شَهِدَتْ واشنطن، في 6 نوفمبر 2025، انعقادَ قمةٍ مهمةٍ، جمعت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقادة دول آسيا الوسطى الخمس: “كازاخستان، أوزبكستان، تركمانستان، قيرغيزستان، وطاجيكستان”؛ حيث جاء هذا اللقاء في توقيت حسَّاس تُعِيدُ فيه واشنطن إعادة تموْضعها الخارجي وتوسيع نطاق انخراطها في مناطق لطالما كانت تُصنف ضمن دوائر النفوذ التقليدية لكل من الصين وروسيا، وقد مثَّلَتْ القمة محطَّةً كاشفةً لمُنْحَنى التحرُّك الأمريكي الجديد؛ حيث ركَّزَتْ المُخْرَجات المُعْلَنَة على مجموعةٍ واسعةٍ من الملفات، تمتدُّ من الطاقة والتجارة والبنية التحتية، إلى مساعٍ لتعزيز التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب وتعزيز التواصُل بين الطرفين، وصولًا إلى الإشارات السياسية ذات الدلالة، مِثْل انفتاح كازاخستان على الانضمام إلى ترتيبات اتفاقيات أبراهام، وفي ضوْء هذه المُعْطَيَات، تبدو القمة بمثابة نقطة تحوُّلٍ تُظْهِرُ رغبةً أمريكيةً واضحةً ومتجددةً في خوْض منافسةٍ مباشرةٍ مع بكين وموسكو داخل قلْب أوراسيا، وفي الوقت نفسه، تمنح دول المنطقة فرصًا جديدةً للموازنة بين القوى الكبرى وتعظيم مكاسبها الاستراتيجية:-
أولًا: خلفية القمة ودوافعها
تأتي القمة التي جمعت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقادة دول آسيا الوسطى في لحظةٍ تُعِيدُ الولايات المتحدة فيها تقييم موقعها داخل هذه المنطقة، وتُعِيدُ معها قراءة الأدوار التي لعبتها الإدارات السابقة في ترْك مناطق مهمة خارج نطاق الاهتمام الفعَّال؛ حيث تنظر الإدارة الأمريكية إلى آسيا الوسطى، باعتبارها نقطة ارتكاز استراتيجية تحتلُّ موقعًا مُتقدِّمًا في صراع القوى الكبرى، وهو الأمر الذي يدفع الإدارة الحالية إلى التحرُّك بقوة نحو إعادة تموْضع سياسي واقتصادي وأمني داخل هذه المنطقة. لكن في المقابل، وبينما تضع أمريكا أولوياتها، تتحرك دول آسيا الوسطى هي الأخرى بدوافعها الخاصَّة، ساعيةً إلى تحقيق توازنٍ جديدٍ يُتيح لها الخروج من الضغوط المتراكمة بين الصين وروسيا، ويفتح أمامها مسارات استقلال استراتيجي أكبر وأوسع.
في هذا السياق، توضيح الدوافع العامَّة لتعزيز الطرفين علاقاتهما معًا من خلال النقاط الآتية:-
1- سعْي واشنطن إلى إعادة تثبيت وجودها في منطقة تراها إدارة ترامب مهملةً لسنوات طويلة
تعمل الولايات المتحدة على إعادة بناء حضورها في آسيا الوسطى؛ لأنها ترى أن الانسحابَ النِّسْبِيَّ الذي مارسته الإدارات السابقة يفتح الباب أمام قوى منافسة لتوسيع نفوذها دون مقاومة أمريكية حقيقية؛ حيث تُحمِّلُ إدارة ترامب تحديدًا الإدارات السابقة مسؤولية ترْك السَّاحة للصين وروسيا، وهو خطاب كرَّرَهُ ترامب أكثر من مرَّةٍ، معتبرًا أن غياب واشنطن مَنَحَ خصومها هديةً مجانيةً. ومن ثَمَّ، تتحرَّكُ الإدارة الحالية لتصحيح هذا الإهمال، وتُعِيدُ رسْم سياستها تِجَاه المنطقة عبْر مزيجٍ من الحوافز الاقتصادية والرسائل الأمنية، وتعمل على بناء شراكات تعيدها لاعبًا أساسيًّا، وليس طَرَفًا يظهر فقط في قضايا مكافحة الإرهاب، ويؤدي هذا التوجُّه إلى سلسلة من الإجراءات التي تُبرز رغبة واشنطن في أن تعود إلى الطاولة قبل أن تُغلق تمامًا لصالح بكين وموسكو[1].
