المقالات
مؤتمر COP 30 في البرازيل: كيف تُصيغ الصراعات الإقليمية أجندة المفاوضات المناخية؟
- نوفمبر 22, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية

إعداد/ دينا إيهاب دومه
باحث مساعد في وحدة شؤون الشرق الأوسط
إنعقدت قمة المناخ COP30 في مدينة بيلم البرازيلية خلال الفترة من 10 إلى 21 نوفمبر 2025 [1]، في سياقٍ دوليٍ يتسمُ بتصاعدٍ غير مسبوقٍ في الاضطرابات الجيوسياسية وتراجع فعالية الحوكمة البيئية مُتعددة الأطراف، إذ يأتي المُؤتمر بينما يشهدُ النظامُ الدولي تداعياتِ الحرب على غزة واستمرار الحرب في السودان بالإضافة إلى التوترات الدولية مثل الحرب الروسية الأوكرانية، بما يُعيد ترتيب أولويات المجتمع الدولي ويؤثّر في قدرة الدول على الالتزام بمسارات التحول الأخضر وفق اتفاق باريس، وتتعاظم حساسية هذه الدورة مع غياب الولايات المتحدة الأميركية عن المُشاركةِ لأول مرةٍ مُنذ ثلاث عقود، وهو تطور يُحدث فراغًا في الهيكلة القيادية للمفاوضات المناخية، حيث سرعان ما سعت الصين إلى ملئه عبر حضورٍ دبلوماسيٍ واستراتيجيٍ واسعٍ يعكسُ طموحَها في إعادة تشكيل منظومة العمل المُناخي العالمي، وتكتسب قمة المُناخ وزنًا مُضاعفًا بانعقادها في قلب الأمازون، باعتباره أحدَ أهم النُظمِ البيئية وأكثرها هشاشةً وعُرضةً للخطر المُناخي في الوقت ذاته، وهو ما يفرض الحاجة المُلحة والاستجابة المُنسّقة لمُواجهة التدهور البيئي المُتسارع.
وفي خضم هذا المشهد المُضطرب، يبرز الحضور المصري بوصفه حضورًا استراتيجيًا يسعى إلى الحفاظ على زخم العدالة المناخية الذي طُرح منذ استضافة شرم الشيخ، وإلى إعادة توجيه النقاش نحو مسؤوليات الشمال في التمويل والدعم، واحتياجات الجنوب الملحّة للتكيف وبناء اقتصاداتٍ قادرةٍ على الصمود، وفي هذا السياق، يأتي هذا التقرير لتحليل هذه الديناميكيات وتقييم أثرها على مسار أجندة العمل المناخي، بوصفها نموذجًا واضحًا للتفاعل بين المناخ والقضايا الجيوسياسية في مرحلةٍ تتداخل فيها الأزمات البيئية مع تحولات النظام الدولي.
أولًا: سياق انعقاد قمة المناخ COP 30
أطلقَ الرئيس البرازيلي “لولا دا سيلفا” على قمة المناخ وصف “مؤتمر الحقيقة” أو ما يُسمى The COP of truth” “[2]، حيث يُمثل إقرارًا ضمنيًا بالإخفاق المُتواتر في تحقيق الالتزامات المُناخية الدولية بالتزامن مع استمرار الحروب والصراعات الإقليمية والدولية، وذلك على النحو الآتي:
ملف المناخ في قلب الاضطراب الدولي: جاءت قمة المناخ COP30 بالبرازيل في لحظةٍ استثنائيةٍ تتقاطع فيها التحولات البيئية مع اشتداد التوترات الجيوسياسية والاقتصادية على نحو غير مسبوقٍ، فالعالمُ يشهد موجاتِ حرٍّ قياسية، وحرائقَ غاباتٍ واسعة، وفيضاناتٍ مدمرة، وهو ما رفع منسوب الضغط الدولي على الحكومات للانتقال من مرحلة التعهدات الخطابية إلى تبنّي آلياتٍ تنفيذيةٍ صارمة تعيد الاعتبار لجدوى العمل المُناخي مُتعدد الأطراف، وفي الوقت ذاته، يتزامن انعقاد القمة مع استمرار الحرب في غزة وتداعياتها الإقليمية المتسارعة، واتساع دائرة الصراع في السودان، إلى جانب توتراتٍ تمتد عبر الشرق الأوسط والقرن الإفريقي وأوروبا الشرقية وفي مقدمتهم الحربُ الروسية-الأوكرانية وتأثيرُها على منظومة الطاقة العالمية، وهو ما يضع ملف المُناخ داخل سياقٍ مُتشابك تتنافس فيه الأولويات الأمنية والاقتصادية مع متطلبات التحول الأخضر.
