تُعَدُّ العلاقاتُ “المصرية – البوروندية” واحدةً من أعمق العلاقات الأفريقية؛ حيث تجمع بينهما روابطُ جغرافية وتاريخية واستراتيجية، منذُ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين الدولتيْن في ستينات القرن الماضي، وتأتي هذا الشراكة في إطار السياسة الاستراتيجية المصرية التي تهدف إلى تعزيز التعاون مع دول حوض النيل ومنطقة البحيرات العظمى بشكلٍ خاصٍّ، وتعميق العلاقات مع دول القارة بشكلٍ عامٍ؛ لتعزيز دورها وحضورها الإقليمييْن، وفي السياق نفسه، تسعى بوجمبورا لتعزيز التعاون مع القاهرة مستفيدةً من خبراتها الدولية والفنية المتعددة في مختلف المجالات، واكتساب المزيد من الشركاء الإقليميِّين، ومن هنا؛ تتضح رُؤْية الدولتيْن في تدعيم استقرار المنطقة، وتحقيق التنمية على الصعيديْن “المحلي والإقليمي”.
الجذور التاريخية للعلاقات “المصرية – البوروندية”
ترجع العلاقاتُ “المصرية – البوروندية” إلى عام 1962، في ظلِّ الحِقْبة الناصرية التي اتسمت بالانخراط المصري الفعَّال بأفريقيا، ودعْم حركات التحرُّر الوطني للتخلُّص من الإِرْث الاستعماري، ومؤازرة الدول الأفريقية لشقِّ طريقها، ومساندتها في مرحلة ما بعد الاستقلال، وكانت مصر أول دولة عربية وإسلامية قد اعترفت باستقلال دولة بوروندي من الاستعمار البلجيكي، كما فتحت قنوات تواصل دبلوماسية معها، بدأت في 8 ديسمبر 1964، عندما أُنْشِئَتْ سفارتها في بوجمبورا.
ولم تُغْلِقْ القاهرةُ أبوابَ سفارتها إبَّان الحرب الأهلية بين الهوتو والتوتسي في 1993، والتي استمرَّت حتى 2005 بما يُقارِبُ اثْنَيْ عَشَرَ عَامًا، إلا أن السفارة المصرية استمرت في تقديم خدماتها وممارسة أعمالها ولم تَخْطُ الدولةُ أيَّ خطوة نحو سحْب بعثتها، ولم يقتصر التعاون بين البلديْن على العلاقات السياسية والدبلوماسية فقط، ولكنه امتدَّ ليشمل قطاعيْ “الصحة والتعليم”؛ إذ أرسلت مصر خبراءها إلى بوروندي؛ لتطوير المنظومة الصحية والتعليمية، وقد عزَّزَ هذا التعاون من أواصر الترابُط بين البلدين، وبناء قواعد تاريخية متينة، تقوم على الدَّعْم السياسي، والتواصل الدبلوماسي المستمر.[1]
التعاون السياسي والأمني
تُعَدُّ العلاقات “المصرية – البوروندية” مثالًا يُحْتَذَى به على كافَّة الأصعدة؛ إذ تتعدد مجالات التعاون بينهما، ويحافظ البلدان على قنوات الاتصال السياسية، والذي يظهر في الزيارات الدبلوماسية والتنسيق داخل المؤسسات والمنظمات الإقليمية، ومن أبرزهم الاتحاد الأفريقي ومبادرة حوض النيل، وبما أن الدولتيْن يشتركا في حوض النيل؛ فبوروندي تُعَدُّ إحدى الدول ذات الأهمية الاستراتيجية لمصر، في إطار سياسة الانفتاح على دول شرق ووسط أفريقيا، وتعزيز الدور المصري داخل منطقة البحيرات العظمى.
