المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > تقدير موقف > حفتر وخطاب تقرير المصير: قراءةٌ في دلالات التوقيت والرسائل السياسية
حفتر وخطاب تقرير المصير: قراءةٌ في دلالات التوقيت والرسائل السياسية
- نوفمبر 12, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات تقدير موقف وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات

إعداد: رضوى الشريف
منسق وحدة شؤون الشرق الأوسط
في خطابٍ لافتٍ ألقاه المشير خليفة حفتر في مدينة بنغازي، الأربعاء 5 نوفمبر الجاري، أمام شيوخ وحكماء قبيلة الزنتان، أعاد القائد العام للقوات المسلحة الليبية طرح رُؤْيته للأزمة الوطنية عبْر دعوة الليبيين إلى ما وُصف بـ”إشعال الضوء الأحمر لتقرير المصير”، في لهجةٍ تصعيديةٍ حملت دلالات على استعداد القيادة العامة لتغيير قواعد اللعبة السياسية في البلاد، كما اعتبر حفتر أن ليبيا بلغت مرحلةً حَرِجَةً تتطلَّب “قرارًا حاسمًا” بعد فشل المبادرات المحلية والدولية في تحقيق الاستقرار، مؤكدًا أن البلاد لن تُبْنَى ما دام الصراع على السلطة مستمرًا، وأن السبيل الوحيد لبناء الدولة يمُرُّ عبْر تحرُّكٍ شعبيٍّ سلميٍّ “تحميــــــــــــــــــــــــــه القـــــــــــــــوات المسلحـــــــــــــــــــــة”، على حدِّ تعبيره.
ويجد بالذكر هذا الخطاب كان امتدادًا لخطاب سابق أصدره قبْل أيام قليلة خلال لقائه بمشايخ وأعيان مدينة ترهونة؛ حيث شدَّدَ حفتر فيه بأن “كل من يقف في وجْه اختيارات الليبيين سيجد نفسه في مواجهة القوات المسلحة”،[1] وهو ما أضفى على كلماته طابعًا يتجاوز الخطاب الرمزي إلى إعادة تعريف العلاقة بين الإرادة الشعبية والدور العسكري، في إطار طرْحٍ يُقدِّمُ المؤسسة العسكرية كضامنٍ لمشروع بناء الدولة وليس كطرفٍ متنازعٍ على السلطة.
وجاء الخطاب ضِمْن سياق سلسلة تحرُّكاتٍ اجتماعيةٍ وميدانيةٍ واسعةٍ للقيادة العامة، شملت لقاءات متعددة مع مُكوِّنات قَبَلِيَّة واجتماعية من مناطق مختلفة، أبرزها الجنوب الليبي؛ حيث أُطلقت مبادرة “معًا من أجل الجنوب” لتعزيز التواصل مع قبائل فزان وتحديد احتياجات المنطقة، كما أوْفدت القيادة العامَّة وفْدًا رسميًّا للوقوف على هذه الاحتياجات، في خطوةٍ تحمل أبعادًا سياسيةً تُظْهِرُ حِرْص القيادة العامة على توسيع شبكات الدعم القَبَلِيِّ وتثبيت حضور المؤسسة العسكرية في النسيج الاجتماعي، وفي نفس الإطار، كثّف صدام حفتر، نائب القائد العام للقوات المسلحة الليبية، لقاءاته مع أعيان أوباري.[2]
دلالات التوقيت
يأتي خطاب المشير خليفة حفتر في توقيتٍ بالغ الحساسية، تزامن مع تصاعُد الانقسامات بين المؤسسات السياسية الليبية، وتفاقم الجدل حول القوانين المنظمة للعمل الدستوري، بما في ذلك الخلاف حول تشكيل المحكمة الدستورية وقرارات مجلس النواب الأخيرة؛ فقد أدَّى إعلان المجلس الرئاسي تشكيل لجنة لمراجعة تلك القوانين إلى إشعال سجالٍ واسعٍ حول الصلاحيات الدستورية، وسط مخاوف من أن تؤدي هذه الخطوة إلى تهديد وحْدة القضاء وتكريس الانقسام المؤسسي بين طرابلس وبنغازي.
كما يأتي الخطاب بالتزامن مع تبادُل الاتهامات بين حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها في طرابلس، والحكومة المُكلَّفة من البرلمان في الشرق بشأن “افتعال أزمات دستورية لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة”،[3] في مؤشرٍ على هشاشة الإطار القانوني الذي يُفترض أن يقود العملية الانتقالية.
وتزامن الخطاب أيضًا مع حالة ارتباك واضحة داخل مجلسيْ “النواب والدولة”، في ظِلِّ فشل الطرفين في التوافُق على قاعدة انتخابية، وتزايُد الأحاديث حول احتمال تغيير رئاسة مجلس النواب نفسه؛ ما يعكس اهتزاز المشهد التشريعي وتراجُع الثقة العامَّة في الأجسام السياسية القائمة.
على الجانب الأخرى، يأتي الخطاب بالتزامن مع الارتباطات الجارية لإطلاق “الحوار الأممي المهيكل” خلال شهر نوفمبر الجاري، هذا المسار، الذي روَّجت له البعثة الأممية باعتباره محاولةً جديدةً لإعادة تحريك المياه الراكدة، تلقَّى ضربةً مبكرةً بعْد تصريحات نائبة رئيسة البعثة للشؤون السياسية، ستيفاني خوري، التي أشارت بوضوح إلى أن مُخْرجات الحوار “غير ملزمة”[4]؛ إذ أثار هذا التصريح موجة واسعة من الجدل والتشكيك في جدْوى العملية السياسية المنتظرة، وأعاد التذكير بتجارب ليبية سابقة – كاتفاق الصخيرات – انتهت نصوصها عاجزة عن فرْض حلولٍ على الأطراف المتنازعة.