انعقاد في قلب الأمازون كرمز بيئي ومسؤولية دولية: تكتسبُ القمة أهميةً مُضاعفةً بانعقادها في مدينة بيلم الواقعة على مشارف غابات الأمازون[3]، إحدى أهم نقاط التحول المناخي على مستوى العالم، فالأمازون ليست مجردَ غابةٍ، بل منظومةٌ بيئيةٌ مركزيةٌ لامتصاص الكربون وتنظيم المناخ العالمي، وقد شهدت في السنوات الأخيرة تصاعدًا خطيرًا في مُعدّلات إزالة الغابات بسبب توسّع الأنشطة الزراعية الضخمة، خصوصًا تربية الماشية وزراعة فول الصويا، إلى جانب التعدين غير القانوني وعمليات قطع الأخشاب المدفوعة بشبكات الجريمة البيئية. هذا التدهورُ أقربُ إلى اختبارٍ مصيريٍ لقدرة المجتمع الدولي على حماية النظم البيئية الحرجة ومنْعِ تحول الأمازون إلى نقطة انهيار بيئي قد تترك آثارًا عالمية لا يُمكن تفاديها.
غياب الولايات المتحدة الأميركية وملء الفراغ بالحضور الصيني: شكّل غياب الولايات المتحدة الأميركية عن مؤتمر COP30 لأول مرة مُنذ ثلاثة عقود تطورًا بالغ الدلالة في هندسة الحوكمة المناخية، فغياب أحد أبرز مُمولي العمل المناخي وفاعليه التاريخيين ترك فراغًا واضحًا في قيادة مفاوضات المناخ، سرعان ما سارعت الصين إلى ملئه عبر حضورٍ استراتيجيٍ لافتٍ. فقد احتل الجناح الصيني موقعًا رئيسيًا إلى جوار الجناح البرازيلي، وقدّمت شركاتٌ كبرى مثل CATL عروضًا متقدمةً في مجالات البطاريات والطاقة المُتجددة. وأكدت بكين عبر مسؤوليها أنها باتت «القوة الدافعة للتقنيات الخضراء منخفضة التكلفة في الجنوب العالمي»، وهو ما أثنى عليه رئيس المُؤتمر والرئيس التنفيذي لـ COP30 في دلالةٍ واضحةٍ على انتقال مركز الثِقَل التِقَني داخل منظومة المناخ الدولية[4]، وبهذا، تحول المُؤتمر إلى ساحة تكشف بوضوح عن صراع النفوذ التكنولوجي بين القوى الكبرى، وانزياح كفّة القيادة المناخية نحو الشرق.
توتر بين الشمال والجنوب وإعادة تقييم لآليات الحوكمة المناخية: جاء ت انعقادُ قمة المناخ لهذا العام في ظل أزمة ثقةٍ عميقة بين دول الشمال والجنوب، نتيجة إخفاق الدول الصناعية في الوفاء الكامل بالتزاماتها المالية تجاه دعم الانتقال الأخضر في الدول النامية. هذا الخللُ ساهم في تعميق الفجوة بين وعود خفض الانبعاثات والممارسات الفعلية، مما جعل هذه القمة محطةً مركزيةً لمراجعة فعالية آليات الحوكمة المناخية الأممية، وتقييم قدرة الأمم المتحدة على ضمان إطارٍ تفاوضيٍ عادلٍ وفعالٍ. وتزداد أهمية هذه المراجعة مع اشتداد التنافس الدولي على موارد الطاقة النظيفة وسلاسل القيمة المرتبطة بالهيدروجين الأخضر، المعادن النادرة، والتقنيات منخفضة الكربون، ما يجعل قضية التمويل المناخي محورًا لا يقل أهميةً عن خفض الانبعاثات نفسها.
