المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > الدراسات الأمنية والإرهاب > السبـاق الجديـد نحـو التسلُّح: قــراءة فـي ملامـح تشكيـل موازيـن القـوة بالشـرق الأوسـط
السبـاق الجديـد نحـو التسلُّح: قــراءة فـي ملامـح تشكيـل موازيـن القـوة بالشـرق الأوسـط
- نوفمبر 23, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: الدراسات الأمنية والإرهاب تقارير وملفات
لا توجد تعليقات

إعــداد: فــداء منصــور
باحــث فـي برنامـج الأمـن والإرهــاب
يشهدُ الشرق الأوسط حالةً من التصيعد الجيوستراتيجي المُتسارع في التسليح خاصًة خلال الخمس سنوات الأخيرة؛ حيثُ تتقاطع النزاعاتُ المسلّحة التقليديةُ مع أنماطٍ جديدةٍ من الصراعات الهجينة، لتُعيد صياغة التوازنات الإقليمية وفق معادلاتٍ أكثر تعقيدًا.
فقد تحولت المنطقة إلى ساحةِ اختبارٍ لمفاهيم “القوة الصلبة” و”القوة الذكية” في آنٍ واحدٍ، من خلال الاستخدام المتزايد للتكنولوجيا العسكرية المتقدمة، مثل الطائرات المسيَّرة، والقدرات الصاروخية بعيدة المدى، والحروب السيبرانية، وعسكرة الفضاء، إلى جانب توظيف أدوات النفوذ غير المباشر عبر الوكلاء والتحوّلات في خريطة التحالفات الإقليمية. في هذا الإطار، تكشفُ هذه التفاعلاتُ عن ديناميكياتٍ جديدةٍ لسباقٍ تسلُّح لا يقتصر على سباقٍ كمّيٍ في التكديس العسكري، بل يتعدَّاه إلى سباقٍ نوعيٍ حول امتلاك أدوات الردْع والهيمنة الرمزية على المشهد الإقليمي. في هذا السياق، تعكس الحرب الدائرة في غزة وما نتج عنها من تفاعلاتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ تحولًا لافتًا في إعادة توظيف موازين القوى العسكرية بما يخدم أهدافًا جيوسياسيةً أوسع؛ سواء من خلال سعي إسرائيل إلى ترسيخ هيمنةٍ عسكريةٍ مطلقةٍ، أو عبر محاولات الأطراف الإقليمية وعلى رأسها إيران وحلفاؤها تقويض تلك الهيمنة بوسائل غير متماثلة. في المقابل، فإن تزايدَ انخراط القوى الكبرى يعمّق مساراتِ التنافس على النفوذ، ويجعل من الشرق الأوسط عقدةً مركزيةً في بنية النظام الأمني العالمي الجديد الآخذ في التشكل.
وعليه، يغدو سباق التسلح في الشرق الأوسط أكثر من مجرد سباقٍ عسكريٍ؛ فهو انعكاسٌ لتحولاتِ النظام الدولي من جهةٍ، وتجسيدٍ لإرادات القوى الإقليمية الساعية إلى تثبيت مواقعها في بيئةٍ استراتيجيةٍ مضطربةٍ من جهة أخرى. ومن ثمَّ، تطرح هذه الظاهرة إشكالياتٍ جوهريةً حول مستقبل الأمن الإقليمي، وحدود قدرة دول المنطقة على تفادي الانزلاق إلى دوامة سباقِ تسلّحٍ غير قابل للاحتواء، بما يحمله من تداعياتٍ على الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. من منطلق ذلك، يُطرح تساؤل رئيسي مفادُه: كيف أسهمت الديناميكياتُ الجديدةُ لسباق التسلُّح في الشرق الأوسط في إعادة تشكيل مفهوم الأمن القومي لدول المنطقة من المقاربة التقليدية إلى المقاربة الشاملة، وما هي التداعياتُ المترتبةُ على ذلك بالنسبة للتوازنات الإقليمية والاستقرار الاستراتيجي؟
أولًا:- السيـــاق النظـــري والمفاهيمي
شَهدَ النظام الدولي منذُ نهاية الحرب الباردة هيمنةَ الأدبيات الليبرالية؛ حيثُ افترضت هذه الأدبيات أن البُنى المؤسسية فوق الدولية، وتشابك الاعتماد الاقتصادي المتبادل، بجانب اتساع نطاق القيم الديمقراطية، يمكن أن تُشكِّل أساسًا ومرتكزًا للحدّ من النزاعات وتكريس بيئةٍ أكثر تعاونًا واستقرارًا بين الدول. وعليه، فقد تبلور هذا التصورُ في ترسيخ دورٍ محوري وقياديٍ للمنظمات الإقليمية والدولية، في مقدمتها الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، باعتبارها آلياتٌ وأدواتٌ حاكمةٌ لتنظيم السلوك الدولي وضبط التفاعلات الأمنية، وإعادة تشكيل أنماط توزيع القوة داخل النظام العالمي.
في هذا السياق، وعلى الرغم من السردية الليبرالية التي سادتْ حقبةَ ما بعد الحرب الباردة في تفسير العلاقات الدولية، فإن موجةَ النزاعات المسلحة المُتسارعة إقليميًا، والتحولات البنيوية التي شهدها النظام العالمي— بدءًا من أزمةِ جائحةِ كورونا وما كُشفت عنه من قصورٍ في بنية الحوكمة الصحية الدولية، مرورًا بتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية التي زعزعت ركائز الأمن الأوروبي، وصولًا إلى حرب السابع من أكتوبر على غزة وما أعقبها من فشلٍ دوليٍ في احتواء التصعيد – قد قادت إلى إعادة إحياء النظرية الواقعية باعتبارها الإطار الأكثر قدرةً على مقاربة فوضى التفاعلات الجيوسياسية الراهنة. فالعالمُ يبدو اليوم أقرب إلى بنيةٍ دوليةٍ لا مركزيةٍ تتآكل فيها فعالية المؤسسات متعددة الأطراف، وتتراجع قدرة المنظمات الدولية على منْع تمدد الصراعات أو إدارة الأزمات المعقّدة. وأمام هذا الانكشاف المؤسسي، تتجهُ الدول نحو تعزيز أدواتها الصلبة، وتعظيم قدراتها العسكرية،[1] وتوسيع تحالفاتها الأمنية لحماية مصالحها القومية في بيئةٍ يغلب عليها منطقُ القوة لا قواعد الحوكمة.