أمَّا إقليميًا، يلاحظ أن الخطاب جاء في مرحلة تشهد فيها الدول المجاورة لليبيا تحوُّلات متسارعة، خاصَّةً في السودان؛ ما دفع حفتر إلى إعادة التأكيد على أن استقرار ليبيا لن يتحقق إلا بوجود مؤسسة عسكرية قوية قادرة على حماية حدود الدولة ومنْع تمدُّد الفوضى الإقليمية.
الرسائل السياسية
يحمل خطاب حفتر جُمْلةً من الرسائل السياسية الدقيقة التي يمكن تصنيفها ضمن خمسة نقاط رئيسية مترابطة، تعكس كل منها وجْهًا من أوْجُه التحوُّل في الخطاب السياسي للقيادة العامة:
تأكيد دور القوات المسلحة كضامن للشرعية الوطنية:
ركَّزَ حفتر في كلمته على إبراز القوات المسلحة باعتبارها المؤسسة الوحيدة القادرة على حِفْظ وحْدة البلاد ومنْع انهيارها، مُشدِّدًا على أنها “لن تقف مكتوفة الأيدي أمام من يعبث بمصير الليبيين”، هذا التأكيد يُمثِّلُ إعادة صياغة لدور الجيش من مجرد فاعلٍ أمنيٍّ إلى ضامن سياسي للشرعية الوطنية، وهو تحوُّلٌ جوهريٌّ يُعِيدُ للواجهة النقاش حول موقع المؤسسة العسكرية في مرحلة ما بعد التسوية.
بهذا المعنى، يبدو أن حفتر يسعى إلى ترسيخ تصور يقوم على أن أيَّ عملية سياسية لن تنجح دون مظلَّةٍ أمنيةٍ تُوفِّرُها المؤسسة العسكرية، وأن الجيش ليس طَرَفًا في المعادلة السياسية بل الإطار الضامن لاستقرارها، كما أن توجيه الخطاب أمام القيادات الاجتماعية والقبلية يهدف إلى كسْب تأييدٍ مجتمعيٍّ لهذه الرُّؤْية الجديدة.
إعادة طرْح مفهوم الشرعية الشعبية كبديل للمسارات السياسية المُعطَّلَة:
يتبنَّى الخطاب بوضوح فكرة أن الإرادة الشعبية باتت مُغَيَّبةً عن مسارات الحوار الأممية والسياسية، وأن الوقت قد حان لإعادة تمكينها من تقرير مصيرها، وبهذا الطَّرْح، يحاول حفتر أن يُعِيدَ توجيه النقاش السياسي من المؤسسات المتنازعة إلى “الشعب الليبي”، في خطوةٍ تحمل رسائلَ مهمةً؛ فهي من جهة، تُوظِّفُ الخطاب الشعبوي لاستعادة الثقة الشعبية، ومن جهة أخرى، تُبرِّر تحرُّكًا سياسيًّا مستقِلًّا عن المؤسسات القائمة بحجة الاستجابة للإرادة العامة، وبذلك يطرح حفتر مفهوم “الشرعية الشعبية” كغطاءٍ سياسيٍّ لأيِّ خطوات مستقبلية قد تتخذها القيادة العامَّة، سواء في شرق البلاد أو على المستوى الوطني الأوسع.
إنذارٌ للنُّخَب السياسية ومؤسسات الدولة المنقسمة:
يحمل الخطابُ أيضًا لهْجةً تحذيريةً واضحةً للنُّخَب السياسية في طرابلس وطبرق على حدٍّ سواء؛ إذ حمَّلَها حفتر مسؤولية الفشل في بناء الدولة، واتهمها بإضاعة الفُرَص المتكررة لتحقيق الاستقرار، وبتأكيده أن الجيش لن يسمح لأحدٍ بعرقلة إرادة الليبيين، يحمل إشارة ضمنية إلى أن القيادة العامة مستعدة للتحرُّك إذا استمر الجمود السياسي، وهذا التحذير لا يعني بالضرورة التهديد باستخدام القوة، بل هو توظيفٌ محسوبٌ للغة القوة لتوجيه رسالة بأن المؤسسة العسكرية لن تبقى على الهامش في المرحلة المقبلة.
التلويح بخيار الحسم في حال استمرار الجمود السياسي:
يحمل خطاب حفتر بين سطوره تلميحًا إلى احتمال اللجوء إلى خطوات ميدانية أو سياسية أكثر حسْمًا إذا استمر تعطيل المسار السياسي؛ فإشارته إلى “تقرير المصير” لا يمكن قراءتها بمعْزِلٍ عن سياقٍ متصاعدٍ من الاحتقان في الشرق الليبي؛ حيث تبرز دعوات شعبية لإدارة موارد الإقليم بشكلٍ مستقلٍّ، ورغم أن حفتر لم يتبنَّ صراحةً خيار الانفصال أو الفيدرالية، أو حتى الإعلان عن عملية عسكرية نحْوَ طرابلس مثلما حدث في 2019، إلَّا أن استخدامه لمصطلح “تقرير المصير” في هذا التوقيت يُمثِّلُ رسالة ضغط مُوَجَّهة إلى المجتمع الدولي وإلى حكومة طرابلس على السواء، مفادها أن استمرار الوضْع الراهن قد يدفع القيادة العامَّة إلى تبنِّي خيارات أكثر حزْمًا، وهذه الرسالة تعكس استراتيجية الضغط بالتصعيد دون تجاوز الخطوط الحمراء، وهو أسلوب استخدمه حفتر مرارًا في مراحل سابقة لإعادة ضبْط التوازنات الداخلية.
التأكيد على استقلال القرار الليبي في مواجهة الوصاية الدولية: