تُثير التحركات التي يجريها السياسيون السوريون، مع نظرائهم العرب، الكثير من التساؤلات حول حجم التغيرات الطارئة بالعلاقات العربية السورية، وشكل المشهد السوري، وإمكانية حدوث تغييرات بشكل التحالفات الإقليمية والعربية بالداخل السوري، وهل تعود العلاقات الدبلوماسية بين سوريا وباقي الدول العربية؟ ومن ثم عودتها للجامعة العربية.
جاءت تلك التحركات بشكل كثيف ومتتابع، بفترة زمنية قصيرة نسبيًّا، وعلى مستوى كبار المسؤولين، وبالتحديد منذ ما يقل عن عام، تهدف التحركات إعادة سوريا لمقعدها بالجامعة العربية؛ ما يمهد بالتبعية لتغيرات بالسياسات المحركة للمشهد السوري، وإمكانية حدوثها من عدمه.
أولًا: تحركات مكثفة على مستوى كبار السياسيين
بدأت إثارة ملف رجوع سوريا بين الدول العربية تزامنًا مع آخر انتخابات للأمين العام للجامعة، وبدا هذا الملف واحدًا من محددات اختيار مرشحي الجامعة العربية، ثم توالت كثافة التفاعلات بين السياسيين السوريين، وبين الأطراف العربية، وكان أبرزها ما يلي:
لقاء رئيس جهاز الاستخبارات السوري مع نظيره السعودي:
على هامش “المنتدى العربي الاستخباراتي” الذي عُقد باجتماع مدير إدارة المخابرات العامة السورية، حسام لوقا، مع رئيس المخابرات السعودية، خالد الحميدان بمصر، حيث انتشرت صور تجمع المسؤولين باجتماع رسمي، بدا ثنائيًّا، لكن تأكد أن الصورة مُجزَّأة، وأن الصورة الكاملة التُقطت أثناء جلسة عامة، وتوزيع المقاعد أتى بهذا الترتيب، وليست للقاء ثنائي.
وبالتوقيت ذاته، استقبل الرئيس السوري، بشار الأسد، 9 نوفمبر وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي، عبد الله بن زايد آل نهيان، بأول زيارة لمسؤول إماراتي رفيع منذ بدء الأزمة السورية قبل أكثر من 10 سنوات، ناقشا فيها العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين، وتطوير التعاون الثنائي بمختلف المجالات ذات الاهتمام المشترك، وتكثيف الجهود لاستكشاف آفاق جديدة لهذا التعاون، وبهذه الزيارة أخذت الإمارات العلاقة بين البلدين لمستوى أعلى من التعاون، بعد عودة التمثيل الدبلوماسي بين الطرفين بعام 2018.
وبوقت سابق، اجتمع وزير الخارجية المصري، سامح شكري، مع نظيره السوري، فيصل المقداد، في سبتمبر 2021، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويُعدُّ الاجتماع الأعلى من نوعه بين وزيري خارجية البلدين.
ودلالات هذه الزيارات، وما يرتبط بها من مضامين، تكمن بمجيئها بمستوى عالٍ من المسؤولين، سواء وزراء الخارجية، أو مع الرئيس السوري، أو على مستوى رؤساء الاستخبارات، وهم الجهات الأساسية المحركة للمشهد السوري، المشكلة لسياسته، كما توضح إقبالًا كبيرًا من النظام السوري بالاتجاه العربي، بمواجهة تواجد القوى الإقليمية والدولية المختلفة.
ثانيًا: دول عربية تقبل بشكل مشروط، وأخرى تتحفظ
تباينت ردود الأفعال العربية، بين تعليقات صريحة، وأُخرى ضمنية من الموقف حول عودة العلاقات الدبلوماسية بالمحيط العربي، وتمثيلها بالجامعة العربية، ويمكن تقسيم ردود الأفعال بين مؤيد، وموافق مع بعض التحفظات والشروط، وثالث رافض وقد أتت كما يلي:
الإمارات والجزائر يدعون للعودة بلا شروط: طرحت الجزائر إعادة ضم سوريا للجامعة، ومؤخرًا أعاد وزير خارجية الجزائر رمضان لعمامرة دعوته بعودة سوريا للجامعة العربية، دون تحفظات أو تدخل بسياساتها وفيمن يحكمها، وأبدى استعداده لتقريب وجهات النظر بين الإخوة العرب بالقمة العربية والتحلي بقسط من الواقعية، ويُصرُّ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بعودة سوريا للقمة العربية بالجزائر.
وتقف بالاتجاه ذاته الإمارات، وبدأت منذ وقت طويل بعودة العلاقات الدبلوماسية، كما أشرنا، فضلًا عن تجديد وزير خارجيتها – أثناء زيارته- الدعوة للدول العربية لقبول سوريا بمحيطها العربي، كما تأخذ لبنان والسودان والجزائر والعراق الاتجاه ذاته، وطالبت بإلغاء تعليق العضوية.