وانطلاقًا من البيئة الفوضوية التي يشهدها إقليم الشرق الأوسط، يبرز كلٌ من الواقعية الهجومية والواقعية الدفاعية كمدخلين تحليليين مركزيين لفهم ديناميات سباقات التسلح في الشرق الأوسط وتوازنات الردع، إذ توفران إطارًا يُفسر سلوك الدول الساعية إما إلى تعظيم مكاسبها عبر القوة، أو إلى تحصين بيئاتها الأمنية في مواجهةِ خصومٍ يتصرفون خارج أي قيودٍ مؤسسيةٍ فعالة.[2] وعليه يُمكن تفسير تلك التوجهات كالتالـــي:-
الواقعية الهجومية: ترى أن الدول تميل بطبيعتها إلى تعظيم قوتها بشكلٍ مستمر بالتنافس والصراع لتحقيق مصلحتها الذاتية التي تقودها للهيمنة الإقليمية أو على الأقل منْعُ الآخرين من امتلاكها؛[3] هذا يُفسرُ الانخراطَ المتزايدَ لدول الشرق الأوسط في شراء أنظمةٍ صاروخيةٍ متطورة، أو بالاعتماد على التصنيع المحلي في تطوير قدراتٍ نوويةٍ وصاروخيةٍ، أو الاستثمار في تكنولوجيا الطائرات المسيَّرة والفضاء. فالسعي الإسرائيلي للحفاظ على تفوقٍ عسكريٍ نوعيٍ على سبيل المثال يعكس منطق الواقعية الهجومية؛ حيثُ يُنظر إلى الأمن على أنه نتاجُ امتلاكٍ فائضٍ من القوة والقدرة على ردْع الآخرين.
الواقعية الدفاعية: تركّز على أن سلوك الدول يهدف في المقام الأول إلى الحفاظ على بقائها وتجنب التهديدات. وهو ما يظهر في مساعي بعض الدول لتقوية تحالفاتها مثل (التحالفات الأمنية الخليجية – الأمريكية، أو تعاون بعض الدول العربية مع قوى كبرى كروسيا، والصين، وفرنسا، وكوريا الجنوبية)، إضافةّ إلى تعزيز الدفاعات الجوية وأنظمة الردع لحماية أراضيها من هجمات بالصواريخ أو الطائرات المسيَّرة. وعليه، يُفهم سباق التسلح باعتباره ردُّ فعلٍ وقائيٍ وليس مشروعًا توسعيًا بالضرورة.
إذًا في ضوء ما سبق، يتبيَّن من الإطار النظري أن الانتقال من الرؤية الليبرالية إلى الرؤية الواقعية يعكس إدراك دول الشرق الأوسط لمحدودية فعالية المؤسسات الدولية في حفظ أمنها، ما جعلها تركِّز على استراتيجيات القوة الذاتية والتوازنات الإقليمية. كما أن التداخلَ بين منطق الواقعية الهجومية والدفاعية يفسرُ أنماطَ التسلح الراهنة؛ فبعضها اندفاعيٌ لتعزيز النفوذ وردْعِ الخصوم كالعمليات العسكرية الإسرائيلية التوسعية في سوريا ولبنان، وبعضها الآخر وقائي لضمان البقاء في بيئةٍ إقليميةٍ مضطربةٍ والتي تنتهجها باقي دول الإقليم.
تحولات مفهوم الأمن القومي: كان يُنظر إلى الأمن القومي خلال الحرب الباردة باعتباره مرادفًا للقوة العسكرية وقدرةِ الدولة على الدفاع عن حدودها وردْعِ التهديدات الخارجية، فقد ركَّز هذا التصور على الدولة كوحدةٍ مرجعيةٍ أساسيةٍ للأمن، وعلى التهديدات الخارجية فقط، كالغزو، والاحتلال، أو العدوان العسكري. ومن ثمَّ، تحول وتطور المفهوم إلى الأمن الشامل؛ فمع نهاية الحرب الباردة، اتضح أن التهديداتِ لم تعدْ عسكريةً فقط، بل تشمل أبعادًا سياسيةً، اقتصاديةً، بيئيةً، واجتماعيةً. في هذا الإطار، نشأ مفهوم “الأمن الشامل” ليؤكد أن الاستقرارَ الوطني يتطلب أمنًا غذائيًا واقتصاديًا، بيئيًا وصحيًا، إضافةً إلى الأمن العسكري، هنا انتقل التركيز من أمن الحدود إلى أمن المجتمع والدولة معًا.
في سياقٍ متصل، برز مفهومُ “الأمن الإنساني” في تسعينيات القرن العشرين بوضوحٍ عبر تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بجعل الفرد (الإنسان) وليس الدولةُ هو محورَ الأمن، أوضح هذا التحول بوضوح أن تهديدات الداخل (كالحروب الأهلية، الإرهاب بكافة أشكاله، والمجاعات) قد تكون أخطر من التهديدات العسكرية التقليدية. نتيجةَ تراكمِ هذه التحولات، ظهر ما يُعرف بـ “الأمن المركب” أو “الأمن متعدد الأبعاد”؛ وهو رؤيةٌ تدمج الأمن العسكري مع الأمن الشامل والإنساني في إطارٍ واحدٍ، باعتبار أن التهديدات مُعقّدة ومتشابكة ولا يمكن التعامل معها من زاويةٍ واحدةٍ.
