تشهدُ السياسةُ الخارجيةِ السعودية تحولاتٍ نوعيةً مُنذ تولي الأمير “محمد بن سلمان بن عبدالعزيز” ولاية العهد 2015، مُستندةً إلى رؤية المملكة ٢٠٣٠ التي تُوازن بين السعي لتحقيق الأمن القومي ومُواكبةِ التغيراتِ المتسارعة في إقليم الشرق الأوسط، حيث يُعد الشرقُ الأوسط،ُ بوصفه صفيحًا ساخنًا من التوترات السياسية والأمنية، محورًا أساسيًا في اهتمامات الرياض التي تضع أمنها الإقليمي ضمن أولويات سياستها الخارجية السياسة الخارجية السعودية، وذلك من خلال السعي إلى تحقيق دورٍ رياديٍ على المستويين الإقليمي والدولي، وفي المقابل، تُواجهُ المملكةُ تحدياتٍ مُركبةً تضع الأمن الإقليمي للمنطقة على المحك، تأتي الحرب الإسرائيلية في غزة على رأس هذه التهديدات لا سيَّما مُنذ هجوم السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣، ليس فقط لدورها في إعادة صياغة التوازنات الإقليمية، بل لارتباطها الوثيق بالقضية الفلسطينية التي طالما تُمثل أحدَ الأركان الرئيسية في السياسة الخارجية السعودية، بينما يطرحُ سقوطُ نظام “بشار الأسد” في سوريا مشهدًا جديدًا يُعيد رسْمَ ملامح الصراع الجيوسياسي في المنطقة، إلى جانب ذلك، تتفاقمُ الأزمةُ السودانيةُ مع تهديدات الحوثيين وأذرع إيران الممتدة في المنطقة لتضع الأمن السعودي أمام تحدياتٍ مباشرةٍ تتطلبُ استجابةً حاسمةً ومُتعددةَ الأبعاد، ومن هنا، ترتكز السياسة الخارجية السعودية على نهجٍ براغماتي يُزاوج بين الدبلوماسية النشطة واستخدام الأدوات الأمنية والاقتصادية لتعزيز استقرارها ونفوذها في المنطقة، والذي بدوره يُبرزُ المملكة كلاعبٍ رئيسيٍ في مواجهة الأزمات الإقليمية.
أولًا: ركائزُ السياسةِ الخارجية السعودية
تستندُ السياسةُ الخارجيةُ السعودية إلى مجموعةٍ من الركائز الاستراتيجية التي تُشكل أساسًا متينًا في توجيه المملكة نحو تعزيز دورها القيادي في المنطقة والعالم، وتوازنها بين القوة الصُلبةِ والناعمةِ لتحقيق مصالحها الوطنية، وهذه الركائز تتمثل في الآتي:
1- عدمُ التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى: يُشكلُ مبدأُ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أحد الأعمدة الأساسية للسياسة الخارجية السعودية، من خلال هذه القاعدة، تبتعدُ السعودية عن استخدام القوةِ أو الضغط السياسي للإملاء على الدول الأخرى حول خياراتهِا السياسيةِ أو الداخليةِ، وهو مبدأٌ مُستمدٌ من الشريعة الإسلامية وارتباط المملكة القوي بالمصالح الإنسانية والدينية التي تحرصُ على احترام حقوق شعوب الدول الأخرى في اتخاذ قراراتها بحرية، وقد تجسّدَ هذا المبدأ في سياسة المملكة تجاه دول مثل العراق وسوريا واليمن، حيث حاولت السعودية التركيزَ على تفعيل الدبلوماسية والتعاون الدولي لحلِّ النزاعات بشكلٍ سلميٍ دون أن تنخرطَ في المسائل الداخلية للدول إلا عند الضرورة الملُحة التي تمس بالأمن القومي السعودي.