ثانيًا: ديناميكيات الأولويات التفاوضية المناخية
مثّلت قضايا التمويل المناخي المحور الجوهري وإحدى القضايا الرئيسية والأكثر تعقيدًا في COP30 وقد تركزت المُناقشات حول الهدف الجماعي الكمي NCQG الذي تمّ وضعهُ العام الماضي ومساعي تفعيله لسدّ الفجوة الهائلة بين التعهدات والاحتياجات الفعلية للدول النامية، وذلك على النحو الآتي:
خارطة طريق باكو-بيليم ومُعضلة التمويل: بعد مفاوضاتٍ COP29 في باكو العام الماضي، اتفقت الدول على هدفٍ جماعٍي كمّيٍ جديدٍ يقضي بتعبئة ما لا يقل عن 300 مليار دولار سنويًا بحلول عام 2035 لصالح الدول النامية، مع السعي الطموح للوصول إلى 1.3 تريليون دولار سنوياً على مدى الفترة ذاتها، ومع ذلك، أدى هدف الـ 300 مليار دولار إلى إضعاف ثقة الدول النامية في المسار المناخي، حيث اعتُبر أقل بكثير من الاحتياجات الحقيقية المُقدرة[5]، ومن هنا انبثقت خارطةُ طريق باكو-بيليم، وهي مُبادرةٌ مُشتركةٌ بين رئاستي COP29 وCOP30 تهدف إلى وضْعِ خطةِ عمل تفصيليةٍ لكيفية تحقيق الهدف الأعلى البالغ 1.3 تريليون دولار سنويًا بحلول عام 2035، لذلك وفي محاولة لتجاوز المعوقات المالية، تم التركيز فيCOP30 هذا العام على الآليات المُبتكرة للتمويل، وقد دعا “سيمون ستيل”، الأمين التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، إلى استخدام مبتَكرٍ لآليات الأسهم والضمانات، وبشكل خاص مبادلات الديون مقابل المناخ debt-for-climate swaps التي يمكن أن تفتح ما يصل إلى 100 مليار دولار للبلدان النامية. [6]
صراع الجودة والكمية: لا يقتصر الخلاف على حجم التمويل NCQG بل يمتد إلى نوعيته، حيث لازالت تُطالب دولُ الجنوب العالمي، المُمثّلة بمجموعة الـ 77 والصين، بأن يكون التمويل المناخي المقدّمَ من الدول المتقدمة “جديدًا، وإضافيًا، وقائمًا على المنح” Grant-based ويهدف هذا الإصرار إلى تجنّب تفاقم أعباء الديون غير المستدامة بالفعل، في المُقابل، تُولي الدول المُتقدمة اهتمامًا كبيرًا بتعبئة رأس المال الخاص، باستخدام الأموال العامة المحدودة لجذْبٌ الاستثمار الخاص على نطاقٍ واسعٍ في أنشطة التخفيف والتكيف. ويثير هذا التركيز قلق الدول النامية بشأن نوعية التمويل والمخاطر المترتبة على الديون. في هذا السياق، تُطالب المجموعة العربية بوضوح بتمكين برنامج تنفيذ التكنولوجيا لتعزيز التقنيات الناشئة مثل احتجاز الكربون وتخزينه، ويُعتبر هذا المطلبُ مُؤشرًا على الترابط الوثيق بين التمويل والتكنولوجيا؛ حيث تستخدم المجموعة العربية الاحتياجات الباهظة التكلفة لتقنيات التخفيف للضغط على الدول المتقدمة لتقديم آلياتٍ واضحةٍ لتمويل التكنولوجيا، مما يربط بشكلٍ مباشرٍ مناقشات الانتقال بعيداً عن الوقود الأحفوري بمسألة التمويل العادل.
