتحاد الأوربي، فبعد أن خرجت بريطانيا منه، وبعد تعاقب أزمة أوكرانيا، نرى ردود فعل متباينة بين دول الاتحاد، فمنهم من يرى، أن العقوبات قد تكون كافية على الجانب الروسي، وآخر معترض على موقف الناتو، ويرى ضرورة أن يكون هناك رد عسكري، وبالنهاية بدا موقف الاتحاد الأوربي، رخويًا، غير حازم، من ناحية أُخرى، قد تتغير موازين العلاقة بين بعض أوروبا وروسيا ،فبعد أن كانت مفاهيم سياسة التوجه شرقا الألمانية أحد عوامل التأثير على السلوك الروسي،انقلبت الآية، وأصبحت روسيا تملك تأثيرًا أكبر على السلوك الألماني، هذا بدوره يصب في مزيد من التفكك لدى الاتحاد.
يعد هذا الحدث من التغيرات الإستراتيجية، والقادرة على إثبات حقيقية واحدة، أن لا وضع دائم بالسياسة الدولية، وأن الموازين قد تتبدل بين عشية وضحاها، كما يكرس لعدد من التغيرات العالمية والجوهرية ،منها، أنه لا أُحادية قطبية بعد هذه الحرب، وتراجع في مفهوم الأمن الجماعي، وضعف النظام الدولي والإقليمي في إقامة نظام دولي قادر عل احترام القانون الدولي.
المحور الثاني: كيف تٌلقي الأزمة بظلالها على المنطقة العربية؟
لا شك أن المنطقة العربية ليست بمعزل عن الأحداث التي يشهدها العالم، جراء الوضع المتأزم بين كلٍّ من “روسيا” و “أوكرانيا”، فمازال الوضع مشتعل، فعلى الرغم من بعدها الجغرافي، تفيد قراءة في خارطة المصالح التي تربط الدول العربية بأطراف الأزمة الأوكرانية، بأن تأثيرات الأزمة وتداعياتها في منطقتي شمال أفريقيا والشرق الأوسط، يمكن أن تكون أكبر بكثير من المتوقع؛ بسبب ارتباط تلك المصالح بمجالات حيوية، وفي علاقات دول المنطقة من الناحية الإستراتيجية.
فمن المؤكد، أن تلقي هذه الأزمة بظلالها على المنطقة العربية في بعض المجالات، وأهمها، استيراد الحبوب، مثل (القمح)، كما أنها تزيد من حجم الأهمية الإستراتيجية للمنطقة العربية في تصدير الطاقة وغيرها، وهو ما سيتم تناوله خلال السطور التالية:
أولًا: تزايد الاعتماد على المنطقة العربية كمصدر للطاقة
تزايد أسعار النفط: حيث بلغت 105 دولارات للبرميل، ومن الطبيعي، أن تستفيد الدول العربية المصدرة للنفط والغاز من ارتفاع السعر، فحصة الدول العربية من الصادرات النفطية على مستوى العالم تبلغ 24%، كما تشير تقديرات صندوق النقد الدولي، وفق الأسعار المعلنة أخيرًا عن ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية، عند 105 دولارات للبرميل، فمعنى هذا أن الميزانيات العربية من المتوقع أن تودع العجز، وتحقق فائضًا ماليًّا من عوائد النفط، وقد يكون بإمكانها الاستغناء عن الديون الخارجية والمحلية، كما يمكنها استعادة ما فقدته من أرصدة احتياطيات النقد الأجنبي.
وبالتالي، يتوقع أن تطالب الولايات المتحدة من الدول العربية، وعلى رأسهم الدول الخليجية في تزويد حجم الإنتاج اليومي من النفط؛ لتعويض النقص الناجم عن تراجع حجم الإنتاج الروسي، ولكن من الصعب أن تستطيع الدول العربية تعويض النقص الذي نتج عن تراجع حجم سلاسل الإمداد الروسي، وربما تستطيع المملكة العربية السعودية تلبية هذه الاحتياجات بنسبة كبيرة، ولكن طبيعة السياسة الخارجية السعودية الرشيدة تمنع من الوقوف بصف طرف على حساب الطرف الآخر، خاصةً مع تطور العلاقات الاقتصادية والسياسية مع روسيا مؤخرًا.