2- سعْي الولايات المتحدة إلى تهديد النفوذ الاقتصادي الصيني، من خلال خلق بدائل تجارية واستثمارية
تركز واشنطن في اجتماعها مع قادة آسيا الوسطى على إعادة توجيه الاقتصاد الإقليمي نحْو شراكات توسع الحضور الأمريكي، وهذا بالتبعِيَّة يعني التقليل من الارتباط الصيني، وتدرك الإدارة الأمريكية أن مبادرة الحزام والطريق جعلت الصين لاعبًا مهيْمنًا في البنية التحتية والطاقة والممرَّات البرية في المنطقة، وأن استمرار هذا الوضع يعني أن آسيا الوسطى تتحوَّلُ تدريجيًّا إلى مصرف نفوذ تستثمر فيه بكين على حساب واشنطن، ولذلك تعمل الولايات المتحدة في الاجتماع على عرْض بدائل اقتصادية وحزم تمويلية واتفاقات تجارة واستثمارات في قطاعات المعادن النادرة والطاقة والغاز والنقل، وهي القطاعات التي تعتبرها واشنطن قادرةً على إعادة صياغة المعادلة الاقتصادية الإقليمية.
3- محاولة واشنطن خلْق شبكة أمنية جديدة تحدُّ من الارتباط العسكري لدول آسيا الوسطى بروسيا
تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة ضبْط المعادلة الأمنية في آسيا الوسطى، من خلال تقديم نفسها كبديلٍ تدريجيٍّ عن الهيْمنة الرُّوسية التقليدية في المجال العسكري؛ حيث تدرك واشنطن أن روسيا تملك إرْثًا تاريخيًّا في تدريب وتسليح جيوش المنطقة، وأن منظمة الأمن الجماعي تُحوِّلُ دول آسيا الوسطى إلى حلفاء أمنيين لموسكو بحكم الأمر الواقع، ولذلك تستخدم الإدارة الأمريكية الاجتماع للضغط باتجاه تعاون أمني أكبر قد يشمل تدريب القوات، وتبادل المعلومات، ودعم مراقبة الحدود، وتطوير قدرات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، وتُظهر واشنطن نفسها باعتبارها قوة قادرة على تقديم أمن دون إملاءات سياسية، على عكس ما تراه في السلوك الروسي، وهذا التوجُّه يفتح الباب أمام واشنطن لخلْق توازُنٍ جديدٍ قد يُخفِّفُ من قُرْب دول آسيا الوسطى من موسكو.
4- محاولة الولايات المتحدة السيطرة على مصادر المعادن النادرة
تدرك واشنطن أن آسيا الوسطى تحتوي على ذخيرةٍ هائلةٍ من المعادن الاستراتيجية النادرة التي تدخل مباشرة في الصناعات العسكرية والطائرات والتكنولوجيا المتقدمة. ولذلك تركز الإدارة على بناء شراكات استخراج ومعالجة ونقْل لهذه المعادن؛ بحيث لا تقع بالكامل تحت هيْمنة الصين، وترى واشنطن أن الدخول في هذه القطاعات يضمن لها تفوُّقًا عسكريًّا وتقنيًّا لعقود، ويمنع بكين من استخدام هذه المعادن كورقة ضغط مثلما حدث في الآونة الأخيرة بين بكين وواشنطن حول هذا الأمر؛ إذ لا تزال المفاوضات جارية من أجل التوصُّل إلى اتفاق بين الجانبين[2]، ومن ثَمَّ؛ يكتسب الاجتماع قيمة مضاعفة لأنه يتيح لأمريكا فرصة تأمين المستقبل الصناعي.
