شَهِدَتْ غينيا بيساو على مدار تاريخها السياسي والمُؤَسَّسَاتي حالةً من عدم الاستقرار، منذ استقلالها عن البرتغال عام 1974؛ حيث عاصرت العديد من الأزمات السياسية المتكررة والانقلابات العسكرية بما لا يَقِلُّ عن 9 انقلابات ومحاولات انقلاب ناجحة وفاشلة؛ بما أدَّى إلى حالة من الهشاشة الأمنية، وفي نوفمبر 2025 وقع انقلاب آخر، وذلك عقب الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي جَرَتْ في البلاد وقبْل إعلان النتائج، وقيام الجيش بالاستيلاء على السلطة واعتقال الرئيس سيسوكو إمبالو وتعيين جنرال جديد قائدًا لمرحلة انتقالية؛ بما يعكس مدى هشاشة النظام السياسي والافتقار للبِنْية التنظيمية للدولة.
الخلْفِيَّة السياسية والتاريخية للانقلابات
شَهِدَتْ غينيا بيساو سلسلةً من الانقلابات العسكرية ومحاولات الانقلاب التي تمتدُّ لأكثر من أربعة عقود، بدأت في نوفمبر 1980، عندما قام رئيس الوزراء الجنرال جواو برناردو فييرا بانقلابٍ سِلْمِيٍّ على الرئيس لويس كابرال، مؤسس الدولة، وفي عام 1985، تَمَّ اعتقالُ عددٍ من كبار الضباط بتهمة محاولة انقلاب مزعومة ضد فييرا، وأُعدم ستة منهم في العام التالي، فضْلًا عن تعرُض البلاد لنزاعات عسكرية متكررة، أما في يونيو 1998، فقد أدَّتْ محاولة انقلاب فاشلة إلى اندلاع حرب أهلية بعد أن أقال فييرا رئيس الأركان الجنرال أنسوماني ماني، الذي قاد الثورة، كذلك في مايو 1999، أجبر فييرا على الاستقالة بعد عام من الحرب الأهلية، وعام 2003، أُطِيحَ بالرئيس كومبا يالا في انقلاب دموي، وتولَّى بعدها هنريك روزا السلطة مُؤَقَّتًا إلى أن عاد فييرا إلى الحُكْم بعد انتخابات في 2005 حتى اغتيل عام 2009 على يد مجموعةٍ من الجنود.
في أبريل 2012، استولى الجيش على السلطة واعتقل الرئيس المؤقت عددًا من المرشحين، في تأكيدٍ على استمرار نفوذ الجيش في الحياة السياسية، كما شهدت البلاد محاولات انقلاب فاشلة عام 2022، وتوترات سياسية متصاعدة شملت إعلان الرئيس عمر سيسوكو إمبالو عن إحباط عدة مؤامرات انقلابية خلال ولايته، وأخيرًا الانقلاب الذي وقع في نوفمبر 2025؛ حيث نَفَّذَ الجيش انقلابًا ناجحًا، أعلن خلاله السيطرة على البلاد واعتقال الرئيس، مع تعليق مؤسسات الدولة وحلّ البرلمان؛ ما يعكس تاريخًا متكررًا من الأزمات السياسية وعدم الاستقرار المؤسساتي المرتبط بتدخُّلات عسكرية متكررة وصراعات على السلطة.[1]
انقلاب نوفمبر 2025
في السادس والعشرين من نوفمبر 2025، قامت مجموعة من العسكريين في غينيا بيساو بالسيطرة الكاملة على البلاد، وتعليق العملية الانتخابية وإغلاق الحدود، وذلك بعد اعتقال الرئيس المنتهية ولايته “عمر سيسوكو إمبالو” داخل القصر الرئاسي بالعاصمة بيساو، كما تَمَّ اعتقال رئيس أركان القوات المسلحة الجنرال بياجي نا نتان، ونائب رئيس الأركان الجنرال مامادو توريه، ووزير الداخلية بوتشي كاندي، وتأتي هذه التطوُّرات في سياق الانتخابات الرئاسية التي تمَّتْ 23 نوفمبر بين إمبالو والمرشح المعارض فرناندو دياس، والتشريعية التي جرت بمشاركة عدة أحزاب، كانت المنافسةُ واضحةً بين معسكر مؤيد لإمبالو وقوى المعارضة التي دعمها دياس؛ مما حَوَّلَ الانتخابات إلى صراعٍ بين قطبيْن رئيسييْن يعكسان الانقسامات السياسية الراهنة في البلاد وعقب الإعلان عن نتائج هذه الانتخابات، والتي كان مُرْتَقَبًا الإعلان عنها 27 نوفمبر وَقَعَ هذا الانقلاب.[2]
أسباب الانقلاب
ترجع أسباب وقوع انقلاب بيساو إلى عِدَّة مُبرِّرَات ساقها قائد القوة العسكرية الملحقة بالرئاسة، والتي اتضحت في اكتشاف المخابرات العامَّة خطة لزعزعة استقرار البلاد بمشاركة تجار مخدرات محليين ودخول أسلحة للبلاد؛ بهدف تغيير النظام الدستوري؛ مما دفعهم للقيام بذلك؛ ضمانًا للأمن على المستوى الوطني، كما أن التوتُّر السياسي الذي أعقب الانتخابات التي جرت 23 نوفمبر، والتي زعم فيها المرشحون إمبالو ودياس فوزهما قبْل إعلان النتائج الرسمية؛ جعل ثمَّةَ حالةً من الصراع وعدم الثقة.[3]