أما الغاز الطبيعي: فإن الجزائر توجد في مقدمة البدائل المطروحة، باعتبارها مورد غاز رئيسي لكل من إيطاليا وإسبانيا، وثالث أكبر مصدر للغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي بعد روسيا والنرويج، وهو ما يعني أنها يمكن أن تكون وسيلة للتخفيف من حدة تأثيرات أي اضطراب محتمل في إمدادات الغاز الطبيعي الروسي، ورغم أن هذا الخيار يمكن أن يوفر للجزائر عائدات كبيرة تساعدها في مواجهة العجز المالي، ويمنحها نفوذًا ديبلوماسيًّا في أوروبا، فإنه يمكن أن يؤثر سلبيًّا على علاقاتها مع حليفها التقليدي روسيا، لكن متوقع أن هذه الإجراءات ستهدد خطط تعميق علاقاتها مع موسكو، في المقابل ستتحسن علاقاتها بالغرب، قد تكون الجزائر والعراق أفضل حالًا من باقي الدول، فهما دولتان نفطيتان، ويمكنهما البحث عن بديل لاستيراد احتياجاتهما من القمح، أو الحديد، وإن كان البديل أكثر تكلفة، إلا أن الموارد من الثروة النفطية سوف تمكن هاتين الدولتين من سداد هذه الفروق.
تزايد التضخم المستورد جراء ارتفاع الطلب على النفط: وعلى صعيد آخر، فإن الدول النفطية العربية حين تستفيد من ارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية في ظل الأزمة الروسية الأوكرانية، فإنها سوف تكتوي بارتفاع معدلات التضخم المستورد، الناتج عن ارتفاع تكاليف الإنتاج؛ بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، ولأن معظم الدول النفطية العربية تعتمد اعتمادًا كبيرًا على استيراد احتياجاتها من السلع والخدمات، فسوف تدفع جزءًا كبيرًا مما حصلت عليه من ارتفاع أسعار النفط، في جانب ثمن السلع والخدمات التي تستوردها.
ثانيًا: هل يمس شرر الأزمة منطقة الخليج العربي؟
الجانب الذي قد يجعل الخليج معنيًّا أكثر بأجواء الأزمة بين الغرب وروسيا في أوكرانيا هو تحالفاته الغربية التقليدية المتعلقة بالتوجه للاستثمار في الدولة التي تقع على حدود منطقة إستراتيجية فاصلة بين نفوذ الغرب وروسيا، لدرجة شبه فيه التنازع حولها بما حدث مع ألمانيا أيام الحرب البادرة، حين انقسمت إلى شرقية وغربية، طبقًا لنفوذ المعسكرين المهيمنين قبل سقوط جدار برلين العام 1989.
حيث تمثل الاستثمارات الخليجية في أوكرانيا أقرب إلى إعانات ودعم للحكومة الأوكرانية الموالية للولايات المتحدة الأمريكية، “بضغط من واشنطن، أكثر من كونها استثمارات، يتوقع أن تكون مربحة، بل من غير المرجح، أن تحقق هذه الأموال أي أرباح، وإنما ستذهب هباءً، أن دول الخليج لا يمكنها المضي بعيدًا في نصرة القضية الأوكرانية، ولا تجاهلها بالكلية، نظير تشابك المصالح على تخوم حدودها الدولية شرقًا وغربًا، لكن الخليج ليس وحيدًا في هذا الموقف، فهناك على سبيل المثال (تركيا) التي تجمعها علاقة إستراتيجية بأوكرانيا، تجد نفسها في ظرف حرج، فلا هي تقدر على التضحية بمصالحها مع روسيا، ولا التفريط بعلاقتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة.
كل ذلك يعني أنه لا دولة من دول المنطقة، بما في ذلك الخليج، يمكنها أن تغدو بعيدًا من شرر الأزمة في أوكرانيا، وإن كان الأكثرية يتمنون ذلك، أما الأضرار المباشرة للأزمة من حيث سلاسل الإمداد والموارد الإستراتيجية، فإن معظم المواد التي تصدرها كييف إلى أصدقائها الخليجيين تتمحور حول “المواد الزراعية”، ولا تزال التطلعات إلى الاستفادة من موقع الدولة المهم في توزيع الطاقة الخليجية من النفط والغاز على أوروبا في طور التبلور، ولم تتحول بعد إلى مشاريع.