5- سعْي الولايات المتحدة إلى احتواء تمدُّد إيران في آسيا الوسطى عبْر بناء كتلة إقليمية صديقة لواشنطن
تعمل واشنطن على تقليص تأثير إيران المتنامي داخل آسيا الوسطى، خصوصًا بعد أن بدأت طهران في تعزيز علاقاتها التجارية والبنية التحتية مع طاجيكستان وتركمانستان، وتوسَّعت في مشاريع النقْل التي تربطها بالقوقاز وآسيا الوسطى، وترى الإدارة الأمريكية، أن استمرار هذا التمدُّد يُمْكِنُ أن يُحوِّلَ إيران إلى لاعبٍ مؤثرٍ في معادلة الطاقة والممرَّات التجارية، وهو ما يهدد مصالح واشنطن ويعطي لطهران متنفسًا للخروج من العقوبات. ومن ثَمَّ؛ تسعى واشنطن في هذا الاجتماع إلى خلْق تواصُلٍ أعمقَ مع دول المنطقة، بما يضمن وجود بديل سياسي واقتصادي يجعل النفوذ الإيراني أقلّ تأثيرًا، ويُظهر للمنطقة أن التحالف مع الولايات المتحدة يمنحها وزْنًا أكبر من التعاون مع طهران[3].
6- رغبة الولايات المتحدة في دعم مسار “إسرائيل-آسيا الوسطى” ضمن ترتيبات إقليمية أوسع
تستخدم الإدارة الأمريكية الاجتماع كفرصةٍ لدفْع عددٍ من دول آسيا الوسطى نحو بناء علاقات منفتحة مع إسرائيل تُحْيي بها مسار اتفاقيات أبراهام المتجمدة، خاصَّةً كازاخستان وأوزبكستان، اللتان تُبْدِيان استعدادًا للتعاون في ملفات التكنولوجيا والزراعة والأمن السيبراني، وترى واشنطن أن إدْمَاج إسرائيل في هذه المنطقة يمنحها نقطة نفوذ إضافية، ويخلق شبكةً سياسيةً أوسعَ تسحب البساط من الترتيبات الصينية والروسية، ولذلك تربط الولايات المتحدة بين التعاون الإقليمي ومسار السلام الإقليمي وتُشجع دول آسيا الوسطى على الدخول في ترتيبات تجعل إسرائيل لاعبًا موثوقًا في الاقتصاد والأمن والابتكار، وهو ما تمَّ بالفِعْل؛ حيث أعلنت كازاخستان انضمامها إلى مسار الاتفاقيات الإبراهيمية[4].
7- رغبة دول آسيا الوسطى في تنويع شركائها والابتعاد عن فخِّ الهيْمنة الثنائية “الصينية – الروسية”
تتضح دوافع دول آسيا الوسطى من تعزيز علاقاتها بواشنطن؛ حيث تسعى دول المنطقة إلى الهروب من الضغوط المزدوجة التي تمارسها الصين وروسيا؛ لأن استمرار الاعتماد الكامل على هاتيْن القوتيْن يُعرِّضُها لخسارة استقلال قرارها السياسي والاقتصادي.
ومن ثَمَّ؛ تتجه هذه الدول نحو واشنطن باعتبارها شريكًا ثالثًا يمنحها مساحة أوسع للمناورة، ويخلق توازُنًا يسمح لها بالحصول على مكاسب أفضل من جميع الأطراف. وترى دول آسيا الوسطى أن أمريكا تقدم لها فرصةً لتقليل التبعية، ليس فقط اقتصاديًّا بل سياسيًّا وأمنيًّا، وتُدرك أن وجود واشنطن قد يرفع من قدرتها على التفاوض مع الصين على مشروعات البنية التحتية، ومع روسيا على شروط التعاون الأمني، ولذلك تشارك دول المنطقة في الاجتماع برغبة حقيقية في بناء علاقة لا تجعلها محاصرة بين قوتين لا تتركان لها هامشًا كافيًا للتحرُّك المستقل.