تمويل التكيف كورقة تفاوض Adaptation Finance as Leverage : تصدرت قضايا التكيف أجندة الجنوب العالمي، خاصةً القارة الأفريقية، التي تواجه بالفعل خسائر تقدر بـ 5-15% من ناتجها المحلي الإجمالي سنويًا جراء الآثار المناخية، فبينما تحتاج القارة إلى 52-88 مليار دولار سنوياً للتكيف بحلول عام 2030، فإنها لا تتلقى حالياً سوى أقل من 11 مليار دولار، مما يخلقُ فجوةً تمويليةً هائلةً. وقد وظفت المجموعات التفاوضية من الجنوب العالمي، بما في ذلك المجموعة الأفريقية والمجموعة العربية، مفاوضاتِ الهدف العالمي للتكيف GGA كورقة ضغطٍ قويةٍ. فعلى الرغم من أن فِرقَ العمل أمضت عامين في محاولة وضع قائمة بمؤشرات التكيف، فقد طالبت هذه المجموعات بمزيدٍ من الوقت لمُناقشة مُؤشرات وسائل التنفيذ، مما أدى إلى تعليق المُناقشات وبقاء النص التفاوضي برمّته داخل الأقواس[7]، وهذا يُمثل تسيسًا للمسار الفني لضمان بقاء قضية التمويل على رأس الأولويات التفاوضية، كما طالبت المجموعات بوضعِ أهدافٍ كميةٍ محددة لتمويل التكيف، حيث اقترحت المجموعة العربية 150 مليار دولار سنويًا بحلول 2030، بينما طالبت أقل البلدان نمواً بـ 120 مليار دولار، وهذه الأرقام تأتي في ظل إخفاق الدول المانحة في تحقيق هدفها السابق بتقديم 40 مليار دولار سنويًا للتكيف بحلول هذا العام.[8]
ثالثًا: الدور الاستراتيجي لمصر في COP 30
تطلعت مصر بدورٍ محوريٍ في مفاوضات COP30 مُستفيدة من إرث استضافتها لمؤتمر COP27 لتعزيز أجندة الجنوب العالمي، ويُمكن إجمال المشاركة المصرية في قمة المناخ لهذا العام فيما يلي:
إرث شرم الشيخ وتفعيل صندوق الخسائر والأضرار :LDFبصفتها الدولة التي شهدتْ الاتفاق على إنشاء صندوق الخسائر والأضرار في شرم الشيخ عام 2022 ، فإن مصرَ هي ضامنٌ أساسيٌ لنجاح تفعيله بالكامل، وقد دعت وزيرة البيئة “منال عوض” إلى ضرورة ضخّ موارد جديدةٍ قائمة على المنح في الصندوق لتجنّب إضافة أعباء جديدةٍ على ديون الدول النامية، لقد اكتسبت المطالبات بتمويل الخسائر والأضرار زخمًا مُتزايدًا في COP30 مع بدء تفعيل الصندوق وتلقي مُقترحات التمويل لأول مرة[9]، وتكمن الأهمية الجيوسياسية للدور المصري في أن صندوق الخسائر والأضرار قد التزم بتقديم الدعم للدول النامية المتأثرة بالهشاشة والصراعات، بما في ذلك البيئات المتأثرة بالنزاع FCAS وهذا يمنحُ القاهرة سلطةً أخلاقيةً ودبلوماسيةً لمراقبة وتوجيه كيفية وصول التمويل إلى المناطق المنكوبة إقليميًا مثل غزة والسودان. وبذلك، تعملُ مصرُ كـضامنٍ للعدالة المناخية في مناطق النزاع، رافعة مكانتها الدبلوماسية كدولةٍ قادرةٍ على ربط نتائج المفاوضات بالإغاثة الإنسانية وإعادة الإعمار الأخضر.
التنسيق بين المجموعتين الأفريقية والعربية ودفع أجندة التكيف :تؤكد مصر باستمرار على مواءمة موقفها التفاوضي مع مواقف المجموعتين الأفريقية والعربية. ويشملُ هذا التنسيقُ الإصرارَ على مبدأ المسؤوليات المشتركة والمتباينة CBDR والحق في التنمية المستدامة، لقد شدّدت مصر على أن التكيف مع تغير المناخ يمثّل “أولويةً وجوديةً للقارة الأفريقية”، خاصةً في مواجهة الجفاف ونُدرة المياه وارتفاع منسوب سطح البحر، وفي إطار التنسيق مع المجموعة العربية، دعّمت مصر مقترحاتٍ طالبت بإنشاء ترتيباتٍ لتقاسم أعباء التمويل المناخي بين الدول المتقدمة، وبوضعِ منهجياتٍ مُحاسبيةٍ واضحةٍ لقياس التمويل المناخي[10]، بالإضافة إلى ذلك، تلتزم مصر بالمبادرات المُتعلقة بالعمل المناخي غير المباشر، مثل الانضمام إلى مبادرة خطة تسريع الحلول التي تركّز على بدائل البلاستيك.
