بقلم الكاتب المغربي: أ / عبد المجيد بن شاوية
- باحث في الشؤون المغاربية
- مهتم بالقضايا الفكرية والثقافية
- فاعل جمعوي
- benchaouiaabdelmajid70@gmail.com
توطئة: الأزمة الأوكرانية الروسية وخلفياتها
حين تشتد الأزمات يطفو على السطح كل ما كان مخبوء في أعماق ودهاليز الطبقات السفلى لكل بنية من بنيات الفكر والسياسة والثقافة والاجتماع والأيديولوجية والاقتصاد، سواء بداخل الأوطان أو بداخل بنيات العلاقات الدولية الأممية والشعوبية، ظاهرة الأزمة في بعديها الوطني والدولي شبيهة بظاهرة البركان التي تحدث هنا وهناك في بقاع العالم، بعد اشتداد الحرارة، حرارة الصراع الدائرة رحاه بين مكونات بنيات الحقول المجتمعية الوطنية والدولية.
الأزمة الروسية الأوكرانية المشتدة إلى حدود دق طبول الحرب ليست وليدة متغيرات ومعطيات الراهن الحاضر، بل تمتد جذورها إلى سابق الأزمنة التي عايشتها المنطقة، سواء في الأمد القريب أو البعيد، لذا فالأزمة الروسية الأوكرانية أزمة جد معقدة ومتشابكة بإحداثياتها وفواعلها سابقا وراهنا، تتعلق بالداخل الأوكراني، من جهة، وبالصراعات الإقليمية، من جهة ثانية، وبالصراعات الأوربية الغربية والأمريكية مع روسيا حول مناطق النفوذ وعمليات سياسات الردع والتطويق وضمان المصالح الإستراتيجية، كل من جانبه، أزمة مُركبة متعددة الجوانب، فضلاً عن أنها مُعقدة، تصاعدت في الأسابيع الأخيرة انطلاقًا من أوكرانيا إلى آفاق أوسع. في هذه الأزمة بُعد داخلي نجده في الانقسام العرقي- الثقافي- السياسي، الذي ظهر بوضوحٍ أكثر من ذي قبل منذ ثورة 2005 التي تختلف التقديرات بشأنها. وأنتج هذا الانقسام صراعًا أخذ في التصاعد بعد سيطرة روسيا في 2014 على شبه جزيرة القرم أو احتلالها، إذ تختلف التسمية حسب الموقف وطريقة التفكير، وهو أمر مفهوم في أزمة مُركبة ومُعقدة. لم يضع اتفاق مينسك 2015 حدًا لهذا الصراع، بل أخذت تجلياته المُسلحة المحدودة في التصاعد بعده.
وفى الأزمة أيضًا بُعد إقليمي يُفترض أنه الأساس فيها، لأنها تدور حول وضع أوكرانيا في أوروبا. غير أن تعقيدات الصراع جعلت بُعده الدولي أقوى وأكثر تأثيرًا في مساره، فصارت تفاعلاته الأساسية مُنصبةً على موقع أوكرانيا في معركةٍ أكبر تتعلق بمستقبل النظام العالمي. ولهذا بات السؤال المحوري في هذا الصراع هو: هل تلتحق أوكرانيا بالتحالف الغربي- الأطلسي، أم يُستعاد النفوذ الروسي فيها وإن بطريقةٍ مختلفة عما كان سواء قبل 2005 أو قبل 1990، أم تُصبح حاجزًا بين الطرفين تحت عنوان (لا شرقية ولا غربية) الذي ابتُذل بسبب استخدامه المُفرط حتى بات بلا معنى.
وهكذا يتداخل البُعدان الداخلي والإقليمي مع البُعد الدولي حينًا، ويبدو كما لو أنهما يذوبان فيه حينًا آخر. ولكن المحصلة أن الأزمة الأوكرانية صارت عالمية أكثر منها أوروبية أو داخلية “(1).
فموقع أوكرانيا الجغرافي متميز واستراتيجي في المنطقة مع خطوط التماس المفتوحة أبوابها على مصراعيها من كل الجهات الجغرافية شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، مساحتها شاسعة، ولها من الإمكانيات والمقدرات الاقتصادية والثروات الطبيعية ما يسيل لعاب القوى الدولية الفاعلة على المسرح الدولي، وما تتطلع إليه بالعمل على تحقيق المصالح والأطماع لكل منها.
