في تحوُّلٍ استراتيجيٍّ لافتٍ، وقَّعتْ المملكة العربية السعودية وجمهورية باكستان الإسلامية، الأربعاء 17 سبتمبر الجاري، اتفاقية الدفاع الاستراتيجي المشترك في قصر اليمامة بالرياض، بحضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف؛ حيث وُصفت الاتفاقية، التي نصَّتْ على أن “أي اعتداء على أيٍّ من البلدين يُعَدُّ اعتداءً على كليْهما”، بأنها نقطة فارقة في مسار العلاقات بين الرياض وإسلام آباد، ورسالة بأن البلديْن يستعدَّان لمرحلة جديدة من التهديدات غير التقليدية في بيئة إقليمية شديدة الاضطراب.
ويأتي هذا التطوُّر في لحظة إقليمية بالغة الحساسية؛ فقبل أيام قليلة فقط، تعرَّضَ وفدٌ من حركة حماس لهجوم إسرائيلي في الدوحة؛ ما أحدث صدمة في العواصم الخليجية والعربية، وأثار جدلًا واسعًا حول قدرة المنظومات الأمنية القائمة على استباق التهديدات غير التقليدية؛ إذ أعاد الهجوم التذكير بأن أمن المنطقة لم يعُدْ مُحَصَّنًا ضد خروقات نوعية تستهدف رموزًا أو مسارات دبلوماسية، وأن الحاجة باتت ماسَّة إلى ترتيبات ردْعٍ مَرِنَةٍ تُحصِّنُ العواصم الخليجية وتُوسِّعُ مظلَّة الحماية.
كما تتزامن الخطوة مع مسعى سعودي متواصل لإعادة صياغة سياساتها الأمنية بعيدًا عن الارتهان لمظلَّة غربية واحدة، وبالتوازي مع مراجعات في السياسة الخارجية تبحث عن شركاء جُدُد يُلَبُّون احتياجات الأمن القومي والاقتصاد معًا.
أما باكستان، التي واجهت في السنوات الأخيرة أزمات اقتصادية وسياسية وضغوطًا من جبهتيْ الهند وأفغانستان، فترى في الاتفاقية فرصة لاستعادة ثقلها في الخليج، وتثبيت موقعها كفاعل مركزي في منظومة الأمن العربي والإسلامي، مع ما قد يترتب على ذلك من فوائد اقتصادية واستثمارية.
السياق العام للعلاقات بين البلدين
تربط السعودية وباكستان علاقات تاريخية وثيقة تمتدُّ لأكثر من 70 عامًا، تطورت إلى مستوى “الشراكة الاستراتيجية”، وتأتي هذه الاتفاقية تتويجًا لسلسلة من اللقاءات والزيارات رفيعة المستوى بين مسؤولي الدفاع في البلدين؛ ففي مارس الماضي، زار وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان إسلام أباد، وحضر العرض العسكري السنوي بمناسبة يوم باكستان، كما ناقش مع كبار القادة الباكستانيين فرص الارتقاء بالشراكة العسكرية، وفي المقابل، شهدت الرياض خلال الأشهر الأخيرة زيارة قائد الجيش الباكستاني الجنرال عاصم منير، الذي التقى ولي العهد والأمير خالد بن سلمان؛ حيث تمَّ بحْث سُبُل تعزيز التعاون الأمني، وتطوير قنوات الاتصال بين المؤسستيْن العسكريتيْن.[1]
وتستند هذه الخطوة إلى جذور عميقة من التعاون الدفاعي بين البلدين؛ فمنذ توقيع البروتوكول الدفاعي الأول عام 1967، الذي أتاح وجود مستشارين عسكريين باكستانيين في المملكة وتدريب ضباط سعوديين في الأكاديميات الباكستانية، تواصلت مسيرة شراكة عسكرية شملت بروتوكول 1982، وتمركز وحدات باكستانية في المملكة لأغراض تدريبية ودفاعية، فضْلًا عن التعاون في مجالات التصنيع ونقل الخبرة، ومع مرور العقود، تحوَّلَتْ تلك الشراكة إلى أحد أعمدة العلاقات “السعودية–الباكستانية”؛ لتتوِّجَ اليوم باتفاقية شاملة، تعكس إدراكًا متبادلًا بأن التحديات الراهنة تتطلب مظلَّة ردْعٍ وتحالُفاتٍ أوسع من أيِّ وقتٍ مضى.