8- سعْي دول آسيا الوسطى للحصول على دعْم أمريكي يساهم في تحديث اقتصاداتها وربْطها بالأسواق العالمية
ترى دول آسيا الوسطى، أن التعاون مع الولايات المتحدة يتيح لها فرصة تطوير اقتصاد يعتمد على التكنولوجيا، والطاقة المتجددة، والمعادن الاستراتيجية، بدلًا من الاعتماد على نماذج اقتصادية قديمة مرتبطة بالصين وروسيا، وتبحث هذه الدول عن شراكات تسمح لها بالوصول إلى الأسواق الغربية، وجذْب الاستثمارات، وخلْق بيئة اقتصادية تنافسية تُسْهِمُ في تنويع اقتصاداتها التي تعتمد غالبًا على النفط والغاز والمعادن. ومن ثم تنظر دول المنطقة إلى الاجتماع، باعتباره منصَّةً تفتح أمامها بابًا جديدًا للاندماج في الاقتصاد العالمي، وتمنحها قدرة أكبر على صياغة مستقبل اقتصادي لا يكون رهينةً لتقلُّبات القوى المجاورة.
9- رغبة دول آسيا الوسطى في تجنُّب الوقوع ضمن فخِّ العقوبات نتيجة علاقتها بكل من روسيا والصين
تخشى دول آسيا الوسطى من أن استمرار ارتباطها الوثيق بروسيا، خصوصًا بعد الحرب في أوكرانيا، قد يُعرِّضُها لخطر العقوبات الغربية؛ بسبب التعامُل مع مؤسسات روسية خاضعة لعقوبات.
وفي الوقت نفسه، تخاف الدول من أن شراكاتها العميقة مع الصين قد تجعلها هدفًا لسياسات الاحتواء الأمريكي. ولذلك فإنه من الضروري اتجاه هذه الدول نحو واشنطن؛ بهدف خلْق قناة اتصال مباشرة تجنبها لاصطدام بأيِّ طرف، وتدرك حكومات آسيا الوسطى أن التوازن بين القوى هو الوسيلة الوحيدة للحفاظ على استقرارها الاقتصادي والسياسي، خصوصًا أن اقتصاداتها قد تتأثر بشدة بأيِّ توتُّر دولي.
ومن ثَمَّ؛ يمكن القول: إن هذه الدول تعتبر أن الاجتماع يُمثِّلُ فرصةً استراتيجية لحماية نفسها من موجات الصراع العالمي، من خلال بناء علاقة رسمية مع واشنطن تخفف عنها الضغوط.
10- رغبة أمريكا ودول آسيا الوسطى معًا في خلْق مخرج استراتيجي بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان
تسعى الولايات المتحدة إلى تعويض الفراغ الذي خلفه انسحابها من أفغانستان، والذي اعتبرته كثيرٌ من دول آسيا الوسطى دليلًا على تراجُع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة. ومن ثَمَّ؛ تستخدم واشنطن هذا الاجتماع لإعادة بناء الثقة، وإظهار أن الانسحاب لم يكن تخلِّيًا عن المنطقة بل هو جزء من إعادة هيكلة واسعة.
وفي المقابل، ترى دول آسيا الوسطى، أن وجود واشنطن يمنحها إمكانية مواجهة تهديدات أفغانستان، سواء الإرهاب أو الهجرة أو المخدرات، ولذلك تأتي المشاركة في الاجتماع لإعادة تثبيت واشنطن كفاعلٍ قادرٍ على ضبْط المشهد الإقليمي[5].
ثانيًا: القضايا التي نوقشت بالاجتماع
دار في قمة ترامب مع زعماء دول آسيا الوسطى، نقاشًا مُوَسَّعًا حول عدة محاور استراتيجية تجمع بين الأمن، الاقتصاد، والطاقة، مع تركيزٍ شديدٍ على المعادن النادرة والموارد الحيوية؛ حيث لم يقتصر النقاش على السياسة فقط، بل شَمِلَ صفقات ملموسة واستثمارات مستقبلية، وهو ما يجعل هذه القمة أكثر من مجرد لقاءٍ رمزيٍّ:-
1- تأمين الوصول للمعادن النادرة
ناقش ترامب مع القادة الآسيويين موضوع المعادن الاستراتيجية بشكلٍ مُكَثَّفٍ، باعتباره هدفًا محوريًّا؛ حيث أشار ترامب خلال اللقاء إلى أهمية هذه المصادر للصناعات التكنولوجية الأمريكية، لا سيما وأن الصين تُعَدُّ مصدرًا رئيسيًّا لهذه المعادن، وهو ما يجعل من آسيا الوسطى بديلًا مهمًا، كما تمَّتْ مناقشة شراكات لتطوير التعدين والبنية التحتية المرتبطة بالاستخراج، من خلال تقديم استثمارات أمريكية في مشاريع تعدين محلية تضمن معايير فنية وبيئية. كما تمَّ تسليط الضوء أيضًا على عنصر اليورانيوم، الذي تُنتجه بعض دول آسيا الوسطى، باعتباره مهمًا لاحتياجات الطاقة النووية أو الاستراتيجية الأمريكية[6].