ثانيًــــا:- ديناميكيــات تحــوُّل البيئــة الأمنيــة للشــرق الأوســط
يمرُ إقليم الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة بإعادة هندسةٍ شاملةٍ في معادلاته الأمنية، حيثُ تبرز ديناميكيات تسلُّح جديدةٍ تُعيد صياغة بنية التهديدات وأنماط التفاعلات الإقليمية بصورةٍ مستحدثةٍ غير مسبوقةٍ. وعليه، يُمكن قياس ذلك وفق جملةٍ من المؤشرات تتمثَّل في:-
أنماط وملامح سباق التسلح في منطقة الشرق الأوسط
1- حجم الإنفاق العسكري: كشفت ديناميكيات الحروب الأخيرة عن ثغراتٍ في هياكل وقدرات القوى الإقليمية، مما تطلّبَ مشتريات تسليحٍ جديدة ومتطورة. والجدير بالذكر، أن حجم الإنفاق العسكري لمنطقة الشرق الأوسط ككل بلغ 184 مليار دولار في عام 2022، وهو ما يمثّل زيادة قدرها 3,2% عن عام 2021.[4] وعليه، فقد ارتفعت نسبة الإنفاق العسكري إلى 15% خلال عام 2024، بقيمة 243 مليار دولار في منطقة الشرق الأوسط، إذ مثّلت الدول الثلاث الأكثر إنفاقًا في المنطقة: إسرائيل (65+ بالمئة) كأكبر نسبة وصلت لها منذ حرب 1967، وتركيا (12+ بالمئة)، والسعودية (1,5+ بالمئة)؛[5] مما يعكس تمركز الإنفاق في إسرائيل وتركيا والسعودية تحولًا نحو سباق تسلُّح يُعيد تشكيل موازين القوة في المنطقة. استناداً إلى ذلك، نلاحظ أن حجم الإنفاق العسكري للمنطقة ارتفع بنسبة 32,1% في عام 2024 عن عام 2022؛ مما يشير ذلك النمو الملحوظ إلى تصاعد حدّة التوترات الأمنية.
ومن اللافت، أن الدول الثلاث الأكثر إنفاقًا بجانب الأردن، من بين دول الشرق الأوسط التي زادت إنفاقها العسكري أيضًا في عام 2023 مقارنةً بعام 2022؛ مما يتضح استمرار ارتفاع حجم الإنفاق العسكري طوال الفترة 2020 – 2024 عام بعد عام، وعلى وجه الخصوص إسرائيل وتركيا؛ حيثُ زادتا إنفاقهما العسكري بنسبة 37% بقيمة 15,8 مليار دولار تقريبًا، و24% بقيمة 27,5 مليار دولار على التوالي خلال عام 2023،[6] فبالنظر للجدول التالي:-
جـــدول رقـــم (1):[7] يُوضِّـح حجــم الميزانيـة الدفاعيـة لـدول الشـرق الأوسـط فـي عــام 2025
نلاحظ أن دول الخليج خاصًة المملكة العربية السعودية وقطر تتحركُ بخطىً حثيثةٍ بإعادة صياغة خططها الدفاعية لعام 2025 وما بعده؛ لاسيِّما الدافع الأبرز لهذه المواجهات العسكرية بين إسرائيل وإيران التي قادت الشرق الأوسط نحو ديناميكياتٍ جديدةٍ مُسقِطًة مسلمات أمنية ترسّخت لعقود، ومحفزًة المنطقة إلى سباق مُحتدمٍ على إعادة تشكيل موازين الهيمنة الإقليمية. في سياق ذلك، تعد المملكة العربية السعودية أكبر دولة منفقة عسكريًا في الشرق الأوسط عام 2024، وسابع أكبر دولة منفقة عالميًا، بميزانيةٍ دفاعيةٍ قدرها 71,4 مليار دولار، فيما ذكرت تقارير أخرى أنها الرابعةُ عالميًا بعد الولايات المتحدة وروسيا والصين، حيثُ شهد إنفاقها العسكري زيادة بلغت 4,8% في عام 2025 عن العام السابق.[8] وعليه، فقد حافظت المملكة على تقدمها في معدلات الإنفاق العسكري العالمي بتحديث الأسلحة، وتعزيز صناعاتها الدفاعية ضمن رؤية 2030. والجدير بالذكر، أن اعتمادها على الولايات المتحدة كمصدِّر رئيس لا يزال قائمًا، إذ قُدِّر نسبة إعتمادها نحو 74%.[9]
على الجانب الآخر، حافظت كلٌ من تركيا وإسرائيل بالمركزي الثاني والثالث ضمن أعلى دول الشرق الأوسط؛ مما يعكس توجهًا استراتيجيًا متزايدًا نحو تعزيز القدرات الدفاعية في ظل تصاعد التوترات الإقليمية، كما يشير إلى أن هاتين الدولتين تعتمدان بشكلٍ متزايدٍ على ميزانياتٍ كبيرةٍ للتسلُّح كوسيلةٍ لإبراز قوتهم الأمنية، وهو ما قد يؤدي إلى سباقِ تسلّحٍ إقليميٍ جديدٍ يُثيرُ مخاطر ماليةً وسياسية طويلة الأجل.
بالنسبة لإيران، كانت تمثّل رابع أكبر منفقٍ في المنطقة والسادسة والعشرين في العالم عام 2023، بزيادة طفيفة بلغت 0,6%؛ حيث أنفقت 10,6 مليار دولار، فعلى الرغم من الزيادة الطفيفة في إجمالي الإنفاق الإيراني، فإن البنيةَ الداخلية للإنفاق تكشف تحولًا لافتًا؛ إذ ارتفعت حصةُ الحرس الثوري من 27% من إجمالي الإنفاق العسكري عام 2019 إلى 37% في عام 2023، ما يعكسُ منحىً تصاعديًا لتعزيز قدراته. في ضوء ذلك، انخفضت نسبة انفاقها إلى نسبة 10% بالقيمة الحقيقية ليصلَ إلى 7,9 مليار دولار أمريكي في عام 2024، على الرغم من تورطها في صراعاتٍ إقليميةٍ ودعمها لوكلاء إقليميين، فقد حدَّ تأثير العقوبات على إيران من قدرتها على زيادة الإنفاق؛ غير أن الارتفاعَ اللاحقَ في عام 2025 ليصلَ الإنفاقُ إلى نحو 15 مليار دولار، يشير إلى تحوُّل استراتيجيٍ في أولويات القيادة الإيرانية، مدفوعًا بتصاعد التهديدات الإقليمية، ومحاولة تعويض الفجوة التي خلَّفها التراجع السابق، فضلًا عن توجيه موارد استثنائية لتعزيز قدرات الحرس الثوري وتطوير برامج الطائرات المسيَّرة والصواريخ؛ هذا التقلُّب الحاد يُبرز مدى حساسية الإنفاق العسكري الإيراني للتقلبات الاقتصادية والعقوبات من جهةٍ، وللمتغيرات الأمنية من جهة أخرى.