ثالثًا: التواجد الروسي في المنطقة العربية وطرح انشاء منظومات أمنية جديدة
فهل ستدفع حملات روسيا العسكرية واختراقاتها لمناطق نفوذ تقليدية لأوروبا والولايات المتحدة، القوى الغربية إلى إعادة النظر في حساباتها، وهل يقود ذلك إلى استعادة منطقة الشرق الأوسط؟
قد يبدو للوهلة الأولى، أن الأزمة الأوكرانية قد تؤدي إلى تراجع التواجد الروسي في المنطقة العربية، ولكن من الواضح أن روسيا تعتمد في سياستها الخارجية على اعتبار وجودها في الشرق الأوسط أمرًا حيويًّا لمصالحها الإستراتيجية الأوسع نطاقًا؛ حيث إن وجودها في المنطقة العربية لا يقتصر على حماية نفوذها الإستراتيجية في المنطقة فقط، بل وخلق نوعًا من التهديد الإستراتيجي، ولعل ما يؤكد ذلك، هو بناؤها للقواعد الجوية التي أنشأتها روسيا في حميميم وطرطوس في سوريا، هو الإعلان عن نوع من التهديد الإستراتيجي الموجَّه نحو الجناح الجنوبي لحلف الناتو، تخدم هذه الخطوة غرضين لروسيا، أولهما، دعم نظام الأسد في سوريا، وثانيهما، هو البعث برسالة إلى الناتو بأن روسيا تستطيع تضييق الأمور عليه ومحاصرته في الشرق الأوسط، لاسيما في ظل مخاوف موسكو العامة بشأن التوسع المحتمل للناتو في دول أوروبية أخرى، أبرزها أوكرانيا.
على العكس، فمن المتوقع أن تحاول روسيا دعم بناء منظومة أمنية في عدة مناطق في المنطقة العربية، وإعادة طرح إنشاء نظام أمني لدول الخليج، وهو مقترح بشأن “مفهوم جماعي للأمن في منطقة الخليج” الذي سبق أن اقترحته ثلاث مرات من قبل، كان آخرها في عام 2019. وينطوي هذا الاقتراح على عرض من موسكو للوساطة بين دول الخليج، وإيران.
رابعًا: تأثيرات تطال دول الجوار العربي
هل تستطيع إيران أن تصبح ورقة رابحة للجانب الروسي في الأزمة الحالية؟:بالطبع عندما نتحدث عن احتمالية حدوث أزمة إمدادات الطاقة على المستوى العالمي جراء الأزمة المشتعلة، فلا يمكننا الإغفال عما يمكن أن تقوم به إيران في هذا المشهد، فيتوقع أن تدعم الدول الغربية بمزيد من النفط مقابل تحقيق بعض المصالح من بينها (حذف “الحرس الثوري الإيراني” من لائحة المنظمات الإرهابية، وأن تعمل على رفع سقف مطالبها في مفاوضات فيينا، كما ستتوقف الهجمات التي تشنها التحالفات الدولية الغربية على الجهات التي تدعمها داخل بعض مناطق الصراع في الشرق، أو قد لا تعود مجددًا إلى مائدة التفاوض في حال رفض الولايات المتحدة الأمريكية تلبية مطالبها، فمن الممكن أن تتحالف مع روسيا ضد الولايات المتحدة الأمريكية، فإذا اجتمعت روسيا وإدارة بايدن في الاتفاق على حلٍّ للأزمة في أوكرانيا، فقد تلجأ موسكو إلى تخفيف القيود التي تكبح بها جماح إيران، أو سحبِ الضغوط التي تمارسها لدفع طهران إلى تقديم تنازلات في المحادثات النووية بفيينا.
ردود الفعل التركية تزيد من الغضب الروسي: إن التوترات بين أنقرة وموسكو قد تتفاقم؛ بسبب الخلافات المفتوحة بينهما على عدة جبهات، فقد ناصرت تركيا مطالب أوكرانيا باستعادة شبه جزيرة القرم، وعارضت ضم روسيا لها في عام 2014، والأمر الأشد إثارة لقلقِ موسكو، هو أن تركيا -العضو الدائم في حلف الناتو- تدعم عضوية أوكرانيا في الحلف، كما جاءت صفقة الطائرات المسيَّرة التركية إلى أوكرانيا؛ لتُضاعِف غضب موسكو، التي تعرف بالتأكيد أن الطائرات المسيرة التركية، سبق أن ساعدت أذربيجان في الانتصار على القوات الأرمينية في حرب ناغورنو قره باغ، العام الماضي، إضافةً إلى نجاحاتها في ليبيا وإدلب ضد سوريا، وفي الساحات الثلاث كانت الدفاعات الجوية التي فشلت أمام المسيَرات التركية هي أنظمة روسية الصنع، وأحيانًا كانت تُشغَّل من قِبَلِ الروس أو تحت إشرافهم على الأقل، ولكن في ظل الضغوط الاقتصادية الهائلة التي يتعرض لها أردوغان داخل بلاده، يُستبعد أن يقدِم على خطوات قد تثير عداوة روسيا.