ريادة التمويل المبتكر (نموذج منصة NWFE ): حيث دعت مصر، على لسان وزيرة التخطيط الدكتورة رانيا المشاط، إلى “التمويل العادل” وضرورةِ توسيع نطاق آليات التمويل المبتكر مثل مبادلات الديون[11]، وقد قدّمت مصر منصتها الوطنية الرابط بين المياه والغذاء والطاقة كنموذجٍ رائدٍ لآليةِ تنسيقٍ وطنيةٍ تعمل على حشد التمويل الميسر من الشركاء الدوليين وتحفيز مُشاركة القطاع الخاص، ويُظهر هذا التكتيك المزدوج لمصر، الذي يوازن بين الإصرار على الموقف التفاوضي الصارم وتقديم حلول عمليةٍ للتمويل المناخي من خلال رؤيةٍ استراتيجيةٍ متكاملة، فمنصة NWFE نجحت في حشد 4.5 مليار دولار من التمويل المُيسر للقطاع الخاص لتمويل مشاريع طاقة متجددة بسعة 5.2 جيجاوات. هذا النجاح العملي يُمكّن مصر من تجاوز الجمود المُحتمل في مُفاوضات NCQG إذا لم يتمْ تأمين المنحِ الكافية، كما تظهر التوجّهات الوطنية المصرية التزامًا راسخًا بالتحول الأخضر، حيث تستهدف خطة التنمية الاجتماعية والاقتصادية للعام القادم زيادة الاستثمارات في المشاريع الخضراء إلى 55% من إجمالي الاستثمارات العامة، مع تخصيص 36% من هذه الاستثمارات لأنشطة التكيف[12].
رابعًا: تداعيات حرب غزة والسودان على أجندة المناخ
تُعد الأزمات الجيوسياسية، وفي مُقدمتها الحربُ في غزة السودان، بمثابة قوةٍ طاردةٍ تهدد بتقويض مصداقية قمة المناخCOP 30 وتحويل الموارد الحيوية والمالية بعيدًا عن العمل المناخي طويل الأجل، ولقد ظهرت تداعيات الحرب في غزة والسودان على المفاوضات المناخية من خلال ما يلي:
بالنسبة لحرب غزة
من الإبادة البشرية إلى الإبادة البيئية ككارثة مناخية مباشرة: إن التداعياتِ البيئيةَ للعمليات العسكرية في غزة، تتجاوز الخسائر البشرية لتصلَ إلى مستوى الإبادة البيئية (Ecocide)، ويُمكن تفسير ذلك في عاملين رئيسيين؛ أولاً، البصمةُ الكربونية الهائلة، حيث قامت إسرائيل بإلقاء أكثر من 100 ألف طن من القنابل، وهو حجمٌ يولّد بصمةً كربونيةً مُركزةً تتجاوز الانبعاثات السنوية للعديد من الدول، هذا التفجير المكثف يمثّل ضخاً هائلاً ومفاجئاً لغازات الاحتباس الحراري إلى الغلاف الجوي، مما يسرّع من ظاهرة الاحترار العالمي ويتعارض مع الأهداف المعلنة لمؤتمرات الأطراف (COPs) لخفض الانبعاثات. ثانيًا، التلوثُ طويل الأمد وتدمير النظم الإيكولوجية، حيث أدى استخدام مواد حربية معينة، مثل اليورانيوم المستنفد والفسفور الأبيض والمعادن الثقيلة، إلى تلوثٍ واسع النطاق ومركّز للمياه الجوفية والتربة السطحية. هذا التلوثُ لا يهدد الصحة العامة فحسب، بل يخلُّ بالدورة البيوجيوكيميائية الأساسية للتربة، مما يعيق قدرتها على العمل كمصرف للكربون، كما أن تدمير 80% من الأراضي الزراعية يُمثل انهيارًا في آليات الأمن الغذائي والبيولوجي للمنطقة[13]، مما يقوض قدرة النظام البيئي على التكيف والمقاومة، هذه النتائجُ تدفعُ بقوةٍ الحجة القائلة بأن الكوارثَ البيئية التي تسببها الحروب هي جزءٌ لا يمكن تجاهله من ملفات تغير المناخ.
التقاطع النظامي بين العمليات العسكرية واستخدام الوقود الأحفوري: حيث يُمكن الربط بشكل مُباشر بين العمليات العسكرية والتواطؤ المؤسسي للشركات الكبرى التي تُصدّر الوقود الأحفوري كمحركاتٍ للظلم المناخي، حيث إن الكياناتِ التي تستفيد من الوقود الأحفوري والتدمير البيئي هي ذاتها التي تُمكّن الأعمال العسكرية. وهذا يتجلى في المطالب الموجّهة ضد شركات الطاقة والزراعة العملاقة (مثل BP، Chevron، Netafim)[14]. فبدلًا من التركيز على سياسات التخفيف والتكيف التقليدية، لا بد من الدعوة إلى حظرٍ عالميٍ للطاقة على إسرائيل والعمل على سحب الاستثمارات من الشركات المُتورطة معها.