يُضاف إلى ذلك، موقع باكستان الخاص في المعادلة الإقليمية؛ فهي منذ تأسيسها عام 1947 تُمثِّلُ رقمًا صعبًا في توازنات وسط وغرب آسيا، دولة ذات ثقل سكاني وعسكري ونووي، تتحكم في بوَّابة بين الشرق والغرب، كما أن علاقتها بالمؤسسة العسكرية منحتها قدرة على إدارة توازنات دقيقة بين الهند – الجار النووي الخصْم – وإيران ذات الحضور الجيوسياسي الواسع، وبين القوى الكبرى من واشنطن إلى بكين، هذه المكانة جعلتها شريكًا أساسيًا لدول الخليج منذ عقود؛ حيث امتزجت المصلحة الاستراتيجية بالدعم المالي والاستثماري، وصولًا إلى أدوار متقدمة للجيش الباكستاني في مهام تدريب وتأمين داخل المملكة منذ بروتوكولات 1967 و1982. [2]
كما أن اللحظة الراهنة تكشف حاجة كل طرف إلى الآخر؛ فالرياض تبحث عن شريك دفاعي يمتلك خبرة قتالية وثقلًا نوويًّا لتأمين عُمْقٍ استراتيجيٍّ وردْعٍ مَرِنٍ في مواجهة تهديدات مُعقَّدَة، وإسلام آباد تسعى لتثبيت حضورها في الخليج، والحفاظ على دعم اقتصادي واستثماري يساندها في مواجهة أزماتها المالية الحادة، وفي الوقت نفسه، يُعزِّزُ قدرتها على المناورة بين الهند والصين وإيران.
من هنا؛ بدا توقيع الاتفاقية تحرُّكًا استباقيًّا قبْل أن تتسع المخاطر أو تُفرض وقائع جديدة على الأرض.
مضمون الاتفاق
جاءت اتفاقية الدفاع الاستراتيجي المشترك لتُؤَطِّرَ – ولأول مرة بهذا الوضوح – البِنْيَة الدفاعية بين السعودية وباكستان في صيغةٍ مُلْزِمةٍ سياسيًّا وذات بُعْدٍ ردْعِيٍّ صريحٍ؛ حيث يتيح النَّصُّ المُعْلَنُ للاتفاقية استخلاص جوهر واضح لها؛ إذ نصَّ صراحةً على أن “أي عدوان على أيٍّ من البلدين يُعَدُّ عدوانًا على كليْهما”، وهو بند يعكس انتقال العلاقة من التنسيق الدفاعي التقليدي إلى التزام مُعلن بالأمن المشترك، ويُبرز في الوقت نفسه رغبة الطرفين في ترسيخ قاعدة ردْعٍ مزدوجةٍ في مواجهة الأخطار.
وقد أكَّدَ البيان، في السياق ذاته، التزام الجانبيْن بضمان أمْن كُلٍّ منهما والعمل على تعزيز السلام والاستقرار في المنطقة والعالم، بما يربط البُعْد الدفاعي بمقاصد سياسية أوسع تتصل بالاستقرار الإقليمي والدولي.
ورغم أن الاتفاقية لم تُنشر بكامل تفاصيلها التنفيذية، فإن ما رشح من تصريحات رسمية – بما في ذلك إشارة مسؤول سعودي إلى “رويترز” بأنها “تشمل كافة الوسائل العسكرية”[3] – يُوحِي بأن الوثيقة لا تقتصر على إعلان تضامن رمزي، بل تُمثِّلُ إطارًا مفتوحًا لتطوير أدوات التعاون الدفاعي؛ بدْءًا من تنسيق المواقف وتبادل المعلومات الاستخباراتية، ومرورًا بإمكان تنظيم تدريبات ومناورات مشتركة، وانتهاءً بإرساء أُسُسٍ لشراكات صناعية وتقنية في المجال العسكري متى نضجت الظروف.
بهذه الصياغة، يضع الاتفاق أرضية صلبة لتعاون أمني يتجاوز حدود التطمينات السياسية، ويرسخ إدراكًا متبادلًا بأن الضمان الفِعْلي لأمن البلدين يقتضي – في ضوء المتغيرات الإقليمية – استعدادًا لاستخدام كل ما يتاح من وسائل عسكرية وتقنية لحماية استقرارهما، مع إبقاء الأبعاد العملية للتنفيذ رهْن ما سيتم التوافق عليه في مراحل لاحقة، وهو ما يمنح الاتفاقية طابعًا ديناميكيًّا قابلًا للتطوير تَبَعًا لمتطلبات البيئة الأمنية المحيطة.