كما بلغ الإنفاقُ الدفاعيُ المصري في عام 2025 أكثر من 5 مليارات دولار، مقارنًةً بنحو 2,5 مليار دولار فقط في 2024، وهو تباين يعكس الضغوط التي فرضها تدهور سعر الصرف والتحديات الاقتصادية التي واجهتها قبل أن تتمكنَ من إعادة رفع مخصصاتها الدفاعية في العام التالي.
ومن اللافت للنظر، ارتفاعُ الإنفاق العسكري اللبناني بنسبة 58% في عام 2024 ليصلَ إلى 635 مليون دولار، حيثُ واصل ارتفاعه في عام 2025 إلى ما يقارب 770 مليون دولار؛ إذ يتبيَّن أنه تحوَّلٌ استثنائيٌ في أولويات الدولة بعد سنواتٍ من الانكماش الدفاعي نتيجةَ الأزمة الاقتصادية والاضطرابات السياسية، هذا الاتجاهُ التصاعديُ يعكس سعي بيروت نحو إعادة ترميم مؤسساتها الأمنية وتعزيز جاهزيتها في ظل تزايد الضغوط الإقليمية وتصاعد التهديدات على الحدود، ما يشير إلى محاولة استعادة الحدّ الأدنى من التوازن الدفاعي رغم ضيق الموارد واستمرار الهشاشة الاقتصادية؛ حيثُ كان يُقدَّر الإنفاقُ العسكريُ في لبنان بنحو 8,9% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023؛ وهذا يعني أن لبنان يتحملُ أعلى عبءٍ عسكريٍ مُقدَّر في عام 2023، مقارنةً بأي دولةٍ أخرى في الشرق الأوسط، وهي الدولةُ الوحيدةُ التي يكون فيها العبء السنوي في عام 2023 أعلى من متوسط العبء في عام 2010، يأتي هذا في وقتٍ تشير فيه التقديرات إلى أن لبنان قد خفّض إنفاقه العسكري بنسبة 11% في عام 2023 مقارنةً بعام 2022. وتعكس هذه الأرقام مجتمعًة الاقتصادَ اللبناني الضعيف للغاية، حيثُ انخفض ناتجه المحلي الإجمالي – وفقًا لبيانات البنك الدولي – بشكلٍ ثابتٍ ومستمرٍ منذ عام 2018.[10]
تأسيسًا على ما سبق، قال الباحث في برنامج الانفاق العسكري وإنتاج الأسلحة في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام ” شياو ليانغ”: “لقد رفعت أكثر من 100 دولة حول العالم إنفاقها العسكري في عام 2024، ومع إعطاء الحكومات الأولوية بشكلٍ متزايدٍ للأمن العسكري غالبًا على حساب مجالات الميزانية الأخرى، فإن التنازلاتِ الاقتصاديةَ والإجتماعيةَ قد يكون لها آثارٌ كبيرةٌ على المجتمعات لسنواتٍ قادمة”.
في هذا الإطار، يُقصد بحجم الإنفاق العسكري إجمالي ما تُخصصه الدولة من موارد مالية لقطاع الدفاع خلال فترةٍ زمنيةٍ محددة عادةً تكونُ سنةً ماليةً واحدةً، ويشملُ هذا المفهومُ كلَّ النفقات المرتبطة بالحفاظ على القدرات العسكرية وتطويرها؛ إذ يتضمن رواتبَ، وتعويضاتِ العسكريين، والموظفين المدنيين في وزارات الدفاع، شراء الأسلحة والمعدات مثل الطائرات والدبابات وأنظمة الدفاع الجوي، تكاليف التدريب والعمليات العسكرية داخل الدولة وخارجها، الصيانة والتشغيل للبنية والآليات العسكرية، الاستثمار في البحث والتطوير العسكري، الإنفاق على البنية التحتية الدفاعية مثل القواعد والمنشآت العسكرية.
2- حجم واردات الأسلحة: لطالما شكَّلت منطقة الشرق الأوسط واحدةً من أكبر مستوردي الأسلحة الثقيلة على مستوى العالم والتي تمثّل جزءاً من ميزانية إنفاقها العسكري؛ حيثُ أشارت بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) إلى أن المنطقة استحوذ على أكثر من ربع واردات الأسلحة العالمية بين عامي 2020 و2024، بنسبة بلغت 27%.[11] في هذا السياق، فإن من بين أكبر عشرة مستوردين للأسلحة عالميًا في الفترة 2020 – 2024، توجدُ أربعُ دول من منطقة الشرق الأوسط: قطر (المركز الثالث)، السعودية (المركز الرابع) – بلغت الحصة العالمية لكلٍ منهما نسبة 6,8% – مصر (المركز الثامن) إذ بلغت حصتها العالمية 3,3%، إذ جاءت النسبة الأكبر من الأسلحة التي استوردتها مصر من ألمانيا بنسبة 32% من الواردات،[12] والكويت (المركز العاشر) بحصةٍ قُدّرت نسبتها 2,9%. وعليه، فإن دول الخليج أحدُ أبرز مناطق التسلُّح في منطقة الشرق الأوسط؛ حيثُ مثّلت وارداتها 20% من الإجمالي العالمي في الفترة 2020 – 2024، حيثُ استحوذت قطر على الصدارة الإقليمية باحتلالها المرتبة الثالثة عالميًا والأولى عربيًا في قائمة مستوردي الأسلحة؛ إذ قفزت وارداتها بنسبة 127% مقارنًة بالفترة السابقة، مدفوعةً بتوتراتٍ أمنيةٍ متصاعدةٍ منذ الحصار الخليجي الذي فُرض عليها عام 2017، تليها السعودية في المركز الرابع.