مطالب استبعاد إسرائيل: تسييس المساءلة في حوكمة المناخ: يُمثل المطلب الداعي إلى استبعاد إسرائيل من مؤتمر COP30 أعلى درجات التسييس للملف البيئي، إن هذا المطلبَ لا يهدف فقط إلى فرض عقوبة ٍسياسيةٍ، بل هو تأكيدٌ على أن الشرعيةَ البيئية هي شرطٌ أساسيٌ للمشاركة في حوكمة المناخ العالمية، حيث ظهرت العديد من الأصوات في قمة المناخ COP 30 التي ترفض السماح لإسرائيل كدولةٍ مُتهمة بارتكاب “إبادةٍ بشريةٍ وبيئية” بالمُشاركة في مؤتمر مُخصص بالأساس لحماية البيئة باعتبار أن ذلك يُفرغ المؤتمر من أي مصداقيةٍ أخلاقيةٍ أو عملية[15]، وهو ما يعكس تنامي اتجاه داخل حركات العدالة المناخية العالمية لدمْج قضايا حقوق الإنسان والصراع ومقاومة الاستعمار في إطار العمل المناخي، مُعتبرًا أن إنهاء الحروب والصراعات الدامية هو في صميم تحقيق الأهداف المناخية.
بالنسبة لحرب السودان
فجوة التمويل الإنساني والمناخي في السودان: تتعرضُ أفريقيا بشكلٍ عام لعبءٍ مالي مُتزايد بسبب تغير المناخ، تُقدر تكلفة التكيف السنوية في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء وحدها بين 30 إلى 50 مليار دولار أمريكي خلال العقد القادم. علاوةً على ذلك، تضطر الدول الأفريقية إلى تحويل ما يصل إلى 9% من ميزانياتها السنوية للاستجابة للكوارث المناخية المُتطرفة[16]، في هذا السياق المُتوتر ماليًا، تبرزُ الحرب السودانية كعبءٍ ماليٍ إضافي هائلٍ، فالأزمة الإنسانية تتطلب تمويلًا ضخمًا وفوريًا، حيث يحتاج حوالي 25 مليون شخص في السودان إلى مساعدة إنسانية[17]، حيث إن الاحتياجات الإنسانية الطارئة في مناطق النزاع تخلق ضغطًا هائلًا على المانحين لتحويل الأموال المخصصة أصلاً للتكيف المناخي طويل الأجل أو لجهود التنمية الأخرى إلى الإغاثة الطارئة قصيرة الأجل، هذا التحويلُ، أو ما يُعرف بمخاطر “تحويل التمويل”، يعرقل بشكل مُباشر الجهود المُبذولة لبناء المرونة المناخية طويلة الأجل ليس فقط في السودان ولكن في باقي أنحاء القارة الأفريقية.
مأسسة “تقاطع المناخ والأمن” في ضوء الحرب السودانية: تُقدم حرب السودان دليلًا قاطعًا على أن الفشل في معالجة الهشاشة المناخية هو فشلٌ أمنيٌ، ولقد انعكسَ هذا الفهمُ على أجندة COP 30 من خلال الاعتراف الصريح بأن العمل المناخي هو “جزءٌ لا يتجزأ من السلام والأمن”، ومن هنا، فإن هذا الاعتراف يتطلبُ إجراءاتٍ عمليةً، منها الالتزام بدعم نشر خبراء متخصصين في الأمن والسلام والمناخ أو ما يعرفوا ب CPS officers في سياقات بعثات الأمم المتحدة والمناطق الهشة في السودان، هذا يمثّل خطوةً نحو دمج الخبرة الأمنية والبيئية في الاستجابات الدولية.
خامسًا: المخرجات الأولية لمؤتمر COP 30
أبدى عددٌ من الدول المشاركة في مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ COP 30 في بيلم، البرازيل، تهديدًا واضحًا بعزل أي قرارٍ نهائيٍ إذا لم يتم تضمين خريطة طريقٍ لوقْف الاعتماد على الوقود الأحفوري، وقد جاء ذلك وفق رسالةٍ موقّعة من حوالي 29 دولة، وفيما يلي أبرز المخرجات لقمة المناخ COP 30 [18]:
إعادة التأكيد على خطورة تجاوز عتبة 1.5 درجة مئوية :أكدت القمة، من خلال الكلمات الافتتاحية والبيانات السياسية، أن العالم يقترب بسرعةٍ من تجاوز سقف 1.5 درجة مئوية، الأمر الذي يشكّل تهديدًا مباشرًا للاستقرار البيئي والاقتصادي والأمني عالميًا. وشدد الأمين العام للأمم المتحدة على أن الإخفاق في الحفاظ على هذا السقف يمثّل فشلًا أخلاقيًا وسياسيًا قبل أن يكون تقنيًا. وبهذا أعادت القمة صياغة الخطاب الدولي حول التغير المناخي، مع التركيز على المخاطر الوجودية المرتبطة به وضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة وجذرية.
