تشهدُ جمهوريةُ مالي تحوُّلاتٍ سياسيةً وأمنيةً عميقةً، تعكس تصدُّعًا متسارعًا في بِنْيَة النظام السياسي الانتقالي، لا سيما عقب القرارِ الصادرِ بحلِّ كافَّةِ الأحزاب السياسية، إضافةً إلى الكياناتِ الداعمةِ لها؛ ما يُعدُّ تصعيدًا غير مسبوقٍ نحْوَ تركيز وإعادة تشكيل المشهد السياسي، وفقًا لمبدأ الهيمنة الأُحادية من الجانب العسكري؛ الأمر الذي يؤدي بدوره إلى عرْقلة عملية التحوُّل الديمقراطي، كما يكشف عن النَّزْعة السلطوية لدى السلطة العسكرية الحاكمة، خاصَّةً إبَّانَ توصية مؤتمر الحوار الوطني بتعيين “أسيمي غويتا” قائد المجلس العسكري، الذي تولَّى السلطة بعد عددٍ من الانقلابات العسكرية، في عاميْ 2020 و 2021، رئيسًا لجمهورية مالي لمدة 5 سنوات؛ ما يطرحُ تساؤلاتٍ عديدةً حول المشهد السياسي والأمني، في ظلِّ تلك التطوُّرات المِفْصَلِيَّة السريعة.
الخلفية السياسية: من الانقلابات العسكرية إلى عسْكرة السلطة
شهدت مالي، منذ عام 2012، سلسلةً من الأزمات السياسية والأمنية المتشابكة، بدأت بتمرُّد الطوارق في الشمال، وما تلاه من انقلاب عسكري أطاح بالرئيس أمادو توماني توري، ومنذ ذلك الحين، دخلت البلاد في حالةٍ من “اللا-استقرار” السياسي الُزْمن، وقد تفاقمت تلك الحالة مع تنامِي نفوذ الجماعات الإرهابية، وفشل الحكومات المتعاقبة في تحقيق الاستقرار أو بناء مؤسسات ديمقراطية فاعلة، وقد بلغت الأزمة ذروتها مع الانقلاب العسكري، في أغسطس 2020، بقيادة العقيد “أسيمي غويتا”، الذي أطاح بالرئيس المنتخب إبراهيم بوبكر كيتا؛ بحجة الفساد وسوء الإدارة، وبالرغم من تشكيل حكومة انتقالية مدنية، كانت تُعدُّ حينها محاولةً لإضفاء شرعية شكلية على السلطة الجديدة، إلَّا أن الانقلاب الثاني في مايو 2021، أكَّدَ أن المؤسسة العسكرية لم تكن تنوِ التخلِّي عن الحُكْم، بل تسعى إلى ترسيخ الهيْمنة العسكرية على الحياة السياسية، أخذت المرحلة الانتقالية في مالي عدة مسارات، مثل:
أ- تعطيل المسار الدستوري، وتأجيل الانتخابات بحِجَجٍ فنيةٍ وأمنيةٍ.
ب- تهميش الأحزاب السياسية التقليدية واتهامها بالفشل والفساد، في إطار شيْطنة الطبقة السياسية.
ت- تقويض مبْدأ الفصْل بين السلطات، عبْر تركيز القرار في يد المجلس العسكري، وتهميش القضاء والمؤسسات التشريعية.
هذه الدينامية التي اتَّبعها النظام السياسي، لا تشير إلى وجود أيِّ نِيَّةٍ للتحوُّل الديمقراطي، بل هي ليست إلا محاولات لإضفاء الشرعية على الهيْمنة العسكرية وترسيخها في الحُكْم، ولم يُخفِ المجلس العسكري هذا التوجُّه، بل حاول تسويقه كبديلٍ “وطني” عن النموذج الليبرالي الغربي، مستندًا إلى سرْديات السيادة الوطنية ورفْض “الإملاءات الخارجية”، خصوصًا من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ECOWAS) والقوى الغربية، وفي هذا السياق، جاء قرار حلِّ الأحزاب السياسية كخطوةٍ منطقيةٍ ضمن إستراتيجية إعادة هندسة المجال السياسي؛ بهدف تفكيك البِنْيَة الحزبية وتأسيس نظامٍ سياسيٍّ مُغْلَق، يُكرِّسُ شرعية القوة بدلًا من شرعية الاقتراع.[1]
دوافع اتخاذ القرار
استند المرسوم الصادر عن وزير الإدارة الإقليمية، في 10 أبريل 2024، بحلِّ كافَّةِ الأحزاب السياسية والجمعيات ذات الطابع السياسي إلى ما تمَّ وصفه بـ “حالة الطوارئ السياسية” و “الحفاظ على وحدة الدولة وسلامة الأمن الوطني”، وهو الخطاب الذي يتمُّ استخدامه عادةً لتبرير تعليق الحقوق الديمقراطية باسم الاستقرار، أمَّا عن مُبرِّرات اتخاذ ذلك القرار، وفْقًا لتصوُّر السلطة العسكرية:
1- فشل الطبقة السياسية وفُقْدان الشرعية: اتهمت السلطة العسكرية الأحزاب السياسية بـالفساد والزبونية والعجْز عن تلبية مطالب الشعب خلال العقود السابقة، معتبرةً أن هذه القوى هي المسؤولة عن تفكُّك مؤسسات الدولة وتمكين الجماعات المسلحة من التوسُّع، هذه السرْدية يتمُّ استخدامها لإقناع الرأي العام المحلي؛ بأن الحُكْم العسكري هو البديل الوحيد الممكن، باعتباره “المُنْقِذ” لا “المهيمن” على السلطة.