بالنسبة للكويت والبحرين سجلتا قفزاتٍ استثنائيةً في واردات الأسلحة؛ فالكويت بنسبة 466% لتحتلَ المركز العاشر، والبحرين بنسبة 898%[13] – وفقًا لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام – إذ يمثّل هذا التوسّع جزءًا من توجّهٍ خليجيٍ نحو تحديث المنظومات الجوية والبرية في مواجهةِ تحدياتٍ إقليميةٍ أمنيةٍ متوترة، حيثُ حصلت البحرين على سبيل المثال، على دعم عسكريٍ مباشرٍ وشبه كلّيٍ من الولايات المتحدة، بنسبة 97% من وارداتها. في المقابل، تراجعت واردات الإمارات بنسبة 19% لتحتل المركز الحادي عشر، لكنها لا تزالُ حاضرةً عسكريًا عبر شبكاتٍ إقليميةٍ غير تقليديةٍ، وتتوقع التقارير استمرار وارداتها في الفترة المقبلة، لاسيَّما فيما يتعلق بمنظومات الدفاع الجوي والمروحيات القتالية.
في سياقٍ متصل، تصدَّرت الولايات المتحدة قائمة المُصدِّرين إلى المنطقة بتوريد 50% من الأسلحة، تليها إيطاليا بنسبة 12%، فرنسا 9,7%، وألمانيا 7,6%. في المقابل، تراجعت حصة روسيا من 18% في الفترة السابقة إلى 4,1% فقط، متأثرةً بانخفاض صادراتها إلى المنطقة بنسبة 83%. إذ تنوعت الأسلحة المستوردة ما بين الطائرات (43%) والسفن (20%) والصواريخ (16%)،[14] مع تركيزٍ خاصٍ على القدرات الهجومية بعيدة المدى، مثل الطائرات المقاتلة، والفرقاطات البحرية، والصواريخ الباليستية الاعتراضية. فعلى الرغم من زيادة حجم وارادات أسلحة منطقة الشرق الأوسط بشكلٍ متواصلٍ خلال العشر سنوات الأخيرة، إلا أن نسبة التغيير بين فترة 2015 – 2019 وفترة 2020 – 2025 إنخفضت بنسبة 20%- وفقًا لتقرير معهد ستوكهولم السنوي 2024.
3- توسُّع الإنتاج المحلي وإزدهار التكنولوجيا العسكرية: العديد من الدول باتت تُننتج جزءًا أكبر من أسلحتها محليَّا؛ حيثُ يشهد الاستثمارُ في التكنولوجيا العسكرية ازدهاراً كبيرًا؛ إذ بلغ الاستثمارُ الأجنبي المباشر العالمي المُعلن عنه في التقنيات العسكرية أعلى مستوى له على الإطلاق في الأشهر التسعة الأولى من عام 2025؛ حيثُ سعت الشركات إلى تلبية الطلب الأعلى في ظل الصراعات المتعددة والتوترات الجيوسياسية المتزايدة.[15] فعلى سبيل المثال، وصلت الصناعة المحلية السعودية إلى 20%[16] إذ تركّز المملكة – التي تُعد تاريخيًا من أكبر مستوردي الأسلحة في العالم – تركيزًا كبيرًا على رؤيتها لعام 2030 التي أُطلقت عام 2016. وتهدف الرؤية إلى تقليل اعتماد المملكة على قطاع النفط، وتعزيز القطاعات الأخرى القائمة على الإنتاج الوطني؛ حيثُ تسعى رؤية 2030 إلى توطين 50% من إجمالي الإنفاق الدفاعي بحلول عام 2030، وقد حثّت شركات الدفاع على افتاح مقراتٍ إقليميةٍ لها في المملكة.
في حين تُعيد الإمارات العربية المتحدة صياغة قواعد الدفاع في الخليج بتحركٍ استراتيجيٍ بارزٍ؛ في محاولةٍ إلى أن تصبحَ القوة العسكرية الرائدة في المنطقة من حيث التكنولوجيا، حيثُ أن خطة أبوظبي 2025 طموحةٌ وتشمل صفقات نقل التكنولوجيا الضخمة، وبرامج الطائرات بدون طيار الشبح، وتحديثات الطائرات المقاتلة محلية الصنع،[17] فلا تكتفي الإمارات بالشراء؛ بل تسعى إلى البناء والابتكار والريادة. بالإضافة إلى أن تركيا تعمل على تطوير صناعتها الدفاعية، بما في ذلك مشروع الطائرات المقاتلة الوطنية “كآن”.
على الجانب الآخر وفي خطوةٍ تلفت الانتباه إلى التحول المتسارع في المنافسة الإقليمية والدولية، أطلقت إسرائيل في سبتمبر 2025 القمر الصناعي العسكري “أوفيك 19″، حيثُ يتميزُ بامتلاكه رادارًا متطورًا يسمح بالمراقبة المستمرة ليلًا ونهارًا وفي جميع الأحوال الجوية، كما أنه ذو قدراتٍ متطورةٍ رغم تكلفته التقنية العالية، واستهلاكه الكبير للوقود،[18] تمنح القمر الصناعي قدراتٍ استراتيجيةً متقدمةً في المراقبة والاستطلاع، ما يؤكد تحول الفضاء الخارجي إلى جبهةٍ جديدةٍ بارزة في الصراعات الجيوسياسية العالمية؛ حيثُ يشير إطلاق مثل هذه الأقمار الاستخباراتية إلى تحول المنطقة إلى سباق تسلّحٍ فضائيٍ؛ إذ قد ترى دول المنطقة فيه تهديدًا لأمنهم القومي، فيستثمرون أكثر في إنتاج أقمارٍ صناعيةٍ عسكريةٍ أو تقنياتٍ مضادة لها، ما قد يحول الفضاء تدريجيًا من مجال بحثٍ علميٍ إلى ساحة صراعٍ استخباراتيٍ وعسكري. من جهة أخرى، تمثل إسرائيل الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي عززت ترساناتها النووية في عام 2024، إذ تأتي ضمن القوى النووية التسع عالميًا.[19]
والجدير بالذكر، أن مصر تعزّز صناعاتها العسكرية المحلية الحربية بشكلٍ كبيرٍ ومتطورٍ، إذ تنوعت صناعاتها ما بين الدبابات والمدرعات، الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والذخائر، بجانب أيضًا تطوير طائراتٍ بدون طيارٍ محليةٍ كطائرات “30 يونيو” و”أحمس” وغيرها، كما عززت إمكانياتها بالتسليح البحري.