الدلالات الاستراتيجية
يُمثِّلُ توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان خطوةً نوعية تحمل أبعادًا متعددة تتجاوز كونها مجرد تفاهم ثنائي؛ لتعكس تحوُّلات أوسع في خريطة التحالفات الإقليمية والدولية؛ فاللحظة التي جاء فيها الاتفاق تتسم بدرجة عالية من السيولة الاستراتيجية وإعادة التموْضع للقوى الإقليمية، وهو ما يُضْفِي على الاتفاق قيمة تتجاوز إطار التعاون العسكري التقليدي.
وتنعكس هذه الأهمية في جُمْلة من الدلالات التي يمكن عرْضُها على النحو الآتي:
1- استدعاء باكستان كثقلٍ عسكريٍ–نوويٍّ إسلاميٍّ:تُشكِّلُ باكستان بقدراتها النووية والعسكرية ركيزةً محوريةً في معادلة الأمن الإقليمي والدولي، فهي القوة النووية الإسلامية الوحيدة، وتُصنَّف سابع أكبر قوة نووية في العالم بترسانة تُقَدَّرُ بنحو 170 رأسًا حتى عام 2025، فضلًا عن احتلالها المركز الثاني عشر عالميًّا في مؤشر Global Firepower بمعدل قوة 0.25 تقريبًا؛ ما يعكس مكانتها ضمن أبرز عشر قوى عسكرية حول العالم، كما تستند هذه المكانة إلى بنية صلبة تشمل جيشًا نظاميًّا يزيد قوامُهُ على 650 ألف جندي، إضافةً إلى أكثر من 2,600 دبابة، ونحو 1,400 طائرة متنوعة بينها أكثر من 300 مقاتلة، إلى جانب أسطول بحري يضُمُّ غوَّاصات وفرقاطات وقدرات صاروخية، مدعومٍ بميزانية دفاعية تقارب 7.6 مليارات دولار سنويًا.[4]
وعليه؛ فإن إدماج هذه القدرات، بما تحمله من ثقل نووي وبشري وتقني، في اتفاق دفاعي مع السعودية يُضْفِي على الاتفاق وزْنًا غير تقليدي؛ إذ يُزَاوِجُ بين الرمزية الدينية والسياسية للمملكة والقوة الصلبة المتنامية لباكستان، بما يفتح أُفُقًا جديدًا أمام التحالُفات داخل العالم الإسلامي ويمنحها تأثيرًا أعمق على المستوييْن “الإقليمي والدولي”.
2- تعزيز العُمْق الاستراتيجي السعودي وتحرير خيارات الرَّدْع: يبدو أن الاتفاق يعكس توجُّه السعودية نحو إعادة هندسة منظومة أمنها القومي، عبر توسيع شبكة شركائها الدفاعيين بما يتجاوز الاعتماد التقليدي على المظلة الأمريكية أو التحالفات الغربية وحدها، وذلك في ظل بيئة إقليمية شديدة السيولة؛ نتيجة استمرار العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، وتصاعُد التوترات في البحر الأحمر، فضلًا عن الهجوم النوعي على وفد حماس في قطر، وهو تطور يبدو أنه أعاد تسليط الضوء على هشاشة بعض الأطر الأمنية القائمة والحاجة إلى عدم الارتهان الكامل لثقة الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة؛ لذا فإن إدماج باكستان – بما تمتلكه من قوة نووية وبشرية – في حسابات الأمن السعودي قد يمنح الرياض عُمْقًا استراتيجيًّا مضاعفًا، ويتيح لها قدْرًا أوسع من الاستقلالية عند التفاوض مع القوى الكبرى أو عند صياغة مواقفها تِجَاه الأزمات المتلاحقة، كما يوفر لها مظلة ردْعٍ إضافيةٍ، يمكن أن تُعزِّزَ توازناتها أمام الضغوط الإقليمية والدولية، وتدعم قدرتها على إدارة المخاطر في محيط يتجه نحو مزيدٍ من الاضطراب وعدم اليقين.
3- بلورة نمط جديد للتحالفات: تبدو الاتفاقية خطوة نحو إعادة تشكيل هندسة التحالفات في الفضاءين الخليجي والآسيوي، بما يؤسس لمرحلة تتجاوز الثنائية الضيِّقَة بين الرياض وإسلام آباد لتفتح المجال أمام إنشاء شبكات تعاون أوسع؛ فالمشهد الراهن الذي يتسم بتسارع التهديدات العابرة للحدود من الهجمات بالطائرات المُسيَّرة والصواريخ الدقيقة، إلى القرصنة في الممرَّات البحرية وتنامي المخاطر السيبرانية، يفرض مقاربة تقوم على تبادل القدرات والخبرات ضمن أُطُرٍ متعددة المستويات، مع مراعاة التوازن مع قوى آسيوية كبرى كالهند والصين، التي تراقب إعادة توزيع النفوذ في جنوب آسيا والخليج.