2- الصفقات الاقتصادية
أعلن خلال القمة- وكذلك في الفترة التي سبقتها- عن صفقات كبيرة لطائرات بوينج مع بعض دول آسيا الوسطى، ووفق التقارير، قد تصل الصفقات إلى 37 طائرة؛ حيث تمَّ توقيع عقود تشمل طائرات مع بعض شركات النقل الوطنية لدول، مِثْل “كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان”، وهو ما يشير إلى خطة تحديث الأسطول الجوي وربْطه بإيرادات أكبر، وهذه الصفقات ليست فقط تجارية، بل استراتيجية؛ لأنها تمنح أمريكا نفوذًا صناعيًّا في قطاع الطيران المركزي الآسيوي، وتربط هذه الدول تقنيًا واقتصاديًّا بالولايات المتحدة[7].
3- تعزيز العلاقات الأمنية والتعاون العسكري
تضمن الاجتماع نقاشات بين الطرفان حول آليات تعاون أمني أوسع؛ حيث أَبْدَى ترامب رغبةً في تعزيز التعاون الأمني، وهو ما يعني إمكانية تقديم دعم لمراقبة الحدود وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع دول آسيا الوسطى، خاصَّةً في مواجهة التهديدات العابرة للحدود، وكذا الشُّرُوع فيما بعد في تبادل وجهات نظر حول تدريب القوات وتعزيز قدرات الدول الوسطى على مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة[8].
4- التنسيق السياسي والدبلوماسي
أشاد ترامب بـالطاقات الضخمة لدول آسيا الوسطى، ووصفها بأنها شريكٌ استراتيجيٌّ قادرٌ على لعب دورٍ محوريٍّ في بناء شراكة مستقبلية، كما تطرَّق اللقاء أيضًا إلى آفاق التعاون الدبلوماسي الواسع، وشجع القادة على تنمية العلاقات المشتركة في المحافل الدولي، كما أكدت كازاخستان خلال القمة، رغبتها في الانضمام إلى اتفاقيات “أبراهام”، وهو إعلان رمزي مهم من الناحية الدبلوماسية.
5- تركيز على التكامل الإقليمي والتجارة
طرح القادة الحديث عن تعزيز التنسيق بين دول آسيا الوسطى في مجالات البنية التحتية والطاقة، وهو ما يعني إمكانية بناء ممرَّات اقتصادية أكثر ترابُطًا داخليًّا وبين الولايات المتحدة، مستندةً في ذلك من فكرة رغبة واشنطن في دعْم تنمية إقليمية تعزز من نفوذها، كما تمَّ بحْث إنشاء أُطُر عملٍ مشتركةٍ للاستثمار والتجارة التي تتيح للدول المركزية الدخول في مشاريع مشتركة مع شركات أمريكية في قطاعات استراتيجية مثل الطاقة والمعادن.