ومن هنا تطرح عدة أسئلة جوهرية بصدد الحرب الروسية الأوكرانية، منها، هل بالضرورة كان إعلان الحرب على أوكرانيا من قبل روسيا خيارا اضطراريا لا محيد عنه أم أن خيارات أخرى ذات طابع سلمي كانت أوفر الحظوظ في علاقات الأوكرانيين بالروس؟ هل النخبة السياسية الأوكرانية نخبة رجالات دولة بامتياز، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى لمفهوم النخبة، ومعها النخبة العسكرية؟ ما دور الفاعل الخارجي في افتعال الأزمة إلى حدود إعلان روسيا الحرب وشنها على أوكرانيا بكونه أمرا واقعيا وذات دلالة قوية على افتعال الأزمة وإشعال فتائل الحرب الضروس بين روسيا وأوكرانيا؟
أسئلة وأخرى تطرح على كل ألسنة المتتبعين والإعلاميين والمهتمين والمثقفين والمفكرين والفلاسفة، كل من وجهة نظره وتصوره ورؤيته الخاصة في فهم وتفسير وتأويل الأزمة / الحرب الأوكرانية الروسية، وتفاعلاتها المتشابكة، ومدى امتداداتها الإقليمية والدولية، مع استقراء مسارات التعامل لكل دول العالم مع الأزمة التي باتت تهدد بما يمكن تقويض وتدمير البشرية بأعنف الوسائل، خاصة مع تهديد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستخدام ترسانته النووية في مواجهة قوى التحالف الأطلنطي، والتي لا يمكن الإجابة عنها في هذه الورقة، فقط محاولة منها الإجابة على بعض منها والنظر إلى الموضوع من زاوية ما يحيل إليه عنوانها.
أوكرانيا والنخبة السياسية :
في الغالب أي انهيار لأي نظام سياسي عبر التاريخ يخلف كثيرا من الفوضى وعدم الاستقرار، ما تلبث عمليات البناء تلقى أمامها العديد من الصعوبات والعراقيل، بحسب بنيات المجتمع الاجتماعية والنفسية والثقافية والاقتصادية والسياسية السائدة ومدى ارتباطاتها وتفاعلاتها .. فتكون مسارات التحول عويصة وصعبة للغاية، وتفرض اشتراطات مختلفة عن سابقاتها المعهودة في عمليات التوافقات الممكنة، مما يفرض رؤى وتصورات يتجاوز بها الأزمات السياسية من طرف كل الأطراف المتنازعة على كيفية البناء السياسي لنظام سياسي ما، بحيث يطرح سؤال النخبة السياسية، النخبة التي تتولى إعادة البناء السياسي لكيان مجتمعي ما، والعمل على إرساء مؤسسات الدولة على أسس شرعية متينة، وقد تفشل كل المساعي والجهود المبذولة ليرتهن الجميع في دورات حلزونية واجترار الأزمات المتتالية.
ففي هذا الإطار يمكن فهم الوضع الأوكراني وعلاقته بالنخبة السياسية للبلاد، سواء في ظل الأزمة الراهنة أو فيما سبق بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أوكرانيا كانت إلى عهد قريب تحت مظلة نظام سياسي بداخل كتلة شكلت قطبا عالميا تجاذب مع طرف نقيض اللعبة العالمية، في صراع محتدم بين منظومتين، واحدة اشتراكية شيوعية، وهي التي كانت أوكرانيا تحت سقفها بتوجهاتها وتصوراتها، وأخرى رأسمالية ليبرالية تستقطب أتباعا لها بدورهم اختاروا إيديولوجيتها في كل حقول السياسة والسوق والثقافة.
ومن الطبيعي أن الانتقال من طور إلى طور سيكون له ثمنه الخاص وتكلفته المغايرة على ما سبق من مراحل ما، في السياسة، والاجتماع، والاقتصاد، والثقافة، والأيديولوجية .. هذا ما كان من أقدار أوكرانيا التي استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه، وجدت نفسها على حين غرة، كما غيرها من الدول التي كانت تتبنى الأيديولوجية الاشتراكية وتشكل حلفا قائم الذات، في مرحلة جديدة، استوجبت إدخال متغيرات أخرى لم تكن معهودة في سابق الأزمنة، وفرضت عليها شروطا أخرى في إطار التحولات العالمية والانبهار بالنموذج اللبرالي، المتبنى من طرف الكتلة النقيض للمعسكر الاشتراكي الذي كانت أوكرانيا تحت مظلته عقودا من الزمن، بعد انتصار حلف الأيديولوجية اللبرالية، رأسماليا / اقتصاديا، سياسيا، أيديولوجيا.
