إعداد: ميار هانى
باحثة فى الشأن الدولى
شهد البحر الأحمر، منذ منتصف نوفمبر 2023، توترات متزايدة مع تهديد ميليشيا الحوثى اليمنية حرية الملاحة البحرية على خلفية التصعيد الإسرائيلى فى غزة، ما أدى إلى تحويل أسرع طريق بحرى يربط آسيا بأوروبا عبر قناة السويس إلى طريق غير آمن، وإجبار سفن الشحن على تنويع طرقهم التجارية من خلال العبور لفترة أطول حول رأس الرجاء الصالح الأطول والأكثر تكلفة، وهو ما كان له تداعيات كبيرة على التجارة العالمية منذ وباء كورونا، وتهديد للمصالح الجيوستراتيجية والجيواقتصادية لدول العالم بشكل عام، وللهند بشكل خاص.
وبالتالى تطرح الاضطرابات المتزايدة التى تشهدها المنطقة مجموعة من التساؤلات حول مدى تأثيرها على المصالح الهندية، وتفسير الدوافع الكامنة وراء موقف الهند من أزمة البحر الأحمر، وذلك على النحو التالى:
الـمـصـالـح الـهـنـديـة
تسببت التوترات المتزايدة فى منطقة البحر الأحمر فى تهديد مصالح الهند بعدة طرق، وذلك على النحو التالى:
أولًا – التأثير على أمن السفن البحرية الهندية:
أعلن الحوثيون فى البداية مهاجمة السفن ذات الروابط المباشرة مع إسرائيل، إلا أنهم طوروا هجماتهم باستهداف سفن الدول التى اعتبروها “تقدم الدعم” لإسرائيل، وعلى الرغم من موقف الهند الرسمى المحايد بشأن الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، إلا أنها انجذبت بشكل مباشر إلى الأزمة لتمتعها بعلاقات قوية مع إسرائيل، وذلك باختطاف الحوثيون سفينة تجارية متجهة إلى “بيبافاف”، فى ولاية كجرات الهندية. وتعرض سفينة “MV Chem Pluto” الراسية فى ميناء مانجالور لهجوم بقذيفة، بالإضافة إلى تعرض سفينة ترفع علم الجابون وعلى متنها طاقم هندى لهجمات باستخدام الطائرات المسيرة على بعد 200 ميل بحرى فقط قبالة الساحل الهندى.
ثانيًا – تعطيل طرق التجارة الحيوية:
تعتمد الهند بشكل كبير على هذا الطريق فى تجارتها مع أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا، ولتجنب الهجمات البحرية من قبل الحوثيين، قالت العديد من خطوط الشحن إنها تحول سفنها بعيدًا عن البحر الأحمر، فوفقًا للاتحاد الهندى لمنظمات التصدير الهندية، فإن ما يقرب من 90 فى المائة من شحنات نصف الكرة الغربى، سواء الواردة أو المشحونة من الهند، يتم الآن إعادة توجيهها إلى الطرف الجنوبى من إفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح، وبالتالى زيادة مسافات الرحلات وجعل الخدمات اللوجستية أكثر تكلفة.
ثالثًا – التداعيات السلبية على التجارة الهندية:
قد أشار تقييم تم إجراؤه من قِبل مركز الأبحاث RISDC ومقره نيودلهى، إلى أن ارتفاع تكاليف الشحن والتأخير فى وصول الشحنات قد يقلل من صادرات الهند بنسبة 6.9 فى المائة يكلف الهند حوالى 30 مليار دولار فى السنة المالية الحالية، وفيما يتعلق بالتجارة الخارجية بين الهند وأوروبا، ارتفع متوسط أسعار العقود قصيرة الأجل من ميناء JNPT إلى روتردام إلى 3750 دولارا لكل حاوية 40 قدمًا، من 650 دولارًا، بزيادة قدرها 477 فى المائة بين نهاية يناير 2023 إلى نهاية يناير 2024، كما ارتفعت الأسعار للشحنات من روتردام إلى غرب الهند إلى 3750 دولارًا من 1050 دولارًا، وارتفع متوسط الأسعار فى يناير لشحنات الحاويات 40 قدمًا من غرب الهند إلى الساحل الشرقى للولايات المتحدة (نيويورك) إلى 4650 دولارًا ، من 1900 دولار فى ديسمبر 2023، بالنسبة للشحنات الهندية إلى الساحل الغربى للولايات المتحدة (لوس أنجلوس)، تصل الأسعار الآن إلى 4150 دولارًا من 1900 دولار.