تطوير إطار شامل للحَوْكمة المناخية :أبرزت القمة اتجاهًا دوليًا نحو توسيع نطاق الحوكمة المناخية لتشملَ فاعلين غير حكوميين، مثل المدن الكبرى، والمؤسسات المالية، والجهات البحثية، والمجتمعات المحلية. وأكدت على الربط المتكامل بين العمل المناخي وقضايا الأمن الغذائي، والتنوع الحيوي، والتنمية المستدامة، بما يعكسُ التحول نحو نموذجٍ أكثر شمولاً وواقعيةً في إدارة التحول الأخضر على المستوى العالمي.
إطلاق مرفق “الغابات الاستوائية إلى الأبد” TFFF : أعلنت القمة عن إطلاق مرفق TFFF باعتباره أبرز آليات التمويل الجديدة وأكثرها طموحًا. يهدف المرفق إلى تعبئة ما يصل إلى 125 مليار دولار عبر نموذج تمويل مختلط قائم على الاستثمار طويل الأجل. ويتميز بكونه أولَ آليةٍ دوليةٍ تربط بين حماية الغابات والاعتراف بحقوق الشعوب الأصلية، مع تخصيص 20% من المدفوعات مباشرة للمجتمعات المحلية. ويُعدُ هذا التحولُ خطوةً استراتيجيةً نحو حماية الغابات كنظامٍ بيئيٍ عالميٍ يتطلب التزامًا طويل الأمد، بدل الاعتماد على المساعدات التقليدية قصيرة الأجل.
اعتماد رؤية “عقد التسريع والتنفيذ” :أكّدت القمة ضرورة الانتقال من مرحلة التعهدات إلى مرحلة التنفيذ الفعلي، مع التركيز على سدّ فجوة التنفيذ التي باتت أكبر من فجوة الطموح. وتمّ الاتفاق على تعزيز آليات المتابعة والمساءلة، وتطوير أنظمة أكثر صرامةً لقياس التقدم في خفض الانبعاثات وتمويل التكيف. ويعكس هذا الاتجاه إدراكًا دوليًا بأن مصداقية العمل المناخي تعتمد على الإجراءات العملية لا على البيانات السياسية.
تعزيز العدالة المناخية ودور الشعوب الأصلية :مثّل انعقاد القمة في الأمازون فرصةً لإبراز الدور المحوري للمجتمعات الأصلية في حماية النظم البيئية. وشهدت القمة توافقًا واسعًا على ضرورة إشراك هذه الفئات في صُنع السياسات المناخية وضمانِ حصولها على تمويلٍ عادلٍ. ويأتي هذا التوجّهُ في إطار تعزيز العدالة المناخية كأساسٍ للسياسات المستقبلية، مع الاعتراف بأهمية المعارف التقليدية في تعزيز صمود النظم البيئية.
توسيع قاعدة تمويل المناخ وإدماج القطاع المالي العالمي :أظهرت القمة تحولًا واضحًا نحو جعْل القطاع المالي العالمي طرفًا أساسيًا في تمويل العمل المناخي. وشملت المخرجات آلياتٍ جديدةً تستهدف دمج التمويل المناخي ضمن الأسواق المالية العالمية، وتقليل الاعتماد على التمويل الحكومي أو المساعدات الثنائية. ويُعد هذا التوجّه خطوةً مهمةً لضمان استدامة التدفقات المالية وتسريع تنفيذ مشاريع التكيف والتخفيف، خصوصًا في الدول النامية والأكثر عرضة للمخاطر المناخية.