ثالثًا: مُخْرَجات اجتماع ترامب مع قادة دول آسيا الوسطى
نتج عن القمة مجموعة مُخْرَجات عملية وسياسية تَمَّ الإعلان عنها؛ حيث تُشكِّلُ إطارًا جديدًا للعلاقات بين واشنطن ومنطقة آسيا الوسطى، وفيما يأتي إشارة إلى المُخْرَجَات الرئيسة مع تفصيل كُلٍّ منها:-
1- إبرام صفقات تجارية ملموسة تربط اقتصادات المنطقة بالولايات المتحدة
اتسمت الفترة التي سبقت الاجتماع بخروج إعلانات متناثرة تشير إلى عقْد عددٍ من الصفقات مع واشنطن، وهو تمَّ التأكيد عليه وتعزيزه في الاجتماع؛ حيث كان من أمثلة ذلك، أن تمَّ إبرام عددٍ من الصفقات التجارية الكبرى، ويأتي من أبرزها؛ بيْع طائرات بوينج لخطوط جوية في كازاخستان وطاجيكستان وأوزبكستان، وما يرافق ذلك من عقود صيانة وتمويل مربوطة بالشركات الأمريكية؛ حيث تُسْهِمُ هذه الصفقات في ربْط شبكات النقل الجوي للمنطقة بالمقاصد الدولية وتُولِّدُ تكامُلًا صناعيًّا وتجاريًّا يجعل لواشنطن محورًا اقتصاديًّا فِعْلِيًّا في بنية الطيران بالمنطقة، وتعتبر هذه الصفقات مؤشرًا عمليًّا على التحوُّل من خطاب دبلوماسي إلى ارتباطات تجارية قابلة للتنفيذ.[9]
2- توافُقٌ مبدئيٌّ على آليات تعاون في المعادن النادرة
تضمن الاجتماع الإشارة إلى أن ثمَّةَ جهودًا للتعاون بين الدول المعنية وواشنطن لتوسيع حوار المعادن الحرجة، وكذا أُعلن عن خطط لتشجيع استثمارات في التنقيب والمعالجة وبناء سلاسل قيمة محلية أو إقليمية؛ حيث تعطي هذه المخرجات الولايات المتحدة قدرة مباشرة على تخفيف اعتمادها على مصادر صينية، بينما تُمنح دول آسيا الوسطى تمويلًا وخبرات تقنية لتعزيز القيمة المضافة محليًّا، وستتبع هذه الخطوة بإعلانات شركات أمريكية عن مشاريع تعدين وتمويلات، مِثْل “مشاريع قيْد التنفيذ في كازاخستان”[10]
3- تعميق التعاون الأمني والاستخباراتي
كما سبق القول: فإن ثمَّةَ نوايا اتضحت من قِبَلِ الأطراف، تُشِيرُ إلى إمكانية تطوير تعاونٍ أمنىٍّ واسنخباراتيٍّ مستقبلًا، وما يتبع ذلك من تقديم تدريب ودعم تقني لمراقبة الحدود، وتأسيس برامج مشتركة؛ لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة وتهريب المخدرات. وتُشير المخرجات إلى أن واشنطن تريد إعادة بناء قنوات أمنية قد أصابها الضَّعْف بعد عملية الانسحاب من أفغانستان، وهو ما يمنح دول المنطقة أدوات عملية للتعامل مع التهديدات ويمُدُّ واشنطن بقدرات أمنية مُعزَّزة في قلْب أوراسيا[11].
4- إطلاق آليات استثمارية وإطار تكاملي إقليمي
توصَّلَ الأطرافُ إلى مبادئ لتأسيس آليات تمويل إقليمية أو شراكات تدعم مشاريع النقل والطاقة ومعالجة المعادن، وتُشير التصريحات إلى بحث إنشاء صناديق استثمارية إقليمية أو منصَّات تنسيق للاستثمارات الأمريكية في المشاريع الاستراتيجية، وهو ما يُهيِّئُ دول آسيا الوسطى إلى الوصول لرأس مال غربي بشروط شفَّافة وسياسات بيئية مرافقة. وتُؤَشِّرُ هذه المُخْرَجات إلى نِيَّة تحويل الاتفاقات إلى مشاريع قابلة للتنفيذ على الأرض[12].
5- إعادة إحياء اتفاقيات أبراهام
أعلنت كازاخستان عن نِيَّتِها الانضمام إلى اتفاقات أبراهام، في المقابل تنظر واشنطن إلى هذا التطور كدعمٍ دبلوماسيٍّ مهمٍ لمشروعٍ يُعِيدُ ربْط ملفات الشرق الأوسط مع أوراسيا، وتُعَدُّ هذه المُخْرَجَة رمزيةً من ناحية أن كازاخستان تمتلك علاقات مع إسرائيل، ولكنها استراتيجية من جهة أخرى؛ لأن انضمام دولة مؤثرة في آسيا الوسطى قد يساهم في توسيع نطاق شبكة التطبيع التي تُروِّجُ لها إدارة ترامب ويفتح أبوابًا لمزيدٍ من التعاون في المجالات الأمنية، الزراعية، والتقنية بين إسرائيل وآسيا الوسطى عبْر الوساطة الأمريكية.