بالإضافة إلى ذلك،، يلعب العديد من المقاولين الدوليين والإقليميين دورًا محوريًا في الصناعات الدفاعية في الشرق الأوسط، فبينما تُهيمنُ شركاتٌ عالميةٌ عملاقةٌ مثل (لوكهيد مارتن، وبوينغ، وبي إيه إي سيستمز، وريثيون) على توريد أحدث المعدات والأنظمة العسكرية، برز المقاولون الإقليميون أيضًا كلاعبين رئيسيين، لا سيَّما في الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وتركيا.[20] حيثُ لا يزالُ الشرق الأوسط أحدَ أهمّ أسواق الدفاع في العالم؛ إذ تواصل دول المنطقة زيادة ميزانياتها العسكرية لحماية أمنها القومي وتعزيز نفوذها الجيوسياسي، حيثُ تُسهم شركاتٌ إقليميةٌ بجانب شركات المقاولات الدولية كشركات الدفاع التركية بشكلٍ متزايدٍ في تشكيل المشهد الدفاعي في المنطقة. علاوًة على ذلك، فمع استمرار هذه الدول في تحديث قواتها المسلحة، تُوفر معارض مثل إيدكس، منصاتٍ حيويةً لصياغة استراتيجيات المشتريات الدفاعية والتأثير على ميزانيات الدفاع السنوية، إذ لا تُمثل هذه الفعاليات فرصًا تجاريةً فحسب، بل تُجسد أيضًا إلتزام المنطقة المستمر بتعزيز قدراتها العسكرية في ظل بيئة عالمية مضطربة.
4- ارتفاع وتيرة سباق الردع النووي: يبرزُ المؤشرُ كعاملٍ محوريٍ في فهْمِ ديناميات سباق التسلح الجديد في منطقة الشرق الأوسط نحو امتلاك سلاحٍ نوويٍ؛ حيثُ برز في سبتمبر 2025 حدثٌ استراتيجيٌ متعلقٌ بتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان، في خطوةٍ تعكس عمق التحولات الجارية في المنطقة خلال لحظةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ بالغة التعقيد، إذ برز الحدَثُ وسط تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة، واستمرار التوترات الأمنية، وتراجع الثقة بالمظلة الأمنية الغربية. وبذلك وجّهت الرياض رسالةً واضحةً بأنها تتجه لبناءِ خياراتٍ دفاعيةٍ أكثر استقلالية، فيما تسعى إسلام آباد إلى توظيف ثِقَلها العسكري والنووي لتعزيز موقعها الاستراتيجي إقليميًا.[21]
في السياق ذاته، اجتمع الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” والرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” عبر تقنية الفيديو كونفرانس في يوم 19 نوفمبر الجاري، في فعاليةٍ تاريخيةٍ بمناسبة تركيب وعاءِ ضغطِ المفاعل للوحدة النووية الأولى، إلى جانب توقيع أمر شراء الوقود النووي، في خطوةٍ محوريةٍ تُضاف إلى مسيرة استكمال مشروع محطة الضبعة النووية السلمية. ومن هنا، فإن الاتفاقية تشكّلُ نقطة تحول حاسمة لا في مسار العلاقات السعودية – الباكستانية والعلاقات المصرية – الروسية فحسب، بل في مستقبل منظومة الأمن الإقليمي ومعادلات القوة في الشرق الأوسط.
5- زيادة وتيرة الاتفاقات الأمنية والمناورات العسكرية: والتي تشكِّل مؤشرًا جوهريًا هي الأخرى في سباق التسلح في الشرق الأوسط؛ إذ أسهم الاندفاعُ نحو إبرام تفاهماتٍ أمنيةٍ دفاعيةٍ جديدةٍ ومتسارعة في إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، وتحديد مسارات الأمن والاستقرار في المرحلة اللاحقة للصراع، إذ تعكس حجم الاستعدادات الميدانية وتنامي الرسائل الردعية المتبادلة بين القوى الإقليمية في مرحلة ما بعد حرب غزة. حيثُ تسعى مصر لتوسيع مصادر تسليحها العسكري خاصًة في الفترة الأخيرة؛ فقد جمعت بين مصر والصين مناوراتٌ عسكريةٌ كالمناورات الجوية المشتركة، التي تُعد الأولى من نوعها باسم “نسور الحضارة 2025″، وبروتوكولات تعاون أمني على مدار الفترة الذي يستهدفها التقرير، تتضمن صفقات تسليح خاصًة الطائرات المقاتلة متعددة المهام من الجيل الرابع والخامس ذات قدرات متقدمة في الحروب الإلكترونية، بالإضافة لتبادل الخبرات وتعزيز قنوات الاتصال بين الجانبين لمواجهةِ التحديات الأمنية التي تفرضها الأوضاعُ الراهنةُ على الساحة الدولية. كما عززت مصر من تعاونها العسكري والأمني مع كوريا الجنوبية بتوقيع مذكرتي تفاهم للتعاون في مجالات الصناعات الدفاعية والدعم اللوجيستي، شملت صفقاتٍ معداتٍ عسكريةً لمصر كمقاتلات FA-50 التي تتميز بقدرات قتالية مماثلة لمقاتلات F-15، بالإضافة لأنظمة رادار دفاع جوي، ومذكرة أخرى للمبادئ المُنظِّمة للتعاون في مجال البحث والتطوير الدفاعي للتنسيق وتبادل الخبرات العسكرية بين البلدين.[22] في السياق ذاته، برزت مساعي مصر في تطوير الشراكة الاستراتيجية مع الهند في يونيو 2023 أيضًا، بتعزيز الشراكة الدفاعية خاصًة في مجال التدريب المشترك والصناعات الدفاعية، بجانب العلاقات التعاونية المشتركة مع باكستان.