ردود الأفعال الإقليمية والدولية
الإقليمية:
أدان الاتحاد الأفريقي بشدة الانقلاب، عقب إعلان الجيش تعطيل العمل بالدستور، اعتبارًا من موعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، وجاء في بيانٍ رسميٍّ صادرٍ عن رئيس مفوضية الاتحاد، أن “أيَّ تغييرٍ غير دستوريٍّ للحُكْم غيْر مقبولٍ تحت أيِّ ظرفٍ”، وفي خطوةٍ واضحةٍ، دعا الاتحاد بشكلٍ عاجلٍ إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن الرئيس إمبالو وكل كبار المسؤولين السياسيين الذين تَمَّ اعتقالهم على خلفية الانقلاب.[4]
كما استنكرت نيجيريا هذا الانقلاب، والذي اعتبرته انتهاكًا صارخًا لبروتوكول إيكواس حول الديمقراطية والحُكْم الرشيد؛ مؤكدةً أن المسؤولين عن الانقلاب سيُحاسبون، وتعهَّدت باتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان عودة سريعة إلى النظام الدستوري، من جانبها؛ أدانت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” الانقلاب، ووصفته بأنه انتهاكٌ خطيرٌ للنظام الدستوري وتهديدٌ مباشرٌ لاستقرار البلاد والمنطقة، وعلى إِثْرِ ذلك؛ قامت بتعليق عضوية بيساو في كافَّة هيئات صُنْع القرار التابعة لها.[5]
الدولية:
أعرب الأمين العام للأمم المتحدةأنطونيو غوتيريش عن قلقه الشديد؛ داعيًا الأطراف المعنِيَّة إلى ضبْط النَّفْس واحترام سيادة القانون، كذلك، دعت البرتغال القوة الاستعمارية السابقة إلى الهدوء والعودة للعملية الانتخابية، بينما أعربت روسيا عن قلقها ومتابعتها للأحداث، وحثَّتْ القوى السياسية على التحلِّي بضبْط النَّفْس؛ مشيرةً إلى اتخاذ السفارة الروسية الإجراءات اللازمة لحماية مواطنيها في غينيا بيساو.[6]
تعيين قائد جديد للمجلس العسكري
أعلنت القيادة العسكرية العُلْيَا 27 نوفمبر الجاري، تعيين الجنرال “هورتا نتام”- الذي كان يشغل منصب رئيس أركان الجيش البري، خلال حُكْم الرئيس المطاح به قبْل الانقلاب- رئيسًا للمجلس العسكري لفترة انتقالية مدتها عام واحد؛ مما يُعزِّزُ بسْط السيطرة على السلطة بالقوة، وقد أدَّى الجنرال اليمين الدستورية كرئيسٍ انتقاليٍّ للبلاد خلال مراسمَ بمقرِّ هيئة الأركان العامَّة للجيش، وأعلن قادة الانقلاب إعادة فتْح الحدود[7]، وعلى خلفية هذه الأحداث؛ أكَّدت وزارة الخارجية السنغالية وصول رئيس غينيا بيساو المخلوع إلى داكار على متْن طائرة خاصَّة، بعد تدخُّلٍ من قِبَلِ جماعة إيكواس.[8]
ختامًا:
يعكس هذا الانقلابُ استمرار حالة الهشاشة المؤسسية وعدم الاستقرار السياسي المُزْمِن الذي تعاني منها البلاد منذ استقلالها، رغم محاولات إجراء انتخابات حرة وديمقراطية، إلا أن التوتُّرات السياسية والصراعات بين القوى المختلفة، بالإضافة إلى النفوذ المتزايد للجيش ودوره المتكرر في السلطة، تجعل من الصعب تحقيق استقرار دائم، وعليه؛ سيُعوِّلُ مستقبل غينيا بشكلٍ كبيرٍ على مدى قدرة الفاعلين المحليين والدوليين على فرْض حلٍّ سياسيٍّ شاملٍ، يُخْرِجُ البلاد من دائرة الانقلابات والصراعات.
وفي حال استمرَّ المجلس العسكري بقيادة الجنرال هورتا نتام في السيطرة، فقد تواجه البلاد مرحلة انتقالية صعبة تزداد فيها الحاجة إلى تعزيز مؤسسات الدولة، وتحقيق المصالحة الوطنية، وإصلاح النظام الانتخابي، ويظلُّ خيارُ العودة إلى حالة الانقلاب والاضطراب قائمًا إذا لم تتبلور رُؤْيةٍ واضحةٍ للإصلاح السياسي والاقتصادي، عبْر حوارٍ سياسيٍّ جادٍّ يُمكِّنُ من القيام بإصلاحات مُؤَسَّسَاتِيَّة.
[4] الاتحاد الأفريقي يدين الانقلاب العسكري في غينيا بيساو ويطالب بالإفراج عن الرئيس إمبالو، صدى البلد، 27 نوفمبر 2025، متاح على الرابط الآتي: https://www.elbalad.news/6781131