ومن ثَمَّ، تعتبر هذه الخطوة أداة نفوذٍ دبلوماسيٍّ لواشنطن في مقابل موسكو وبكين[13].
6- رسائل سياسية واستراتيجية
يمكن القول: إن القمة تضمَّنَتْ رسائل، مفادها؛ أن الولايات المتحدة تعود كفاعلٍ اقتصاديٍّ وأمنيٍّ في آسيا الوسطى، ومن ثَمَّ؛ استخدام هذه الرسائل لرفْع الموقف التفاوضي للطرفين -الولايات المتحدة ودول الوسطى- مع روسيا والصين، كما يُفْهَمُ عن المُخْرَجات أيضًا تحذيرات ضمنية للخصوم الإقليميين، بأن واشنطن تملك أدوات اقتصادية وأمنية تُمكِّنُها للعب في السَّاحة الإقليمية لهم، وهو ما قد يُغيِّرُ ديناميكيات النفوذ المحلي.
رابعًا: انعكاسات القمة على القوى الدولية والإقليمية
من المتوقع أن تؤدي القمة بين ترامب ودول آسيا الوسطى -أو محاولات لتعزيز العلاقات بينهما- إلى خلْق سلسلة من التداعيات الاستراتيجية على توازُن القوى في قلْب أوراسيا، خاصَّةً أنها تُعِيدُ الولايات المتحدة إلى منطقة تُعَدُّ تاريخيًّا مجال نفوذ مباشر للصين وروسيا وإيران، ومن خلال قراءة التحرُّكات المُعْلَنَة، يمكن تحديد أبرز الانعكاسات على القوى الثلاث على النحو الآتي:-
1- الصين: إعادة حسابات النفوذ الاقتصادي وتكثيف الحوافز الاستثمارية:
ستضطر الصين إلى إعادة تقييم استراتيجيتها في آسيا الوسطى بمجرد أن تشاهد واشنطن تدخُلُ بقوةٍ عبْر صفقات كبيرة، واتفاقات معادن نادرة، وإطار أمني متجدد؛ حيث تدرك بكين أن تواجد واشنطن في هذه المنطقة يُشكِّلُ تهديدًا مباشرًا لمشروع الحزام والطريق الذي يمُرُّ بهذه المنطقة؛ لذا من الضروري أن تعمل الصين على زيادة الاستثمارات، وتقديم قروض بشروط أسهل، وتوسيع مشروعات الشركات الصينية في النقل والاتصالات والطاقة، حتى تُبْقِي الدول الخمس داخل المدار الاقتصادي الصيني، وكذلك أيضًا التحرُّك لتقوية النفوذ الثقافي والإعلامي؛ لأن التواجد الأمريكي على المدى المتوسط قد يساهم في تشجيع حكومات المنطقة على إعادة ضبْط علاقاتها مع كُلِّ القوى الكبرى، ويؤدي ذلك إلى سباقٍ اقتصاديٍّ مكشوفٍ يكون هدفه الأول -من قِبَلِ بكين- ضمان عدم انجراف آسيا الوسطى نحْوَ واشنطن سياسيًّا.
2- روسيا: الدفاع عن العُمْق الاستراتيجي وتحصين مؤسسات النفوذ:
من المتوقع أن تؤدي القمة إلى حثِّ موسكو على تكثيف حضورها الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي؛ لأنها سترى دخول واشنطن ضمن مجال نفوذها التاريخي تحدِّيًا مباشرًا لها، وتُدرك روسيا أن أيَّ تقارُب “أمريكي – آسيوي” يُضْعِفُ قُدْرتها على التحكُّم في القرار الاقتصادي والأمني لجيرانها الجنوبيين، ويُقوِّضُ مكانتها داخل منظمات مِثْل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.
ولهذا، تتحرَّكُ موسكو بشكلٍ عامٍ لزيادة التدريب العسكري، وتوسيع المناورات المشتركة، ومنْح خصومات ضخمة على الطاقة والغاز للدول التي قد تنفتح على واشنطن.