من هنا طرحت إشكالية النخبة السياسية في أوكرانيا، في إطار زحم من المعطيات الجديدة وحزمة من العوامل الفاعلة في تشكيل وبناء النظام السياسي الأوكراني الكفيل بالسهر على مصالح الدولة والشعب معا، مما يعني صناعة وإنتاج القيادة السياسية المؤهلة لخوض غمار التحولات الطارئة والإصلاح السياسي والاقتصادي والعمل على إحلال قيم جديدة بدل ما كان سائدا في السابق، .. في ظل موجات السوق اللبرالية / الرأسمالية، والقيم الديمقراطية المنتجة من قبل المنظومة اللبرالية في نسختها القديمة والجديدة.
وباعتبار النخبة ” جماعة من الأشخاص يتم الاعتراف بقوة تأثيرهم وسيطرتهم في شؤون المجتمع الذي تشكل النخبة فيه أقلية حاكمة يمكن تمييزها عن الطبقة المحكومة وفقاً لمعيار (القوة والسلطة) بدلالة تمتعها بسلطان القوة والنفوذ والتأثير في المجتمع أكثر مما تتمتع به الطبقة المحكومة فيه، وذلك بسبب ما تمتلكه هذه الأقلية من مميزات القوة والخبرة في ممارسة السلطة والتنظيم داخل المجتمع الأمر الذي يؤهلها لقيادته2.
أيضا تعرف النخبة السياسية على أنها (المجموعة التي تتمتع بإمكانيات فكرية وإبداعية على تسيير الشؤون السياسية أكثر من غيرها من أفراد المجتمع وتـأخذ أشكالاً متعددة حسب التفسيرات التي قامت على أساسها انطلاقا من الحالة الاقتصادية أو الاجتماعية أو التنظيمية أو التمثيلية لهذه المجموعة .
وتخضع هذه النخبة لقانون التغيير والتبدل وفقا لمقتضيات التطور الذي تمر به مجتمعاتها على أساس دورة انتقالية يتم من خلالها استبدال نخب وإحلال نخب جديدة وفقا لإلية يكون الهدف منها تحقيق التوازن الاجتماعي بمفهومه الشامل و المحتوي للواقع السياسي ، الاقتصادي ، الاجتماعي ، التنظيمي 3.
النخبة السياسية تمثل المتغير المستقل الذي يقود وراءه مجموعه كبيرة من المتغيرات التابعة في كافة التفاعلات السياسية الجارية في بلد ما ، ولذلك حرصت الأدبيات السياسية على التأكيد على حقيقة هامه وهى ” انه لا يوجد نظام سياسي في أى مكان من العالم يخلو من نخبة “4.
لقد أبانت الأزمة الأوكرانية عن مدى محدودية النخبة السياسية المتدنية في أدائها الأدوار الكفيلة بتبوء أوكرانيا المقام ذي الكعب العالي في سلم الهرم الإقليمي، وفقدانها للرؤية الوازنة لجغرافيتها السياسية الإقليمية والدولية، وكذا انعدام الأفق الإستراتيجي في علاقاتها بالقوى الدولية، لما لها من خصائص عدة تتميز بها من حيث مواردها وقدراتها وطاقاتها الواعدة في الهرم الإقليمي والدولي، إذ لم تستثمر بشكل جيد وعقلاني، نظرا لفقدان نخبتها السياسية الخبرة والتمرس على تدبير وتسيير شؤون المجتمع والدولة معا، سواء في بعديهما الداخلي أو الخارجي، مما يسمح بالقول إن أوكرانيا تفتقد إلى القيادة اللازمة لاستثمار كل ما تزخر به البلاد من خيرات مادية ومعنوية، والعمل على تجنب القلاقل الداخلية وارتهاناتها الخارجية الملغومة.