2- حمايةُ الحدودِ السعوديةِ واحترام سيادتها: أمنُ المملكةِ العربية السعودية، بما في ذلك أمنُ حدودِها وحدودِ جيرانها في منطقة الخليج، يُعدُ الأولويةَ القصوى في سياستها الخارجية، سياسة الأمن القومي تضعُ المملكةَ أمام تحدياتٍ استراتيجيةٍ مُعقدة في سياقِ بيئةٍ إقليميةٍ غير مستقرة تتسمُ بتوتراتٍ كبيرة مثل تهديدات إيران والتوسع الإيراني في المنطقة، وكذلك تصاعد الأنشطة الإرهابية في بعض الدول المجاورة، تركيز المملكة على حماية أمنها القومي يتطلبُ المشاركة في التحالفات العسكرية، حيث قادت السعودية في مارس عام ٢٠١٥ “التحالف العربي في اليمن” [1] وجاء تدخل التحالف بناءً على طلب من الرئيس اليمني “عبد ربه منصور هادي”، لاستعادةِ الشرعيةِ في اليمن، عقب سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء، ومعظم محافظات الشمال اليمني وزحفهم نحو المحافظات الجنوبية، وهو ما يتماشى مع سياسة المملكة التي تهدفُ إلى استباقِ التهديدات والتفاعلِ مع كل المواقف بشكلٍ يحفظُ مصالحَ المملكة وأمنهَا القومي بشكلٍ مبدئي وفاعل.
3- أمنُ الخليجِ العربي والدور القيادي في مجلس التعاون الخليجي:تلعبُ المملكةُ العربيةُ السعودية دورًا رياديًا ومحوريًا في تعزيز الأمن والاستقرار لدول مجلس التعاون الخليجي، وهذا يحفّزُ الرياض على تنفيذ سياساتٍ أمنية واستراتيجية مشتركة، وهو ما يجعل من التعاون والتنسيق بين الدول الأعضاء أحدَ أهدافها الإستراتيجية لضمان الحماية الجماعية ضد المخاطر المختلفة، إضافةً إلى ذلك، تحرصُ السعوديةُ على أن يكونَ المجلس العربي والإسلامي منصةً للحوار والتعاون بين دول الخليج لمواجهة التدخلات الخارجية والتحديات السياسية، مساعدة البحرين والإمارات في مواجهاتٍ مع دولٍ معادية، مثل التدخل الإيراني في البحرين وحادثة إحراق أنابيب النفط في عام ٢٠١٧ [2]، تُبرزُ حجمَ التزام المملكة تجاه أمن المنطقة الخليج.
4- القضايا العربية والإسلامية أولوية المملكة:تحظىَ القضايا العربية والإسلامية بأهميةٍ خاصةٍ في السياسة الخارجية السعودية، تَعتبر المملكةُ أن استقرارَ العالمِ العربي والإسلامي جزءٌ لا يتجزأ من أمنها القومي، لذلك تُركز على دعم قضايا مثل القضية الفلسطينية وتهيئةِ المُناخِ لتحقيقِ التسوية السلمية لهذه القضية الشائكة، حيث تتبنى المملكة الدبلوماسية العربية الوحدوية، وتعملُ دائمًا على تعزيزِ العلاقاتِ مع الدول العربية الأخرى من خلال الاستثمار في مؤسساتٍ مثل “جامعة الدول العربية”، كما أن وضْعَ المملكة لسوريا والعراق وحتى أيضًا السودان في بؤرةِ اهتمام السياسة الخارجية يتفقُ مع تعهدها بأمن الدول العربية الأخرى ووحدتها الإقليمية.
5- تنويعُ الشراكاتِ الاقتصادية والانفتاحِ على التجارة العالمية :سعتْ المملكة العربية السعودية مؤخرًا إلى تفعيل التعاون الاقتصادي العالمي وتعزيز مواقفها كمركزٍ تجاريٍ دوليٍ عبر تنفيذ رؤية ٢٠٣٠، يتضمن ذلك الانفتاح على أسواقاً جديدةً من خلال استثماراتٍ ضخمةٍ، وتنمية مشاريع اقتصادية مشتركة مع دولٍ آسيويةٍ وأوروبيةٍ وحتى أفريقية، كما أن الرياض تمتلك حوافز عديدة للاستفادة من هذه العلاقات الثنائية بما فيها إرساءُ مشروعِ “نيوم لاين” وهي مدينة خطية لا يزيد عرضها عن ٢٠٠ متر وتمتد لمسافة ١٧٠ كيلومترًا على طول ساحل البحر الأحمر- وتعمل بالطاقة المتجددة وتسع تسعة ملايين شخص [3]، فضلًا عن تحقيق التنوع الاقتصادي وتقليل الاعتماد على النفط تزاوج معه تعزيز قدرة المملكة على قيادةِ دبلوماسيةٍ اقتصاديةٍ لتعزيز نفوذها السياسي على المستوى الدولي.
ثانيًا: التهديداتُ الأمنيةُ للأمن القومي السعودي
في السنوات الأخيرة، شهدتْ المملكةُ العربيةُ السعودية تصاعدًا ملحوظًا في التهديدات الأمنية سواء التي تؤثرُ بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ على أمنها الإقليمي وذلك على النحو الآتي:
1- التهديدُ الإيراني:تُمثلُ إيران تهديدًا جوهريًا للأمن الوطني والإقليمي للمملكة العربية السعودية، حيث ترتكزُ سياستها على مشروعٍ توسعٍي يعتمد على أدواتٍ مُتعددة منها السلاح النووي والصواريخ الباليستية والطائرات المُسيَّرة التي زادت من تصعيد التوتر في المنطقة، بالإضافة إلى استغلالها للأيديولوجيا الطائفية كوسيلةٍ لإضعاف الدول المجاورة وزعزعةِ استقرارها، حيث تُكرّس إيران دعمها لأذرعها في المنطقة مثل حزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي وجماعة الحوثي في اليمن من خلال التمويل والتسليح والتدريب، ومن هنا، أصبحت المملكة هدفًا رئيسيًا لهجماتٍ مباشرةٍ وغير مباشرة شملتْ تعطيلَ الملاحة البحرية والهجوم على مُنشآت النفط الحيوية، مثل منشأتي بقيق ورأس تنورة في ٢٠١٩ و٢٠٢١ على التوالي [4]، وهو ما أضرّ بمصالح الاقتصاد العالمي بجانب تهديد أمن المملكة الداخلي، ونتيجةً لهذا التصعيد، تجدُ السعوديةُ نفسها مضطرةً لتعزيز قدراتها الدفاعية في ظل إدراك محدودية الخيارات المباشرة للرد على هكذا هجمات.
2- جماعةُ الحوثي باليمن:تُعد جماعةُ الحوثي في اليمن أحدَ أخطر التهديدات التي تواجهُ المملكة العربية السعودية على الأصعدة العسكرية، الاقتصادية، والأمنية، مُنذ بداية النزاع في اليمن، نجحَ الحوثيون في تنفيذِ عدة عمليات اختراقٍ للحدود السعودية، رغم تماسك المملكة في صمودها على الحدود ونجاحها في منع العمليات البرية واسعة النطاق داخل أراضيها، فإن التهديدَ الأساسيَ كان يتجسد في الهجمات الجوية، حيث استمر الحوثيون في إطلاق صواريخَ وطائراتٍ مسيرةٍ عالية المدى تجاه المدن السعودية والمناطق الحيوية مثل المطارات ومنشآت النفط، هذا التهديد يمتد إلى المجال البحري أيضًا، حيث أثبت الحوثيون قدرتهَم على استهداف منشآتٍ نفطيةٍ في البحر الأحمر وكذلك مهاجمة السفن التجارية في المياه القريبة من الموانئ السعودية الرئيسية مثل جدة وينبع، ومع دخول الحوثيين على خط الحرب في غزة ضد إسرائيل ٢٠٢٣، جعل المملكةَ تواجهُ خطرًا مزدوجًا: من ناحية، تزايد النفوذ الإيراني في الجوار القريب، ومن ناحيةٍ أخرى، امتدَ تهديدُ الحوثيين إلى مستوياتٍ من الاستهدافات غير المحدودة عبر عدة جبهات، بما في ذلك الحرب النفسية والسياسية التي تسعى لزعزعة استقرار المملكة، ما يضيف بُعدًا آخر لهذا التهديد هو تورطُ الحوثيين في الحربِ الإقليمية في المنطقة، إذ أظهرت تطورًا استراتيجيًا بعد انضمامهم إلى المعسكر الإيراني، الأمر الذي كان له تأثيراتٌ كبيرةٌ على الأمن البحري في البحر الأحمر وأدى إلى إعادة تقييم السعودية لأمنها القومي.[5]