إسرائيل ليست بعيدة عن الأزمة الأوكرانية: لقد أثارت تصريحات الجانب الإسرائيلي بخصوص الأزمة الأوكرانية حفيظة روسيا التي بدورها أعلنت عدم اعترافها بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان بسوريا، ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان القادة الروس سيكتفون بهذه الرسالة التحذيرية الأخيرة المرتبطة بمرتفعات الجولان، أو سوف يتخذون إجراءات عملية ويرسلون رسائل أكثر خطورة، مثل رفع الحظر عن استخدام الجيش السوري صواريخ S-300 ؛ لمواجهة الطائرات الحربية والصواريخ الإسرائيلية، وهناك مؤشرات تؤيد أن هذه الخطوة قد تكون وشيكة، وأحدَ مُفاجآت المرحلة المُقبلة.
بالأخير، فلا شك أن للصراع الأوكراني تداعيات لا تتوقف على الأوضاع بالشرق الأوسط والمحادثات الجارية في فيينا، وإذا كانت موسكو تُدرك أن عواقب فشل المفاوضات في فيينا قد تكون فادحة، فإنها قد تواصل إقناع طهران بالتنازل عن بعض مطالبها، لكن إذا احتدم الوضع في أوكرانيا، فإن روسيا قد تتنازل عن رغبتها في دفع إيران نحو التوصل إلى حل وسط، كما يبدو أن الخلاصة، هي أنه حتى وإن لم تعد الولايات المتحدة تمتلك نفوذها السابق في منطقة الشرق الأوسط، فإن مسار العلاقات (الأمريكية-الروسية) يظل حاسمًا لآفاق صنع السلام في الشرق الأوسط والمناطق المضطربة الأخرى من العالم
المحور الثالث: ملفات تتصدر اهتمام السياسة الدولية
أولًا: ملف الطاقة “أكثر الملفات اهتمامًا وتأثيرًا”
في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، سارع زعماء العالم، بقيادة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى إعلان عقوبات شديدة – مرةً أخرى – على روسيا، عن طريق الجو والبر والبحر، ومحاولة حادة في عزل روسيا عن النظام المالي العالمي. ويحدث ذلك في ظل تردد بعض الدول الأوروبية؛ تخوفًا من تأثر العقوبات على قطاع الطاقة في روسيا، فهي ثاني أكبر منتج للنفط في العالم، وبلد مسؤول عن 40 % من واردات أوروبا من الغاز الطبيعي، المستخدم في تدفئة المنازل وتزويدها بالطاقة، وكان من شأن التهديد بتعطيل إمدادات الطاقة، بالإضافة إلى اضطرابات الحرب، بأن تؤدي إلى تجاوز أسعار النفط 100 دولار للبرميل، وهو أعلى مستوى منذ عام 2014، وقد حذَّر الخبراء والمسؤولون بأن أصحاب الدخل المنخفض إلى المتوسط هم الأكثر تضررًا من أسعار البنزين والطاقة غير المسبوقة.
وربما تكون ألمانيا هي الأكثر تعرضًا للضغوط؛ لأنها تعتمد بالكامل تقريبًا على الغاز الروسي، ولكنها قد اتخذت حتى الآن الخطوة الأبرز؛ حيث أوقفت التصديق على مشروع خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” بقيمة 11 مليار دولار من روسيا، المصمم لمضاعفة تدفق الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا، والذي كان من شأنه المساعدة في خفض الأسعار.