2- ضرورة إعادة هيكلة النظام السياسي: تشير بعض الوثائق غيْر الرسمية والتسريبات السياسية إلى أن قرار حلِّ الأحزاب يُمهِّدُ لما يُسمى بـ “إعادة تأسيس الدولة”، وهي رؤية تبنَّاها المجلس العسكري في خطاباته الأخيرة، وتقوم على تفكيك البِنْيَة التعدُّدية التقليدية واستبدالها بنظام سياسي “وطني” يُدارُ وفْق مبادئ “الحُكْم الرشيد السيادي”، وهي مفاهيم فضفاضة تُستخدم عادةً لتبرير إقصاء الفاعلين التقليديِّين وتأسيس نظامٍ مُغْلَقٍ خاضعٍ للسلطة التنفيذية فقط.
3- وحدة الدولة وتهدئة الصراعات الداخلية: تشير الوثائق الرسمية والتصريحات الصادرة عن قادة المجلس العسكري إلى أن الأحزاب أصبحت – حسب وصفهم – مصدرًا للانقسام والتجاذب الحزبي الضيق، وأنها تُهدِّدُ التلاحُم الوطني في ظلِّ بيئةٍ أمنيةٍ هشَّةٍ، وقد استُخدم هذا المنطق لتصوير الأحزاب كـ “كيانات أنانية” تسعى لمصالحها الحزبية دون اعتبارٍ لمصلحة الدولة العُلْيَا، وهو خطاب تقليدي في الأنظمة السلطوية، يُحمِّلُ الأحزاب مسؤولية تفكُّك الدولة وفشل التنمية.
قد تكون تلك المُبرِّرات وهْمِيَّةً؛ لأن الدولة المالية تعاني بالفِعْل من الاضطراب السياسي والأمني، وقرار حلِّ الأحزاب السياسية ليس الحلَّ الجِذْرِيَّ لحلِّ كُلِّ تلك الأزمات، بل هو مؤشرٌ واضحٌ وصريحٌ لوقْف أيِّ محاولة تقود للتحوُّل الديمقراطي.[2]
التداعيات السياسية والأمنية
يُمثِّلُ قرارُ حلِّ الأحزاب انهيارًا الشرعية الديمقراطية له العديد من التداعيات تكاد تُهدِّدُ آخر آمال التحوُّل الديمقراطي لمالي؛ إذ إنه يؤدي إلى:
1- تفريغ الحياة السياسية من محتواها المؤسسي، وإلغاء آليات الوساطة بين الدولة والمجتمع.
2- ترسيخ بِنْيَة استبدادية؛ إذ يتم تركيز السلطة في يد النخبة العسكرية دون رقابة أو مساءلة.
3- فتْح المجال أمام المقاومة غير النظامية؛ بما فيها الحركات الاحتجاجية أو حتى الجماعات الراديكالية التي قد تستغل الفراغ السياسي لتوسيع نفوذها.
أمَّا من الناحية الأمنية، فتقع مالي ضمن فضاءٍ هشٍّ محاطٍ بتهديداتٍ متعددة الأبعاد منها:
1- الجماعات الجهادية، مثل “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، التي تستثمر في ضعْف الدولة وتهميش الأطراف.
2- الحركات الانفصالية، خاصَّةً “الطوارق في الشمال” التي قد ترى في غياب المسار السياسي فرصةً للمطالبة بحُكْمٍ ذاتيٍّ أو انفصالٍ.
3- تفكُّك مؤسسات الدولة في ظلِّ غياب شرعية سياسية داخلية وانسحاب الدعم الدولي.