وبالعودة إلى سياقات الأزمة الأوكرانية الروسية يتبين بشكل واضح أن النخبة السياسية الأوكرانية لم تعمل على احتواء وتطويق الأزمة القائمة سواء داخليا أو في علاقاتها مع روسيا، مما يتطلب قيادة سياسية لها من الإمكانيات والقدرات الذاتية والرؤى المدروسة على طاولة العقل السياسي والاستراتيجي الواعي بكل المخاطر والانزلاقات الممكنة، والقارئ باستباقية لما ينتج عن تفاعلات الأطراف والقوى الدولية التي تتنازع المراكز والمواقع الإستراتيجية والموارد والأطماع السياسية والاقتصادية في كل بقاع المعمورة.
بالمحصلة، إن أوكرانيا وقعت ضحية تفكير وتصورات نخبتها السياسية، وكبش فداء لأطماع القوى المتنازعة، خاصة من جانب القوى الغربية الفاعلة، الأوربية والأمريكية، هذه الأخيرة حاولت بكل قواها المسخرة جذب أوكرانيا إلى حظيرتها الاقتصادية وضمها إلى حلفها العسكري ” الناتو”، مما أثار حفيظة الدب الروسي في لعبة جد معقدة ومتشابكة مع الحلف الأوربي / الأمريكي.
أطماع التحالف الغربي: أوروبا وأمريكا
كان لانهيار الاتحاد السوفياتي سابقا وتفككه نتائج هامة لصالح القوى الغربية، مما سمح لها بالتوسع والانتشار ونهج استراتيجيات جد هامة في تاريخ العلاقات الدولية، وإعادة تشكيل جيو- سياسي وجيو- استراتيجي إقليميين ودوليين على جميع الجبهات، وخاصة بجغرافية الجمهوريات المستقلة عن الكيان السوفياتي المنهار، وعلى هذا الأساس غدا مجال إرث منظومة الاتحاد المنهار والمفكك مجالا حيويا للقوى الغربية، فأصبحت لها موطئ قدم على خطوط التماس مع روسيا، البلد الذي سيعرف أزمة بنيوية مست كل مجالات وبنيات المجتمع والدولة، الأمر الذي حجب قوة روسيا / الدولة الوريث لمخلفات الانهيار والتفكك لمدة زمنية ليست بالهينة
علاوة على انهيار حلف وارسو العسكري، حلف روسيا وأتباعها، صالت إبانها وجالت القوى الغربية التي تشكل المنظومة الرأسمالية/ اللبرالية وضمنها التحالف العسكري الناتو، في كل بقاع أوروبا الشرقية وفضاء جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا، وهو ما جعل الدور الروسي يتقلص إلى أبعد حد في عمليات التأثير والفاعلية في المنظومة الدولية برمتها، لئن كان قد هزم في عقر داره وأضحى مجالا خصبا كمادة دسمة على مائدة القوى الغربية فكيف به أن يجدد أنفاسه أو يحاول العراك والصراع على خريطة المواقع الجيو- ستراتيجية وهو في وضع صحي منهار، خاصة في مرحلة الرئيس الأسبق بوريس يلتسن، ومنشغلا بتصفية ما ورثه عن مرحلته الاتحادية السابقة في علاقاته بالجمهوريات المستقلة وإعادة ترتيب علاقاته بدول أخرى كانت منضوية تحت لواء المعسكر الاشتراكي.
إلا أن الشيء الوحيد الذي كان يحسب له في عز الأزمة الخانقة هو تملكه إرثا نوويا ومنظومة صواريخ تقارب كفة القوى الغربية في هذا المجال، حيث إن مرحلة الحرب الباردة شاهدة على هذا الصراع من داخل فاعلية هذه المنظومة العسكرية والنووية وعلاقاتها بمواقع القوة على كل الأصعدة الإقليمية والدولية، إذ حضورها المكثف في سياقات الصراع كان له الأثر البليغ في ميزان القوى الدولي حينئذ، في حين أن تحالف الناتو بقي واقفا على رجليه، وسعى إلى ضم العديد من الدول التي كانت سابقا بداخل حلف وارسو.