أُخرى متحفظة: بالاتجاه المتحفظ، يأتي آخر من الدول ذات الثقل، على رأسها مصر والسعودية والأردن، وتأتي ردود أفعال هذه الدول بالتحفظ الصريح على دعوات إعادة التمثيل الرسمي الدبلوماسي، وكذلك العودة للجامعة، ويلخص الموقف المصري إجابة وزير الخارجية المصري – بوقت سابق- على سؤال طرحه أحد النواب عن أسباب عدم عودة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، اعتبر شكري أن الأمر به بعض التعقيد، وأن مصر تأمل بعودة سوريا لمحيطها العربي، لكن ما تعرض له الشعب السوري من كوارث ونزوح، يضع قيودًا على تحركات الإقليم تجاه دمشق، وهو الموقف الذي يعيد وزير الخارجية المصري التأكيد عليه دائمًا.
هذا الأمر يعني أن مصر ليس لديها مشكلات من حيث المبدأ مع عودة العلاقات مع النظام السوري، لكن على النظام السوري أن يكون ارتباطه الأقوى متعلق بالجانب العربي، أكثر من التعاون الإيراني والروسي، هذ ا من ناحية، ومن ناحية أخرى يعني أن تعامل النظام السوري مع الداخل السوري بحاجة لتغيير، خصوصًا فيما يتعلق بمعالجة الأزمات الإنسانية التي تسبب فيها، الملف الأخير يُعدُّ المحرك الرئيسي بالتقارب أو استمرار الوضع على ما هو عليه.
وتقف الأردن مع مصر بالاتجاه ذاته، رغم الاتصال الهاتفي الذي أُجري مؤخرًا بين العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني وبين رئيس النظام السوري بشار الأسد، في أكتوبر الماضي، وجملة الزيارات المكوكية التي قام بها وزراء ومسؤولون سوريون إلى عمان، بينهم قائد جيش النظام العماد علي أيوب، وكذلك عودة شركة الخطوط الجوية الملكية الأردنية لتسيير رحلاتها لنقل الركاب بين عمان ودمشق، ورغم ذلك يؤكد وزير الخارجية الأردني، لا توجد أي خطط باتجاه زيارة سوريا قريبًا، وأن تحركات الأردن تأتي لإيجاد تحرك فاعل باتجاه الأزمة السورية، وانضم وزير الخارجية السعودي لنظيريه المصري والأردني، مؤكدًا أن عودة العلاقات مع سوريا، مشروطة بإبعاد إيران كليًّا عن الداخل السوري.
وثالثة رافضة: وتأتي الأُخرى من التعامل مع الملف السوري، دولة قطر الذي أكد وزير خارجيتها “محمد عبد الرحمن آل ثاني” أن قطر لن تُطبِّع مع النظام السوري، لتؤكد عدم الإجماع العربي، بشأن عودة سوريا للجامعة العربية، وهناك دول عربية أُخرى لديها وجهة النظر ذاتها.
ثالثًا: هل أصبح التوقيت ملائمًا “محفزات عودة العلاقات”
لا شك أن اعتراض ومقاطعة الدول العربية لسوريا بمطلع عام 2011؛ احتجاجًا لممارسات النظام السوري، لكن التنسيق الأمني والاستخباراتي لم ينقطع بين سوريا والدول العربية، وتتمثل محفزات عودة العلاقات فيما يلي:
السياسية الأمريكية تجاه سوريا:
تُعدُّ واحدًا من محركات التعامل مع الملف السوري واختلاف سياسة بايدن عن سياسة سابقه – دونالد ترامب- وقد ساعد الأخير بسياسته بتأخير أي خطوات تجاه سوريا، ولم يكن معروفًا – حتى وقت قريب- موقف الإدارة الأمريكية الجديدة، وما إذا كان جو بايدن سيكمل سياسة سلفه أم لا ؟.
وبظل الحرص العربي لعلاقات متوازنة مع الولايات المتحدة، تبعد اتخاذ خطوات استباقية قبل معرفة واضحة لملامح الموقف الأمريكي الجديد، وقد بدا من موقف الإدارة الأمريكية الجديدة، أن تحريك المشهد بسوريا وربطه بالخروج الإيراني لم يعد ضمن أولوياتها.
من ناحية أخرى، فإن استمرار نظام الأسد وتمسكه بالبقاء على سدة الحكم، وطريقته بالتعامل مع الفصائل السورية المختلفة، بالغُ التكلفة، وضرر بقائه بالحكم – بهذا الشكل- على الداخل السوري والمحيط العربي والإقليمي، أكثر من نفعه، خصوصًا بالاعتماد على حلفاء ووساطات تهدد أمن عدد من دول المنطقة، على رأسهم دول الخليج والعراق؛ لذا قد يأتي التفاهم معه كمحاولة أخيرة لتحجيم الخسائر الناتجة عن تلك التحالفات.
رابعًا: تغيرات تطرأ على التفاعلات الإقليمية والعربية بالملف السوري
لا شك أن الحراك الذي يمهد له الملف السوري، خصوصًا بظل الإقبال غير المشروط من الدول العربية، سيؤدي لتغيرات بطبيعة التفاعلات القائمة بالمحيط العربي والإقليمي والدولي بالملف السوري، وفيما يلي نشير لأهمها:
خلاف خليجي حول الموقف من النظام السوري: بظل الإقبال الإماراتي، يبدو أن هناك إدبارًا سعوديًّا من عودة العلاقات مع سوريا، فالسعودية تربط عودة علاقاتها مع سوريا – بشكل مباشر- بإبعاد إيران، وبالوقت ذاته تُظهر ممارسات إيران على أنها حزمة واحدة، سواء من حيث تواجدها باليمن ودعم الحوثيين، أو في لبنان عبر حزب الله؛ ما يجعل السعودية لا تجد مكاسب مستحقة من عودة العلاقات مع سوريا، للحد الذي يدفعها لتقديم التنازلات، وهو عكس الموقف الإماراتي.
تعاون عربي سوري بالملفات الاقتصادية: بالجهة الأُخرى، يرجح أن المرحلة القادمة تعاون مع سوريا بعدد من الملفات الاقتصادية، منها المتعلق بتوفير الطاقة، كأنبوب الغاز العربي عبر سوريا من مصر والأردن إلى لبنان، وإقامة الإمارات محطة كهرباء بالطاقة الشمسية، وهو ما أُعلن عنه بالفعل، وقد ينضم إليهم دول أخرى، أو تتسع رقعة التعاون.
توتر إيراني سوري: يظل النظام السوري حائرًا بين أمرين، الأولى الحفاظ على التحالف والشراكة التي أبقته على سدة الحكم طويلًا، وبين تطلعات العودة للوسط العربي، والحظوة بشرعية عربية تدعم بقاءه بالحكم، وحسم الصراع الداخلي لصالحه، لكن إذا أراد النظام السوري تحقيق التقارب العربي، سيضطر للتقليص من مساحات ومزايا الحليف الإيراني؛ ما يضع الجانب السوري بين ضغط من الجانبين.
خامسًا: سيناريوهات المشهد
يمكن القول: إن عودة سوريا لمحيطها العربي مجددًا.. يقف أمام عدد من السيناريوهات منها ما يلي:
ضمها بأقرب وقت: وهذا السيناريو يستند للتحركات الدبلوماسية المكثفة التي يجريها الجانب السوري مؤخرًا، والدعم الذي يحظى به من بعض الدول العربية، وهذا سيناريو مستبعد إذا ما قارنا عدد الدول العربية الموافق على ضمها بشكل غير مشروط، بباقي الدول التي وضعت بعض الشروط أو اعترضت، وكذلك التأثير الذي تمتلكه بعض الدول بمسألة الموافقة.
استبعاد ضمها للجامعة العربية: ويرجح هذا السيناريو بقاء الوضع على ما هو عليه، واعتبار النظام السوري، لم يقدم ما يدفع للقبول به، بل إن التفاهم معه بهذا الوقت قد يمثل دعمًا لموقف إيران، ويستند هذا السيناريو على الترحيب الإيراني بزيارة وزير خارجية الإمارات لـ(الأسد)، وقولها: إنه اعتراف بشرعية الأسد، وبالرغم من رجاحة هذه الحجة، إلا أن هناك عددًا – بالنهاية- غير قليل، يبدي انفتاحًا بعودة العلاقات، وآخر يبدي استعدادًا؛ ما يجعل هذا السيناريو مستبعدًا.
التمهيد التدريجي للعلاقات السورية مع محيطها العربي: وهذا السيناريو يتوقع استمرار اللقاءات بين المسؤولين بتعزيز العلاقات بالسبل الاقتصادية المختلفة؛ لتفعيل أرضية قبول تدريجي للتعامل مع النظام السوري؛ تمهيدًا لقبوله سياسيًّا، وهذا السيناريو مرجح؛ استنادًا بالقبول المبدئي الذي حظيت به.
إجمالًا يمكن القول: إن الملف السوري من أكثر الملفات تعقيدًا بالمنطقة العربية؛ لتعدد أطراف الصراع بالداخل السوري؛ ما يجعل إعادة تشكيله وتوجيهه، وإحداث تغيرات فيه، وتوفيق أوضاع ومصالح الأطراف العربية بين بعضهم، أمرًا يستغرق وقتًا من المفاوضات، لكن يظل غير مستبعد، كما يرجح نجاح المجهودات العربية تدريجيًا، بإعادة سوريا للمحيط العربي، لكنه سيستغرق وقتًا طويلًا، ومجهودات سياسية مكثفة بين الأطراف المختلفة، قد يتم التمهيد لهذه المجهودات، بإطار من التعاون الاقتصادي.