فبالنسبة إلى تركيا وسوريا، فقد وقعا اتفاقيةَ تعاونٍ عسكري مشتركة شهر أغسطس الماضي من العام الجاري ترقى إلى تحالفٍ عسكريٍ ثنائي، شملت دوراتٍ تدريبيةً لتعزيز وتطوير قدرات الجيش السوري الدفاعية والأمنية، وتزويده بأنظمة أسلحة وأدوات لوجستية، بجانب تقديم استشارات عسكرية بين وزارتي الدفاع التركية والسورية، وعمليات استطلاع، ودعم سوريا في حربها ضد الإرهاب. كما وقّعت إسرائيل والهند مذكرة تفاهم في الرابع من الشهر الجاري تهدف إلى توسيع نطاق التعاون الدفاعي بين البلدين في خطوةٍ لتطوير الشراكة الاستراتيجية الثنائية، وتوسيع آفاق العلاقات الدفاعية والتعاون المستقبلي في مجالات التكنولوجيا العسكرية وتعزيز القدرات العملياتية، وتبنّي موقفٍ موحّدٍ إزاء ملف الإرهاب؛ إذ تسعى إسرائيل لحثِّ الهند على تصنيف حركة المقاومة الفلسطينية “حماس” كمنظمةٍ إرهابيةٍ. تمثّل هذه التحركات امتدادًا لمسارٍ متنامٍ من التعاون الدفاعي وشراكة في مجالات البحث والتطوير والإنتاج العسكري؛ إذ تسعى الهند لتعزيز قدراتها الدفاعية عبر الاستفادة من الخبرات والتقنيات الإسرائيلية المتقدمة. وفي المقابل، تنظر إسرائيل إلى السوق الهندية بصفتها منفذًا استراتيجيًا من أجل توسيع صادراتها الدفاعية؛ إذ تُعَد الهند اليوم أكبر مستورد للأسلحة الإسرائيلية، بينما تحتل إسرائيل المرتبة الرابعة بين موردي السلاح إلى الهند، إذ يُعَد مشروعُ تصنيع الطائرات من دون طيارٍ من أبرز ثمار التعاون الدفاعي،[23] مما يعكس ذلك تطورًا أضفى بُعدًا جديدًا على معادلات الأمن والدفاع الإقليمي والدولي، وأثار تساؤلاتٍ حول إعادة تشكيل توازنات القوى في المنطقة.
بالإضافة لاتفاقية التعاون العسكري والأمني بين إسرائيل والولايات المتحدة؛ حيثُ تسعى إسرائيل تمديدها لعشرين عام خلال العام المقبل بعد انتهاء مدتها (10 سنوات) خلال العام الجاري، تتضمنُ مساعداتٍ سنويةً عسكريةً أكبر، مستميلةً إدارة ترامب بتوسيع نطاق الاتفاقية، من خلال استخدام بعض الأموال لأبحاثٍ إسرائيليةٍ – أمريكيةٍ مشتركة بدلًا من المساعدات العسكرية المباشرة، تقع تلك الأبحاث في مجالات التقنيات الدفاعية خاصًة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي ونظام القبة الذهبية الصاروخي الذي طرحه ترامب، حيثُ يأتي الاقتراحُ وفقًا لمسؤولين إسرائيليين بأنه يفيد الجيش الأميركي بدلًا من توجيهه بالكامل لإسرائيل؛ وسط مخاوف بأن المفاوضات بشأن الاتفاقية تكون معقّدة سياسيًا وفنيًا؛ نظرًا لموقف قاعدة MAGA المناهض للمساعدات الأمريكية الخارجية، بالإضافة لمخاوف الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشأن سلوك إسرائيل في غزة. كما برزت زيارة ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” إلى الولايات المتحدة 19 نوفمبر الجاري كمحطةٍ فارقةٍ في مسار التحديث العسكري السعودي؛ إذ أسفرت عن اتفاقاتِ تسليحٍ نوعيةٍ شملت مقاتلات F-35، ومسيّرات تعمل بالذكاء الاصطناعي، ودبابات، وأسلحة أخرى قتالية متقدمة.
علاوةً على ذلك، نفذت دول المنطقة خاصًة مصر وإيران وإسرائيل مناورات عسكرية؛ فإسرائيل أجرت وتجري بالفعل مناوراتٍ عسكريةً بريةً وبحريةً وجويةً واسعةً منذ حرب السابع من أكتوبر منفردةً أو مشتركة مع دول أخرى، أبرزها مناورات “إينيواخوس 2025” الجوية. كذلك إيران أجرت مجموعةَ مناوراتٍ مشتركةٍ مع الصين وروسيا، ومناورات منفردًة خاصًة المناورات التي أعقبت حرب ال12 يومًا مع إسرائيل، والتي استعرضت بها نوعيةً جديدةً من أسلحتِها الصاروخيةِ. والجدير بالذكر، أن إيران قد أصدرت أمرًا ببدء سلسلةٍ من المناورات العسكرية لعام 2025 قبل الحرب تحت مسمى “مناورات اقتدار القوات المسلحة”، ثم أعقبتها بعد الحرب مناورات “الاقتدار 1404”.
على الجانب الآخر، برزت جمهورية أذربيجان بانخراطها كقوةٍ إقليميةٍ فاعلةٍ على طاولة مستقبل منطقة الشرق الأوسط التي تشهدُ إعادة ترتيب موازينها، ضمن مساعيها لتوسيع نفوذها إلى ما وراء حدود القوقاز، في خروجٍ عن الدبلوماسية الأذربيجانية التقليدية التي ركّزت سابقًا بشكلٍ أساسيٍ على جنوب القوقاز وصادرات الطاقة، في ملمح يؤكد الاندماج المتزايد بين الشرق الأوسط وجنوب القوقاز.