في عام 2005، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاب له أمام البرلمان إن انهيار الاتحاد السوفيتي كان أسوأ كارثة جيو- سياسية في القرن العشرين. قبل ذلك بعام واحد، كانت سبع دول قد انضمت لحلف الناتو: بلغاريا واستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا. وفى عام 2009، انضمت ألبانيا وكرواتيا. وفى عام 2017، انضمت الجبل الأسود. وأخيراً في عام 2020، انضمت مقدونيا الشمالية. بهذا اكتمل انضمام كافة دول أوروبا الشرقية، وتبلور اتجاه واضح من الحلف لضم كلٍ من جورجيا وأوكرانيا، وهو ما تعارضه روسيا باعتبارهما المجال الحيوي لروسيا الاتحادية التي ورثت الاتحاد السوفيتي عملياً، وأحبطت الحرب في جورجيا 2008 ضمها للحلف، وحالياً تشكل الحرب في أوكرانيا العملية الرئيسية لإفشال هذا المشروع تماماً” (5)، ناهينا عن العمل على توسيع قاعدة الاتحاد الأوربي من قبل أعضاء الاتحاد.
ليس هذا فحسب، بل ما تزخر به الجمهوريات المستقلة من إمكانيات ومقدرات وخيرات اقتصادية وطبيعية ومواردها الغنية والمتنوعة، كان له وقعه في مخططات الكيانات الغربية عموما وخاصة القوى الفاعلة والحاضرة بقوة في سلم المنظومة الغربية، حيث هنا تطرح مسألة أوكرانيا على محك ميزان القوى بين روسيا الاتحادية والقوى الغربية، كما في أبعادها الجيو- إستراتيجية والجيو- سياسية لكلاهما، فأوكرانيا بلد غني وزاخر بالموارد الطبيعية والاقتصادية، مما حمل القوى الغربية على السعي إلى ضمها إلى الإتحاد الأوربي و حلف الشمال الأطلسي، في إطار صراع الأقطاب والأحلاف على المواقع والموارد على اختلافها، وعلاقاتها بمخططات سياسات الاحتواء الاستراتيجي الغربية لمنافذ روسيا الاتحادية ومحاصرتها عند خطوط التماس مع الجمهوريات الجارة لها.
أوكرانيا لها من الإمكانات الاقتصادية والزراعية والتعدينية والصناعية يؤهلها إلى مراتب عالية في سلم الاقتصاديات الإقليمية والدولية الرائدة، حيث أن مواردها وإمكاناتها هذه خلق نوعا من الانجذاب لدى الدول الأوربية وأمريكا وقوى أخرى بما فيها روسيا الاتحادية كقوة عالمية معنية بهذا الصراع على ضوء مفهوم المجال الحيوي لكل قوة على حده، بحسابات إستراتيجية وجيو- سياسية.
ففي مجال الزراعة ” تمتلك أوكرانيا قدرات زراعية كبرى تمثل أهمية على المستوى العالمي في عدد من المنتجات، حيث تمثل صادرات القطاع نحو 45% من إجمالي الصادرات الأوكرانية، بينما تصل مساحة الأراضي الصالحة للزراعة إلى أكثر من 40 مليون هكتار. بلغ إنتاج الحبوب إجمالا نحو 50 مليون طن، من بينها 28 مليون طن من القمح وصادرات بلغت نحو 18.1 مليون طن جعلتها تحتل المركز السادس عالميا في صادرات القمح والرابع في صادرات الذرة، بينما احتلت المرتبة الثالثة من حيث كمية الإنتاج، والمركز الثاني عالميا في إنتاج الشعير والرابع في صادراته.
كما تحتل المركز الأول عالميا في صادرات زيت دوار الشمس، والثالثة عالميا في إنتاج وتصدير العسل بنحو 81 ألف طن سنويا، بينما بلغت صادرات الفواكه نحو 55 ألف طن، واللحوم 450 ألف طن، والدواجن 431 ألف طن.
وفي قطاع التعدين أنتجت نحو 60 مليون طن من الحديد تحتل بها المرتبة السادسة عالميا والثانية عالميا من حيث الاحتياطي بنحو 30 مليار دولار، كما تحتل المرتبة الثانية أوروبيا في الاحتياطي من الزئبق، والأولى في الكبريت والعاشرة عالميا في احتياطيات خام التيتانيوم.
صناعيا، تحتل أوكرانيا المرتبة الرابعة عالميا في تصدير توربينات محطات الطاقة النووية والـ12 في مجال صادرات السلاح بنحو مليار دولار، حيث ورثت عن الاتحاد السوفييتي السابق نحو 30% من مصانعه توظف فيها نحو 700 ألف شخص”(6).