في مارس 2021، وقَّعَتْ مصر وبوروندي 6 اتفاقيات، تضمن الإعفاء المتبادل من تأشيرات الدخول لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية والخدمية، إضافةً إلى منْحهم إقامة لمدة تصل إلى 90 يومًا منذُ لحظة وصولهم للدولة، كما تمَّ توقيع مذكرات تفاهم في مجالات الإدارة المتكاملة للموارد المائية في بوروندي، وجاءت تلك الاتفاقيات في إطار أول زيارة رسمية للرئيس “إيفاريست ندايشيمي”، رئيس جمهورية بوروندي للقاهرة، والتي أكَّدَ فيها رئيسا الدولتين حِرْصهما على تعزيز العلاقات وترسيخ التعاون الاستراتيجي بينهما.[2]
في أبريل من العام نفسه، تَمَّ توقيع بروتوكول تعاون عسكري بين الجيش المصري وقوات الدفاع الوطني البوروندية، يتضمن التعاون في مجالات التدريب والتأهيل والتدريبات المشتركة، كما يتيح تبادُل الخبراء بين الجانبين، وهو ما يعكس الرُّؤَى المشتركة بين البلديْن تِجَاه القضايا التي لها علاقة بالمصالح المشتركة للقوات المسلحة بين البلديْن، وجاء ذلك على هامش الاجتماع الأول للجنة العسكرية المصرية البوروندية؛ لتعزيز التعاون العسكري بين البلديْن، وما زالت الزيارات المتبادلة مستمرة، والتنسيق في مختلف المجالات؛ لتعميق العلاقات بين الدولتيْن متواصل حتى الآن.[3]
العلاقات الاقتصادية
في ضوْء إعادة الإعمار في بوروندي، تُعَدُّ مواد البناء من الحديد والإسمنت والسيراميك، من أبرز سِلَع التبادل التجاري بين الدولتيْن، إلى جانب المنتجات الغذائية والبلاستيكية، فضْلًا عن الأسمدة والأدوية والأثاث، وفي مايو 2024، تمَّ تنظيم مؤتمر افتراضي من قِبَلِ جمعية رجال الأعمال المصريين الأفارقة بالتعاون مع السفارة البوروندية في القاهرة، تحت عنوان “يوم الأعمال “المصري – البوروندي” 2024″؛ لتعزيز الاستثمار والتبادل الثقافي بين مصر وبوروندي.
وقد ركَّزَتْ الجلسة على سبل تعزيز التعاون الاقتصادي بين القطاع الخاص للبلديْن، كما تمَّ التباحُث حول الفُرَص المتاحة في مختلف المجالات السياحية والتجارية والصناعية، إلى جانب النقل، كما تمَّ التأكيد على أهمية تبادُل الخبرات والمعرفة بين رجال الأعمال، واستغلال كُلِّ الفُرَص المتاحة؛ لتعزيز الاقتصاد القومي ودفْع عجلة التنمية الاقتصادية لكلا الدولتيْن، كما تناول المؤتمر عددًا من النماذج الناجحة للتعاون بين الشركات المصرية والبوروندية.
تأكيدًا على الدَّعْم الاستثماري المصري لبوروندي، افتتحت الحكومة البوروندية رسميًّا محطة “JIJI” للطاقة الكهرومائية، وهو مشروع تحويلي تدعمه مصر من خلال قطاعها الخاص من خلال شركة أوراسكوم للإنشاءات، وأكَّدت السفيرة أميرة عبد الرحيم علي مصطفى، ممثلة جمهورية مصر العربية، التزام مصر الثابت بالتنمية المستدامة في جميع أنحاء أفريقيا من خلال الشراكات بين القطاعين العام والخاص، ويُعَدُّ افتتاح تلك المحطة حَدَثًا تاريخيًّا للتنمية الإقليمية والوصول إلى الطاقة في شرق أفريقيا.[4]
التعاون في مجالات الكهرباء والطاقة
يعكس التعاون في قطاعيْ “الكهرباء والطاقة” الاهتمام المشترك بتطوير البِنْيَة التحتِيَّة للكهرباء وتعزيز الأمن الطَّاقِّي، إلى جانب محطة “JIJI” التي تمَّ ذكرها مُسْبَقًا، جدَّدَ وزير الكهرباء والطاقة المتجددة المصري “محمد الشاكر” عن التزام الوزارة بالعمل مع نظيرتها البوروندية على تعزيز العلاقات الثنائية في قطاع الكهرباء، وذلك خلال لقاء مع وزير المياه والطاقة والمعادن البوروندي إبراهيم أويزي في يوليو 2021، كما أعلنت القاهرة التزامها بمساعدة بوروندي في تصميم شبكات الكهرباء، وتحسين أداء الشبكات القائمة، وعقْد دورات تدريبية للعاملين، وتنفيذ المشاريع من خلال الشركات المصرية، كم تمَّ توجيه الشكر للوزير المصري على تنظيم ورشة عمل مؤخرًا حول إصلاح وتركيب مُحوِّلات الطاقة.[5]
التعاون في القطاع الصحي والمساعدات الإنسانية
أرسلت سفيرة مصر لدى بوروندي “عبير بسيوني” في 2024، شحنة المساعدات المصرية الجديدة مُقدَّمة من الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية، وقامت بتسليمها للسفير “باسكال روهومفيومورد” مُمثل الحكومة البوروندية والمدير العام للعلاقات الثنائية بوزارة الخارجية البوروندية، وكان تسليم الشحنة الأولى في 2018، وشملت 6 أجهزة غسيل كلوي، بالإضافة إلى وحدتيْ معالجة مياه؛ لإقامة مركزيْن مصرييْن للغسيل الكلوي، بتكلفة 2 مليون جنيه.
أنشأت مصر في أغسطس 2017 المستشفى “المصري – البوروندي” في محافظة بوروندي، وقد تمَّ الاتفاق مُسْبَقًا في 2008 على أن تكون الإدارة مصرية، وأن يتحمل الجانب المصري تكاليف الأجهزة الطبية وتجهيز المستشفى، إضافةً إلى توفير الأطباء، أمَّا الجانب البوروندي سيتحمَّلُ توفير مبْنَي المستشفى، ووصل عدد الأطباء المصريين إلى 20 طبيبًا في مختلف التخصُّصات.[6]
في الختام:
تقوم العلاقات “المصرية – البوروندية” على المصالح المتبادلة والرُّؤَى المشتركة، التي تهدف إلى تعزيز الأمن والتنمية في شرق ووسط أفريقيا، فمنذُ تأسيس العلاقات الدبلوماسية في ستينيات القرن الماضي، نجحت القاهرة وبوجومبورا في بناء إطار تعاونٍ مستمرٍّ في التطوُّر، اتسم في بدايته بالبُعْد التاريخي والدعم السياسي، ثمَّ اتسع ليشمل مجالات استراتيجية، مِثْل “البنية التحتية والطاقة والصحة والكهرباء”، إضافةً إلى الأمن، وقد أسهمت الزيارات رفيعة المستوى، وتوقيع الاتفاقات المختلفة، والمشروعات الاستثمارية المشتركة، ولا سيما في مجالات الكهرباء والمياه والصحة، في ترسيخ شراكة فاعلة تستجيب لأولويات التنمية في بوروندي من جهة، وتدعم الدور المصري في القارة الأفريقية من جهةٍ أخرى، كما تبدو آفاقُ التعاون بين البلدين مفتوحةً على مزيدٍ من التكامل، بما يعزز الاستقرار الإقليمي ويخدم أهداف التنمية المستدامة، ويُكرِّسُ حضورًا مصريًّا أكثر تأثيرًا في منطقة البحيرات العُظْمى.
[2] كامل كامل، تقرير برلمانى: مصر أول دولة عربية وإسلامية تقيم علاقات دبلوماسية مع بوروندى، اليوم السابع، 20 فبراير 2022، https://n9.cl/owp67b.
الرئيس عبد الفتاح السيسي يستقبل رئيس جمهورية بوروندي، رئاسة جمهورية مصر العربية، 24 مارس 2021، https://n9.cl/gkn9d.
[3] أشرف عبد الحميد، “توقيع اتفاق تعاون عسكري بين مصر وبوروندي وسط أزمة سد”، العربية، 10 أبريل 2021، https://n9.cl/q99ti.
[4] Burundi and Egypt celebrate inauguration of JIJI hydroelectric power plant,Ahram Online , 27 Jun2025 https://n9.cl/wjdlp .
[5] EGYPT: Egypt to Support Burundi’s Electricity Sector, The Electricity Hub, July 27, 2021 , https://n9.cl/dkvrb1.
[6] وسام عبد العليم، العلاقات المصرية البوروندية مثال يحتذى به.. والدولة حريصة على تعزيز الانفتاح على إفريقيا، الأهرام، 24 مارس 2024، https://n9.cl/ca6q2.