القـــوة العسكريــــة
تأسيسًا على ما سبق، يستعرض جدول رقم (2) الهيكل العام لتوزيع القوة العسكرية في منطقة الشرق الأوسط، عبر إبراز ترتيب أكبر خمس قوى خلال الفترة 2020 – 2025، بما يُتيح فهمًا أوضح لمسارات ميزان القوى الإقليمي وتحولاته، ويتبيَّن ترتيبها كالتالي:-
جدول رقم (2)[24]: يوضح ترتيب أكبر خمس قوى عسكرية عالميًا لمنطقة الشرق الأوسط خلال الفترة 2020 – 2025
يُظهر الجدول صعودَ تركيا تدريجيًا كأقوى قوةٍ إقليميةٍ؛ حيثُ تتصدر القائمة منذ عام 2023 وتبقى في المركز الأول حتى 2025؛ ويعكس ذلك استمرار سياسة أنقرة في تعزيز قدراتها العسكرية عبر التصنيع الدفاعي المحلي، وتوسيع قدراتها الجوية والبرية، وتطوير مسيَّراتها التي باتت عنصرًا حاسمًا في توازنات المنطقة. بينما تذبذب ترتيب مصر بين المركزين الأول والثاني ثم تراجعها؛ فقد احتلت المركز الأول في عامي 2020 و2022، لكنها تتراجعُ إلى المراكز اللاحقة بعد 2023؛ ويُقرأ هذا التراجعُ في ضوء الضغوط الاقتصادية، وتركيزها على إعادة هيكلة الإنفاق الدفاعي، رغم استمرار وتقدّم قوتها البشرية والتكنولوجية. كما يُظهر الجدول ثباتَ إيران في قائمة القوى الثلاث الأولى؛ فهي ثابتةٌ في المركزين الثاني والثالث طوال الفترة، ما يعكسُ استمرار جهودها في تطوير القدرات الصاروخية والباليستية. فضلًا عن تقدم إسرائيل إلى المراتب العليا بعد 2022؛ وهو ما يتسق مع توسّع قدراتها الدفاعية والتكنولوجية، ودخولها في سباق تسلحٍ متسارعٍ نتيجةَ التوترات الإقليمية، خصوصًا مع إيران، كما يفسِّر نمو القوة العسكرية لإسرائيل بأنها تعدُّ حاليًا المشغّل المحلي الوحيد في المنطقة لطائرات الجيل الخامس المقاتلة؛ ففي عام 2024 استخدمت طائراتها من طراز F-35 لشنِّ غاراتٍ جويةٍ على إيران، مما أظهر قدراتها القتالية. على الجانب الآخر، يتبيَّن من الجدول استقرار السعودية في المركز الخامس معظم الفترة رغم موقعها الاقتصادي وقدراتها التسليحية المتقدمة؛ نتيجة اعتمادها بشكلٍ كبيرٍ على الاستيراد مقابل محدودية الإنتاج العسكري المحلي، مع تحسن تدريجي حتى 2025 مدعومًا ببرامج التحديث الدفاعي ورؤية 2030.
في هذا السياق، يُبيِّن مؤشر التوقعات الدولية (forecast international) لعام 2024، إن إسرائيل والسعودية أكثر امتلاكاً للطائرات المقاتلة؛ حيثُ يُقدر عدد امتلاك إسرائيل 2700 طائرة، و3500 طائرةً تمتلكها السعودية. هذا بالإضافة للسفن الحربية، إذ تمتلك إسرائيل 24 سفينةً وتتقارب معها الإمارات بواقع 22 سفينة، بينما السعودية تمتلك ما يقرب من 32 سفينة. إن الارتفاعَ الحادّ في الإنفاق العسكري، وخاصًة في إسرائيل والمملكة العربية السعودية، يمثل تحولًا كبيرًا في أولويات الدفاع الإقليمية، حيثُ أصبحت الدولتان بشكل متزايد من العملاء الرئيسيين للأسلحة الأميركية.
في ضوء ذلك، تكشف البيانات الواردة في جدول رقم (2) عن تحولاتٍ واضحةٍ في ميزان القوى العسكرية لمنطقة الشرق الأوسط خلال الفترة 2020 – 2025، إذ يتضحُ انتقالُ مركز الثقل تدريجيًا نحو تركيا وإسرائيل؛ مدفوعًا باتساع قدراتها التصنيعية والتكنولوجية. حيثُ تؤكد هذه الاتجاهاتُ أن القوةَ العسكريةَ الإقليميةَ باتت أكثرَ ديناميكيةً وتقلبًا، وأن إعادة تشكيل توازن القوى أصبحتْ مرتبطةً بقدرة الدول على الابتكار العسكري وتوطين التكنولوجيا الدفاعية أكثر من ارتباطها بحجم الإنفاق وحده.
ثالثًا: انعكاسات التسارع التسليحي على الأمن القومي لدول المنطقة
مع اتّساع رُقعةِ التنافس العسكري وتنامي قدرات التسليح بشكلٍ غير مسبوق، بات وتيرةً للتصاعد الكمّي والنوعي في سباق التسلح و انعكاسات استراتيجية معقّدة تُعيد صياغة بيئة الأمن القومي في دول المنطقة، وتُفضي إلى بيئة أمنية أكثر تشابكًا وارتفاعًا في مستويات المخاطر:-
الأمــن الداخلــي
يولِّد التسارع الكمُّي والنوعيُ في التسليح انعكاساتٍ عميقةً على الأمن الداخلي لدول المنطقة؛ إذ يقود تضخمُ الإنفاق العسكري إلى استنزاف الموارد الاقتصادية وحرمان القطاعات التنموية والخدمات الاجتماعية من التمويل اللازم، ما يُفاقم الضغوط المعيشية ويقوِّض ركائز الاستقرار المجتمعي. وفي الوقت ذاته، أعاد إدماج التكنولوجيا المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيَّرة، صياغةَ العقيدة الأمنية وهيكل العلاقة بين الدولة ومؤسساتها العسكرية، بما يعزّز حضور الأجهزة الأمنية بشكلٍ أكبر في صناعة القرار. كما باتت القوة العسكرية تُوظَّف كآليةٍ لتعزيز الشرعية السياسية، غير أن هذا النهْجَ قد يتحول إلى مصدر توترٍ داخليٍ إذا ترافق مع انكماشٍ اقتصاديٍ أو ضغوط سلطوية متزايدة. وعلى نحو موازٍ، ساهم التركيز المفرط على التسليح في تهميش قضايا الأمن الإنساني المتعلقة بالغذاء والمياه والصحة والبيئة، بما يفتح المجال أمام أزماتٍ داخليةٍ مركّبةٍ قد تتجاوز في خطورتها التهديدات العسكرية التقليدية، وتشكِّل تحديًا بنيويًا للأمن القومي على المدى الطويل.
ميــــزان القــوى الإقليمــي