ومن هذا المنطلق، تمنح مشاركة باكستان، بما تمتلكه من موقع جغرافي حيوي وخبرة عملياتية، الاتفاقية بُعْدًا عمليًّا يتخطَّى مجرد الالتزام بالدفاع المشترك؛ ليتيح تطوير آليات إنذار مبكر، وتأمين خطوط الطاقة والتجارة، وربما بناء قواعد اشتباك دفاعية تتلاءم مع طبيعة المخاطر المتصاعدة؛ ما يجعل الاتفاق نواةً لتحالُفاتٍ أمنيةٍ مَرِنَةٍ تستجيب لواقع استراتيجي يتجه نحو مزيدٍ من التعقيد وتعدُّد اللاعبين.
4- توظيف الاقتصاد والصناعات الدفاعية كرافعة للتعاون: تفتح الاتفاقية المجال أمام بُعْدٍ اقتصاديٍّ وتكنولوجي يتكامل مع الجوانب العسكرية؛ إذ يمكن أن تتحول إلى منصة لتعزيز التعاون في مجالات التصنيع الحربي، وتوطين التكنولوجيا الدفاعية، وتطوير الصناعات المرتبطة بالفضاء والأمن السيبراني، ويبدو أن هذا المسار ينسجم مع طموحات السعودية في إطار “رؤية 2030” الرامية إلى توطين جزء معتبر من الإنفاق الدفاعي، كما يمنح باكستان منْفَذًا لدعم اقتصادها المُنْهَك عبْر عقود إنتاج وصيانة ونقل خبرات.
وعليه؛ فيُمثِّلُ هذا البُعْد الاقتصادي إضافةً نوعيةً للاتفاق؛ لأنه يُرَسِّخُ مصالح متشابكة تُقلِّلُ من احتمالات التراجع عن الالتزامات، وتحوّل التعاون الدفاعي إلى شراكة استراتيجية مستدامة قادرة على التكيُّف مع الضغوط المالية أو السياسية مستقبلًا.
في الختام:
تُبرز اتفاقية الدفاع الاستراتيجي المشترك بين السعودية وباكستان أن التحوُّلات المتسارعة في بيئة الأمن الإقليمي لم تعُدْ تسمح بالاكتفاء بالأُطُر التقليدية للتحالُفات أو الارتهان الكامل لثقة الغرب، بل تدفع إلى ابتكار صِيَغٍ أكثر مرونةً واتساعًا تستند إلى المصالح المتبادلة وتستوعب تداخل ساحات التهديد، فتمنح هذه الاتفاقية الرياض عُمْقًا استراتيجيًّا وردْعًا متعدد المستويات، وتتيح لإسلام آباد فرصةً لترسيخ مكانتها كقوة نووية مسؤولة وشريك محوري في أمن الخليج والعالم الإسلامي، كما تفتح الباب أمام إعادة تعريف طبيعة التحالفات؛ بحيث تتقاطع فيها عناصر الرَّدْع الصلب مع التعاون الاقتصادي والتقني؛ بما يعزز استدامتها وقدرتها على مواجهة الأزمات المُسْتَجَدَّة.
إن نجاح الاتفاقية لن يُقَاسَ بنصوصها المُعْلَنة فقط، بل بقُدْرة الطرفين على تحويلها إلى آليات عملية، سواء عبْر تنسيق المواقف والإنذارات المبكرة، أو من خلال التدريب المشترك وتطوير الصناعات الدفاعية ودمْج الاقتصاد بالتخطيط الأمني، مع الاحتفاظ بمرونة تسمح بالتكيُّف مع تقلُّبات التوازنات الدولية وضغوطها.
المصادر:
[1]السعودية وباكستان توقعان اتفاقية الدفاع الاستراتيجي المشترك، العربية، 17 سبتمبر 2025، انظر الرابط: https://shorturl.at/EhGB0
[2]باكستان بين الشرق والغرب.. والخليج بينها وبين الهند وإيران، العربية، 26 يناير 2023، انظر الرابط: https://shorturl.at/1dkLt