وتعمل روسيا أيضًا على تفعيل أدوات النفوذ الثقافي واللغوي، ودعْم النُّخَب السياسية الموالية داخل هذه الدول؛ لأنها تعتبر أن خسارة آسيا الوسطى أخطر على أمنها القومي من أيِّ منطقة أخرى.
ويُتوقع أن تدخل في منافسة مباشرة مع الولايات المتحدة على مشاريع البنية التحتية والطاقة؛ لتبقى اللاعب المُفضَّل لدى الأنظمة المحلية.
3- إيران: مواجهة خطر تطويق جيوسياسي:
تدفع القمة بطبيعة الحال إيران إلى التحرُّك لتقوية علاقاتها بدول آسيا الوسطى؛ لأنها ترى أن دخول واشنطن في المنطقة قد يخلق طوْقًا سياسيًّا وأمنيًّا حولها؛ حيث ستبدأ طهران هي الأخرى في تقديم عروض اقتصادية تشمل ممرَّات نقْل جديدة، وأسعار تفضيلية للغاز والكهرباء، واتفاقات تبادل تجاري تُخفِّفُ من أَثَرِ العقوبات.
وتسعى إيران كذلك إلى تعزيز حضورها في الملفات الأمنية، عبْر التعاون في مكافحة تهريب المخدرات وتأمين الحدود؛ لأنها تدرك أن توسُّع الدور الأمريكي قد يُقلِّلُ من اعتماد الدول الوسطى عليها، وتتحرك طهران أيضًا نحو تفعيل دورها الثقافي والديني هناك، باعتبار ذلك جزءًا من أدوات الرَّدِّ على النفوذ الأمريكي.
4- تحوُّلُ آسيا الوسطى إلى ساحة تنافُسٍ ثلاثيٍّ مفتوحٍ
تُحَوِّلُ القمةُ -إذا ما أدت إلى دور أمريكي ملموس في المنطقة- المنطقةَ إلى مسرح تنافُسٍ استراتيجيٍّ كثيفٍ؛ حيث تجد القوى الثلاث نفسها مضطرةً للدخول بكل ثقلها لتقديم استثمارات وضمانات وشراكات أفضل مما تقدمه الولايات المتحدة، حتى تمنع واشنطن من تثبيت تموْضع طويل المدى.
وتُظهر المؤشرات، أن الدول الآسيوية الخمس ستستغل هذا التنافس بلا شكٍّ؛ لتعظيم مكاسبها عبْر الموازنة بين القوى دون الانحياز الكامل لأيِّ طرفٍ، وتؤدي هذه الديناميكية إلى صراعٍ صامتٍ أحيانًا، ولكنه عميقٌ بين القوى الكبرى؛ لأن كل طرف يسعى لضمان ألا تتحوَّلَ آسيا الوسطى إلى منصَّةٍ تستخدمها واشنطن في محاصرة النفوذ الصيني أو الروسي أو الإيراني.
إجمالًا:
تشير قمة ترامب مع قادة دول آسيا الوسطى إلى أن واشنطن تُعِيدُ ترتيب أولوياتها في مناطق النفوذ التقليدية لخصومها، عبْر تعزيز حضورها السياسي والاقتصادي والأمني في قلْب أوراسيا، وهذا التوجُّه يمنح دول المنطقة هامشًا أكبر للمناورة، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التنافُس بين القوى الكبرى. فالصين وروسيا -وهما اللاعبان الأكثر رسوخًا في آسيا الوسطى- لن تتركا بالطَّبْع السَّاحة خالية للولايات المتحدة، بل ستسعيان إلى تقديم حوافز أكبر وشراكات أوسع للحفاظ على موطئ قدمهما.
وفي النهاية، تبدو المنطقةُ متجهةً نحْوَ سباق نفوذٍ متصاعدٍ، تتقاطعُ فيه مصالح القوى الكبرى مع طموحات دول آسيا الوسطى في تنويع شراكاتها وتحقيق مكاسب استراتيجية أوسع.
المصادر:
[1] ترامب يصف قمته مع قادة دول آسيا الوسطى بأنها كانت “فجر علاقة جميلة وجديدة”، روسيا اليوم، ٨-١١-٢٠٢٥