ولكن يتعين الآن على الدول الأوروبية أن تجد بسرعة بديلًا للغاز الروسي، والبدائل الأكثر موثوقية متاحة في الشرق الأوسط أفريقيا، من خلال الدول المصدرة للنفط والغاز، فهي فرصة من المتوقع استغلالها من قبل تلك الدول في تلبية حاجة الأسواق الأوروبية، وقد بادرت الولايات المتحدة بإرسال منسق البيت الأبيض للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، (بريت ماكغورك) إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة؛ لمناقشة قدرة دول الخليج على ضخ المزيد من النفط، في محاولة لخفض الأسعار،ولكن التزمت دول الخليج باتفاقيات الإنتاج الخاصة بمجموعة “أوبك”، والتي تحافظ على وتيرة الإنتاج الحالية، وفي أعقاب طلب الولايات المتحدة من قطر بإعادة توجيه الغاز الطبيعي إلى أوروبا، صرح وزير الطاقة القطري (سعد الكعبي) أن بلاده لا تملك القدرة على استبدال إمدادات الغاز الروسي إلى الأسواق الأوروبية، وأن وحدات التخزين القطرية مقيدة حاليًا بعقود طويلة المدى مع مشترين من الدول الأسيوية، ولكن أكد الكعبي، بأنه يمكن تحويل ما يصل إلى 15 %من الكمية التي تحتاجها أوروبا.
ثانيًا: ملف الأمن الغذائي
منذ بداية التوترات الروسية الأوكرانية، برزت مخاوف تأثر أسواق القمح والغلال العالمية بشدة جراء الأزمة؛ نظرًا لأن البلدين يؤمنان نسبة كبيرة من الصادرات العالمية، المتمثلة في 29% من صادرات القمح العالمية، و19% من صادرات الذرة، و80% من الصادرات العالمية لزيت دوار الشمس، فسيعتمد الارتفاع المحتمل في أسعار تلك السلع الغذائية على حجم الاضطراب بين البلدين، وتوقف الملاحة في موانئ البحر الأسود، وطول الفترة الزمنية التي ستتأثر فيها التجارة بشكل عام، وبالنسبة للدول في الشرق الأوسط وأفريقيا فهم الأكثر اعتمادًا على واردات السلع الغذائية من البلدين، و على المدى القريب، من المحتمل، أن ترى البلدان التأثير من خلال ارتفاع الأسعار، بدلًا من النقص الفعلي في السلع، فإن البلدان الأخرى المصدرة للقمح مثل )كندا وأستراليا والولايات المتحدة( ستستفيد من زيادة الأسعار في تلبية حاجة دول الشرق الأوسط وأفريقيا.
وتعد لبنان من الدول الأكثر تأثرًا بالأزمة الغذائية؛ حيث إنها لا تمتلك سعةً تخزينيةً للقمح والسلع الغذائية إلا لمدة شهر واحد، وذلك جراء انفجار أغلبية المخازن في ميناء بيروت لعام 2020، وعلى الرغم من حساسية الموقف اللبناني، فإن صرخة الإغاثة تأتي من اليمن؛ حيث حذَّر برنامج الأغذية العالمي، من أن الأزمة الأوكرانية ستؤدي إلى زيادة أسعار الوقود والغذاء في اليمن الذي مزّقته الحرب؛ ما قد يدفع المزيد من السكان إلى المجاعة في ظل تراجع تمويل المساعدات الإنسانية، فإن الأزمة الأوكرانية لا تهدد بتعطيل المساعدات الإنسانية فحسب، بل تهدد أيضًا الدعم العسكري ودعم حفظ السلام في كلٍّ من الشرق الأوسط و القارة الأفريقية.
وفي مصر، أكبر البلاد العربية سكانًا وأكثر دول الشرق الأوسط استيرادًا للقمح بنسبة40 % من احتياجاتها من روسيا وأوكرانيا، فإن هناك تحركات متعددة المحاور لحل الأزمة، من بينها التوسع المحلي في زراعات القمح، وتنويع الواردات، إضافةً إلى وجود احتياط غذائي كبير؛ ما يزيد حالة الاطمئنان أن الإنتاج المحلي للبلاد يكفي لإنتاج الخبز اليومي.
ومن خلال قراءة ملفي الطاقة و الأمن الغذائي، يمكن القول: إن على الدول الغربية إعادة برمجة علاقتها مع دول الشرق الأوسط وأفريقيا التي اتبعت سياسة متوازنة ومتنوعة في التحالفات والعلاقات الخارجية، فمن ناحية، هي غير مجبرة على تلبية المطالب الأمريكية والأوروبية في مقاطعة روسيا، أو ضخ المزيد من النفط لمحاولة خفض الأسعار، وزيادة الصادرات للأسواق الأوروبية، ومن ناحية أخرى، تجمع روسيا وأغلبية دول الشرق الأوسط وأفريقيا علاقات تجارية ضخمة، من ضمنها السلع الغذائية الأساسية، بالإضافة إلى اعتمادها على الإمدادات العسكرية الروسية.