ختامًا، كشف انعقاد قمة المناخ COP30 في بيلم بالبرازيل عن لحظةٍ فارقةٍ يتقاطع فيها المسار المناخي العالمي مع موجةٍ غير مسبوقةٍ من الاضطرابات الإقليمية والدولية، مُظهِرًا أن التحدي الحقيقي لا يكمُن فقط في خفْض الانبعاثات أو تأمين التمويل، بل في إعادة هندسة منظومة الحوكمة المناخية ذاتها في ظل عالمٍ مُنقسمٍ ومشحونٍ بالحروب والأزمات، فالمفاوضات المناخية التي جرت في ظل تداعيات حرب غزة والسودان وغياب الولايات المتحدة وصعود الصين، تؤكد أن المناخ لم يعدْ ملفًا بيئيًا صرفًا، بل ساحة استراتيجية تتقاطع فيها اعتبارات العدالة والتنمية والأمن والسلام. ومن ثمّ، فإن نجاح المجتمع الدولي في اجتياز المرحلة الحرجة للأزمة المناخية سيظل رهنًا بقدرته على صوغ استجابة جماعيةٍ تستوعب هذه التداخلات وتُعلي من قيمة التضامن المناخي، وذلك من خلال إرادةٍ سياسيةٍ قادرةٍ على تحويل الالتزامات المُعلنة إلى واقعٍ تنفيذيٍ.
المصادر:
[1] Information for COP 30 Participants (A-Z), UNFCCC, available at: https://unfccc.int/cop30/ifp
[2] At the United Nations General Assembly, President Lula Declares COP30 Will Be “the COP of Truth”, COP 30, published at: 24 September 2025, available at: https://cop30.br/en/news-about-cop30/at-the-united-nations-general-assembly-president-lula-declares-cop30-will-be-the-cop-of-truth
[3] COP30: Host city Belem is ‘at the heart of the issues’ and a gateway to the Amazon, France 24, published at: 6 November 2025, available at: https://www.france24.com/en/environment/20251106-cop30-host-city-belem-heart-of-the-issues-and-gateway-amazon
[4] الصين تتربع على عرش «كوب 30» وتملأ الفراغ الأميركي، صحيفة الشرق الأوسط، تاريخ النشر: ١٥ نوفمبر ٢٠٢٥، متاح على الرابط الآتي: https://2h.ae/luXYE
[5] Historic Decision in Baku: The Loss and Damage Fund fully operationalised, COP 29 Baku Azerbaijan, published at: 23 November 2024, available at: https://cop29.az/en/media-hub/news/-1732385682
[6] COP30 Bulletin Day 6: First week ends with a colourful march and much work left to do, Climate Home News, published at: 15 November 2025, available at: https://www.climatechangenews.com/2025/11/15/cop30-bulletin-day-6-adaptation-talks-held-hostage-by-finance/
[7] The era of fine speeches and good intentions is over. Brazil’s Cop30 will be about action, The Guardian, published at: 6 November 2025, available at: https://www.theguardian.com/commentisfree/2025/nov/06/brazil-cop-30-truth-world-leaders-climate-crisis-president-lula
[8] Ibid.
[9] المشاركة المصرية في مؤتمر المناخ COP 30 ، الهيئة العامة للاستعلامات، تاريخ النشر: ٨ نوفمبر ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/YHoID
[10] مصر: التكيف مع تغير المناخ يُعد أولوية وجودية للقارة الإفريقية، جريدة الدستور، تاريخ النشر: ٧ نوفمبر ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://www.dostor.org/5296888#goog_rewarded
[11] المشاركة المصرية في مؤتمر المناخ COP 30 ، مرجع سبق ذكره.
[12] مصر تحشد 4.5 مليار دولار لتمويل مشروعات طاقة متجددة ضمن برنامج “نُوفي”، Solarabic ، تاريخ النشر: ٢٠ أكتوبر ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/nhcdT
[13] Palestinian COP30 coalition demands, The Palestinian Institute for Public Diplomacy, published at: November 2025, available at: https://www.thepipd.com/statements/cop-30/
[14] Ibid.
[15] طرد الوفد الإسرائيلي من مؤتمر المناخ “COP30” بالبرازيل، RT Arabic ، تاريخ النشر: ١٤ نوفمبر ٢٠٢٥، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/WFlaV
[16] Africa faces disproportionate burden from climate change and adaptation costs, World Meteorological Organization, published at: 2 September 2025, available at: https://share.google/iavwnMzcQHw4bOQYr
[17] عبد الفتاح حامد علي، معضلة السودان: مواجهة تغير المناخ في دولة مزقتها الحرب، Middle East Council on Global Affairs ، تاريخ النشر: ٤ أبريل ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/qVzuR
[18] Cop30 draft text omits mention of fossil fuel phase-out roadmap, The Guardian, published at: 21 November 2025, available at: https://www.theguardian.com/environment/2025/nov/21/cop30-countries-threaten-block-resolution-unless-roadmap-to-fossil-fuel-phase-out