بالنتيجة، لقد كان للقوى الغربية نصيب في افتعال الأزمة الروسية الأوكرانية إلى حد دق طبول الحرب، ولم تسعف الجهود والجولات الدبلوماسية في إيقاف نزيف التوترات والمناورات والحرب السياسية/ الدبلوماسية بين أوكرانيا وروسيا، من جهة، وبين روسيا والقوى الغربية، من جهة أخرى، وما زاد الطين بلة حين وعدت القوى الغربية بدعم أوكرانيا والوقوف إلى جانبها في حالة شن الحرب عليها من قبل روسيا، فأوقعتها هذه الوعود في أوهام لم تنفع معها تظلمات واسجتداءات الرئيس الأوكراني واتصالاته المتكررة برؤساء كل الدول الأوربية في الاتحاد الأوربي ومعها الولايات المتحدة الأمريكية والحلف الأطلسي، وما تقدمه في غضون هذه الحرب الضروس الدائرة رحاها على أرض أوكرانيا من دعم بالعتاد العسكري على قلته ومدى محدودية فاعليته في ساحة الحرب، ومساندة دبلوماسية وفرض سياسات العقوبات الاقتصادية على روسيا، لم يكن هو المنتظر منها حين وثقت الحكومة الأوكرانية منذ بداية النزاع بكلام الغربيين.
ختاما:
تعتبر النخب السياسية على اختلاف مشاربها هي الرافد لكل مشروع مجتمعي، إذا ما تسلحت بالرؤية والإرادة والعزم على تنفيذ كل مشاريعها المترابطة والمتداخلة بين مجالاتها، سياسيا، اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا، وأيديولوجيا، في عمليات تسيير شؤون البلاد عامة، داخليا وخارجيا، وهو المحدد الهام في وضعية أوكرانيا الراهنة سلبا على أساس تصورات ورؤى نخبتها السياسية، سواء في علاقاتها بروسيا أو في علاقاتها مع القوى الغربية وغيرها من القوى الأخرى، حيث أبانت عن ضعفها في تسيير البلاد وانعدام الرؤية الإستراتيجية لبلد بحجم أوكرانيا الزاخر بالإمكانات والموارد الغنية، نخبة غير متمرسة وقصيرة النظر والأفق، مما جعلها مسرحا لتجاذبات القوى التي تريدها مجالا حيويا في استراتيجياتها ومخططاتها بالأخص أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، اقتصاديا وعسكريا واستراتيجيا، الأمر الذي دفع روسيا إلى خيار الحرب وخلق صراعا دمويا بينها وبين روسيا، لاشتراطات هذه الأخيرة، التي لم ولن تهضم مساعي أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوربي وسعيها إلى عضوية حلف الشمال الأطلسي، ضاربة عرض الحائط كل أطماع وأهداف القوى الغربية على كل الجبهات السياسية والاقتصادية والجيو- إستراتيجية، معتدة بقواها العسكرية والنووية – وغيرها من الإمكانات الأخرى، كالطاقة والغاز والحبوب.. – ألم يهدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالسلاح النووي، وجعله في وضعية تأهب قصوى في حالة تمركز ترسانة القوى الغربية والحلف الأطلسي العسكرية في نقطة من نقاط مجالاتها واستعدادها الفعلي لشن ضربات على روسيا أو الدخول إلى المجال الأوكراني ومواجهة روسيا عسكريا على الأرض؟
1 د. وحيد عبد المجيد، الرابط :
https://acpss.ahram.org.eg/News/17397.aspx
من باب الأمانة العلمية، هذه التعريفات مأخوذة عن رابط المقال التالي :
أميرة مصطفي – باحثه في العلوم السياسية
https://democraticac.de/?p=61677
2 محمد شطب : “النخبة السياسية وأثرها في التنمية السياسية” ، مجلة جامعة تكريت للعلوم القانونية والسياسية ، العدد 4 ، 2013، ص2
3 المرجع السابق، ص3.
4 محمد عز العرب منيب: النخبة السياسية والتحول الديمقراطي فى البحرين ( 1992-2002) ،رسالة ماجستير ، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، جامعة القاهرة ، 2008، ص76.