ويشير تقرير صادر عن مبادرة أبحاث التجارة العالمية الهندية GTRI، إلى أن صادرات الهند تتصارع مع الارتفاع الكبير فى تكاليف الشحن؛ فيما يتعلق بالقطاع الزراعى، يواجه مصدرو الأرز البسمتى تكاليف شحن تمثل زيادة بنسبة 233 فى المائة، كما وضع تأخير وصول الشحنات تحديات أمام المزارعين والمصدرين للسلع القابلة للتلف مثل العنب. وفيما يتعلق بالقطاع الصناعى، تأثرت صناعة الأدوية الهندية بسبب التأخير فى توريد الأدوية المنقذة للحياة، مما يعرض الإمدادات الطبية الأساسية للخطر، كما أثار تأخير صادرات صناعة الصلب إلى الشرق الأوسط وأوروبا المخاوف بشأن إلغاء محتمل للطلبيات، فضلًا عن تأثر قطاع صناعة السيارات الهندى نتيجة لزيادة تكاليف الشحن للمواد الخام المستوردة مثل المعادن والزجاج والمطاط وتأخير تسليم المكونات الحيوية كأجزاء المحرك وأشباه الموصلات والإطارات.
رابعًا – الآثار السلبية لزيادة أسعار النفط:
تعتمد الهند بشكل رئيسى على الواردات لتلبية احتياجاتها، التى تصل إلى أكثر من 80 فى المائة، من الموارد البترولية، والتى شهدت ارتفاعًا بنسبة 9.4 فى المائة فى 2022-23، كما بلغت فى 2021-22 زيادة قدرها 31 فى المائة، فضلًا عن الطلب المتزايد على المنتجات البترولية، ومع ارتفاع حدة الاضطرابات الجيوسياسية بمنطقة الشرق الأوسط الغنية بالمصادر البترولية، تزداد المخاوف من ارتفاع أسعار النفط العالمية فى أعقاب التهديدات المستمرة من الحوثيين؛ إذ ارتفع خام برنت، بعد قيام الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة بعمل عسكرى ضد الحوثيين فى اليمن، ليتخطى حاجز الـ 80 دولارًا للبرميل، وذلك قبل تراجعه مرة أخرى إلى مستويات الـ78 دولارًا للبرميل خلال وقتنا الحالى. وبالتالى، فى حال طال أمد الصراع فى المنطقة، سيلقى بظلاله على أسعار النفط العالمية، ومن ثم تضرر الاقتصاد الهندى.
وتُجدر الإشارة إلى أن أزمة البحر الأحمر لم تؤثر على واردات النفط من روسيا، أكبر مورد للنفط الخام للهند فى عام 2023 والتى استحوذت على حصة سوقية تبلغ حوالى 35 فى المائة، إذ لم تتعرض إمدادات الطاقة الروسية إلى آسيا فى البحر الأحمر لأى هجمات من قبل الحوثيين، كونها حليفًا لإيران، وبالتالى يستمر تدفق النفط للهند دون عوائق.
نـهـج مُـتـوازن
كان رد الهند على الأوضاع الأمنية المضطربة فى البحر الأحمر مُتعدد الأوجه، وهو ما يمكن إيجازه على النحو التالي:
أولًا – اللجوء إلى الدبلوماسية:
سلطت الهند الضوء، خلال زيارة وزير الخارجية الهندى إلى إيران فى 15 يناير المُنصرم، على التوترات المتزايدة التى تهدد حرية الملاحة البحرية فى البحر الأحمر، مع ذكر مخاوف الهند بشأن بعض الهجمات وتأثيرها المباشر على مصالحها الحيوية، وتأكيدها أن هذا الوضع الأمنى المضطرب ليس فى صالح أى طرف، ووفقًا لبيان صحفى صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، قبل الزيارة، أجرى وزير الخارجية جايشانكار مكالمة هاتفية مع نظيره الأمريكى أنتونى بلينكن، حيث أعرب الجانبان عن “مخاوف مشتركة بشأن هجمات الحوثيين المتهورة فى جنوب البحر الأحمر وخليج عدن”.
وبالتالى تعبر تلك الدبلوماسية عن “توازن نيودلهى” المنشود بين إيران والولايات المتحدة، كما شكلت الأوضاع فى البحر الأحمر جزءًا من المناقشات بين رئيس الوزراء مودى والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، خلال زيارته الرسمية إلى الهند يومى 25 و26 يناير.
ثانيًا – زيادة التواجد البحرى فى المنطقة:
استجابت البحرية الهندية للوضع المضطرب وسريع التطور بالمنطقة، من خلال زيادة مستويات القوة المنتشرة فى وسط / شمال بحر العرب، بما فى ذلك طائرات المراقبة دون طيار وطائرات الدوريات والدوريات البحرية وسفن مدمرة الصواريخ الموجهة والفرقاطات، لتعزيز جهود المراقبة البحرية للمنطقة الاقتصادية الخالصة للهند، إلى جانب عمل البحرية الهندية بالتنسيق مع خفر السواحل والوكالات البحرية الوطنية لمراقبة الوضع العام عن كثب، بالإضافة إلى إجراء واحدة من أكبر المناورات فى بحر العرب، فى 10 يناير المُنصرم، والتى شملت عمليات حاملتين وتنسيق نشر أكثر من 35 طائرة.
ثالثًا – النأى عن أى مبادرة متعددة الأطراف:
امتنعت الهند عن الانضمام إلى التحالف الذى تقوده الولايات المتحدة الأمريكية “عملية حارس الازدهار” المتعددة الجنسيات، والذى أعلن إنشاؤه فى 18 ديسمبر 2023 لتعزيز الأمن البحرى على وجه التحديد فى منطقة البحر الأحمر، وذلك على الرغم من دعوة من الولايات المتحدة، وهو ما أثار ردود فعل معارضة لموقف الهند السلبى، باعتبارها بحاجة إلى المشاركة فى الجهود المبذولة لحماية الممر الملاحى، بما فى ذلك العمل مع الولايات المتحدة ودول أخرى، لتوفير استجابة فعالة. ولكن من الناحية الأخرى، أرسلت الهند مجموعة من السفن البحرية إلى المنطقة بمبادرة منها، ونأت بنفسها عن المظلة الأمريكية.
رابعًا – إعادة رسم مسارات التجارة الهندية:
فى انعكاس لمخاوف الهند بشأن الأزمة المستمرة على تجارتها، اتخذت عدة خطوات فى هذا الصدد للتخفيف من تداعيات الأزمة على مصالحها فى المنطقة، وقد شمل ذلك إعادة توجيه السفن عبر طريق رأس رجاء الصالح، وتشديد الإجراءات الأمنية، وإنشاء وزارة التجارة مجموعة إستراتيجية داخلية، لمناقشة القضايا العالمية التى تؤثر على تجارة البلاد على أساس يومى وإعداد إستراتيجية لاستجابة هندية سريعة وحاسمة.
وخلاصة القول:
يعد رد الهند على تهديدات المجال البحرى هو رد مُتوازن، تعتمد فيه نيوديلهى نهج الانتظار والمراقبة، لتحقيق تقييمًا دقيقا للوضع المتطور، مما يتيح الوقت والمجال للرد بطريقة تسمح لها بتعظيم مصالحها الخاصة. وأخيرًا، تأتى أزمة البحر الأحمر كتذكير بأن المرونة البراغماتية من المرجح أن تبقى سمة من سمات نهج السياسة الهندية تجاه منطقة الشرق الأوسط.