ثالثًا: ملف المساعدات الإنسانية
انتشرت في وسائل الإعلام مؤخرًا صورًا تعبر عن تدهور الوضع الإنساني عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، من دمار للمنشآت المدنية، إلى وقوع مصابين جراء الغارات الجوية، و أفاد مكتب (مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان) بوقوع ما لا يقل عن 240 ضحية من المدنيين، بما في ذلك 64 قتيلًا و 176 جريحًا في جميع أنحاء البلاد؛ بسبب الهجمات الجوية والبرية الروسية، ووفقًا للتقارير الأولية (للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين)، فإن عدد النازحين داخليًّا وصل إلى 160،000 شخص، وأن أكثر من 116،000 شخص قد أُجبروا على الفرار عبر الحدود إلى الدول الأوروبية المجاورة، التي استعطفت و رحبت باللاجئين بشكل وضع تساؤلات حول ازدواجية المعايير الأوروبية في التعامل مع أزمة النازحين السوريين سابقًا، برغم امتثال الأوضاع الإنسانية القاسية لكلٍّ من اللاجئين السوريين و الأوكرانيين، وتعليقًا على هذه الازدواجية، أعرب الاتحاد الأفريقي عن قلقة تجاه تقارير تفيد بحرمان المواطنين الأفارقة في أوكرانيا من “حق العبور إلى بر الأمان” في وضع ناجم عن العنصرية، مؤكدًا بأن يجب أن يتمتع جميع الأشخاص بالحق في عبور الحدود الدولية أثناء النزاع في أوكرانيا بغض النظر عن جنسياتهم أو هوياتهم العرقية”
رابعًا: السيناريوهات
من المتغيرات الحالية للأزمة الأوكرانية، يمكن استنباط ثلاثة سيناريوهات للفترة القادمة:
اللجوء للردع النووي: على الرغم من وضع الرئيس الروسي (فلاديمير بوتن) لقواته النووية في حالة تأهب، إلا أن الخيار النووي يبقى بعيد المدى، فقد تلاشى الرعب النووي على مدار السنوات في ظل انهيار نظرية حافة الهاوية التي كانت في أوج الحرب الباردة، من ثم فإن القدرات النووية أصبحت تساهم أكثر في تصنيف قوة الدول الممتلكة لها بشكل أكبر من كونها وسيلة فعالة للردع النووي.
جمود الأوضاع واستمرار الصراع بوتيرته الحالية: في حال استمرار الوضع الحالي كما هو عليه، فإن ذلك من شأنه أن يزيد عزلة روسيا السياسية والاقتصادية؛ ما يؤدي إلى تغيير صريح في موازنات القوى العالمية ومعاملاتها، فتصبح روسيا ممثلة للقوى الخشنة التي ترفض الالتزام بقواعد الأمن والسلام الدوليين والقوانين الدولية، وقد ينتج على ذلك إنشاء تحالفات بين روسيا ودول مماثلة في المجالات العسكرية والاقتصادية؛ فتخلق تكتلات معادية للغرب.
الحل الدبلوماسي: السيناريو الأكثر احتمالية هو الوصول إلى حل دبلوماسي بين روسيا و أوكرانيا، من خلال مساعي الوساطة بين البلدين في مينسك، و الذي قد ينتج عنه تسوية سياسية للأزمة، و تأتي المفاوضات في إطار حاجة الجميع للخروج من هذه الأزمة العالمية، نحو آفاق حل السلام وحقن الدماء، وإن كانت روسيا جادة لإنجاح المفاوضات عليها الاعتراف بسيادة أوكرانيا على أراضيها، والرجوع لاتفاقيات مينسك حول مشكلة “إقليم دونباس”، والشرط الأساسي لكييف سيكون السحب الفوري للقوات الروسية من أوكرانيا، وإعلان وقف الحرب عليها، فمن الممكن في سبيل التوصل لحل سلمي ووقف الحرب، أن توافق كييف على إعلان نفسها دولة حيادية عسكريًّا ما بين روسيا وحلف الشمال الأطلسي، و تكبح طموحها في الانضمام الاتحاد الأوروبي، و تعمل على توطيد حد أدنى للعلاقات بين البلدين.