وهذا القرار قد يُسرِّعُ من ديناميات التفكُّك، بتحويل التوتُّر السياسي إلى أزمة أمنية شاملة، وتوسيع مساحة “اللا-دولة”.[3]
الرُّدود الدولية
أعرب خبراء حقوق الإنسان في الأمم المتحدة عن قلقهم البالغ إزاء قرار حلِّ الأحزاب السياسية في مالي، معتبرين أن هذا الإجراء يُقوِّضُ التعدُّدية السياسية ويُهدِّدُ حقوق الإنسان الأساسية، ودعوا السلطات المالية إلى التراجُع عن هذا القرار وضمان احترام الحريات السياسية والمدنية، أمَّا عن منظمة العفو الدولية قد أدانت القرار، واعتبرته خطوةً خطيرةً نحو تقويض حقوق الإنسان والحريات الأساسية في البلاد، وطالبت المنظمة السلطات بالتراجُع عن هذا القرار وضمان حرية التعبير والتجمع والتنظيم السياسي، ومن ناحية أخرى، قد دعت الولايات المتحدة الأمريكية السلطات العسكرية إلى احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، والعودة إلى الحُكْم المدني والديمقراطي في أقرب وقتٍ ممكنٍ.[4]
السيناريوهات المحتملة
أ- ترسيخ الهيمنة العسكرية
يُعدُّ هذا الاحتمال من السيناريوهات الخطيرة؛ لأنه يعني استمرار حُكْم المؤسسة العسكرية بقيادة العقيد “أسيمي غويتا”، مع تغييبٍ كاملٍ للمنافسة السياسية، إلى جانب استبدال التعدُّدية الحزبية بهياكل بديلة، مثل لجان شعبية أو مجالس تقليدية تدين بالولاء للنظام العسكري، وهو ما قد يؤدي إلى استمرار تعليق الدستور وتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مُسمَّى، كما أنه يسُوقُ الوضْع إلى مزيدٍ من التضييق على الحريات العامَّة والإعلام، إضافةً إلى ازدياد الاعتماد على بُدَلَاء من شركاء أمنيِّين (مثل روسيا ومجموعة فاغنر).
ب- انفجار اجتماعي وتمرُّد سياسي
مع استمرار القمْع وتضييق المجال السياسي، يمكن أن تتطور الأزمةُ إلى مواجهة مفتوحة بين السلطة العسكرية وقطاعات من المجتمع المدني والنُّخَب المعارضة؛ بما في ذلك بعض القادة الدينيِّين وزعماء الحركات الشبابية، وهو ما ينتج عنه تأجيج حركات المعارضة مع تصاعُد موْجة الاحتجاجات والإضرابات في المُدُن الكُبْرَى، ومن ناحيةٍ أُخرى، من المحتمل حدوث انشقاقات داخل الجيش أو المؤسسة الأمنية؛ ما يعني استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني داخل الدولة.
ج- تفاوُضٌ على مرحلةٍ انتقاليةٍ جديدةٍ
تحت ضغط داخلي وخارجي متزايد، قد تضطر السلطة العسكرية إلى الدخول في مفاوضات مع أطراف سياسية واجتماعية؛ لتحديد خارطة طريق جديدة تشمل إعادة هيكلة النظام السياسي بطريقة مضبوطة، من المرجح أن تكون تحت إشراف دولي، وتشكيل حكومة انتقالية مُوَسَّعة مع تمثيلٍ رمزيٍّ للمعارضين، كما أنه من الممكن أن يتمَّ وضْع دستور جديد أو تعديل الدستور الحالي، إضافةً إلى إجراء انتخابات مشروطة وغير تنافسية بشكلٍ كاملٍ.[5]
الخاتمة:
يُعدُّ قرارُ حلِّ الأحزاب السياسية ضربةً قاضيةً للتعدُّدية السياسية، ومؤشرًا واضحًا على عرْقلة عملية التحوُّل الديمقراطي، كما يكشف عن تعمُّق التحوُّل السلطوي للنظام، وفي ظلِّ التحديات الأمنية والاقتصادية المُعقَّدة، لا يمكن تصوُّر خروج مالي من أزمتها الحالية دون استعادة الشرعية الدستورية، وفتْح المجال أمام حوار وطني شامل يُفْضِي إلى انتقال ديمقراطي حقيقي، بدون ذلك؛ فإن البلادَ مهددةٌ ليس فقط بالرُّكُود السياسي، بل أيضًا بانفجارٍ أمنيٍّ قد يمتدُّ تأثيرُهُ إلى عموم منطقة الساحل وغرب أفريقيا.
[4] Mali: Authorities must abandon alarming proposal to dissolve political parties, Amnesty international, 30 April 2025, https://tinyurl.com/4zabxu9c .