3- حزبُ الله في لبنان: يُشكل حزبُ الله تهديدًا مباشرًا للأمن القومي السعودي من عدة زوايا استراتيجية، أبرزُها تورطُه في دعم الجماعات الشيعية المعارضة داخل السعودية والبحرين، مما يعززُ التوتراتِ الطائفيةَ ويقوّضُ استقرار الممالك الخليجية، يُضافُ إلى ذلك توجيه السعودية أصابعَ الاتهام عدة مرات لحزب الله على أنه يوفر الأسلحة والتدريب والدعم العسكري المباشر للمتمردين الحوثيين في اليمن [6]، مما يطيلُ أمدَ الصراع المدمر ويشكّلُ تهديدًا للأراضي السعودية ويُمكّنُ وكيلاّ إيرانياً مباشراً على حدودها، هذه الأنشطة تضع الحزب في مواجهةٍ مباشرةٍ مع الرياض، التي تعتبره امتدادًا للنفوذ الإيراني في المنطقة، يسعى لتغيير ميزان القوى الإقليمي وتوسيعِ دائرة النفوذ الشيعي على حسابِ الأمن والاستقرار السعودي، علاوةً على ذلك، يمثّل الحزب نموذجًا لفكرة الدولة داخل الدولة، حيث يُضعفُ سيادةَ لبنان ويجعلُ من البلاد منصةً محتملةً لتنفيذ أجنداتٍ تستهدفُ المصالح السعودية، ما يرسخُ عداءً أيديولوجيًا واستراتيجيًا يصعب تجاوزه.
4- جماعةُ الحشد الشعبي بالعراق: يمثلُ العراقِ تهديدًا مُضاعفًا للأمن القومي السعودي على خلفية تزايد النفوذ الإيراني داخل العراق، وتنامي وجودِ الميليشيات الموالية لإيران مثل جماعة الحشْدِ الشعبي التي سبق وتمركزت قرب الحدود السعودية، وتحديدًا بين منطقة ١٦٠ والنخيب غرب الرمادي [7]، فيما شكلَ تهديدًا مباشرًا للعمق السعودي، هذا التهديدُ يتصاعدِ في ظل الدور الذي تلعبهُ “المقاومةُ العراقيةُ” على ضوء الحرب الإسرائيلية في غزة والتي هددت باستهداف البنيةِ التحتية للطاقة في المنطقة في أكتوبر ٢٠٢٤ [8]، وذلك في حال استهدفتْ إسرائيلُ قطاعَ الطاقة الإيراني، وهو ما يشملُ المنشآتِ الحيوية في السعودية، مما يوفرُ لها مبررًا محتملًا للتهديدات المستقبلية ضد مرافق الطاقة السعودية، إلى جانب ذلك، تشكّلُ فلولُ تنظيمِ داعش تهديدًا إضافيًا للمملكة، حيث إن عناصرَه السنيةَ المتطرفة قد تتسللُ عبر الحدود البرية الممتدة بين العراق والسعودية لتنفذَ هجماتٍ تستهدفُ أمنَ واستقرار المملكة. كما، يُمثل نفوذُ إيران في العراق واليمن عنصرًا معززًا لهذا التهديد، مما يجعل السعودية تشعرُ بحالةٍ من الحصار الإستراتيجي، كونها محاطةً من الجهاتِ الأربع بوكلاء إيران، حيث الحدودُ الشمالية (الميليشيات الإيرانية وداعش)، الشرقية (التهديدات البحرية)، الجنوبية (التهديدات الحوثية)، والغربية (التسلل من الأردن).
5- الحربُ الإسرائيليةُ في غزة:تأثرتْ المملكةُ العربية السعودية بالحرب الإسرائيلية على غزة من عدة أبعاد استراتيجية، إذ شكلتْ هذه الحربُ اختبارًا حقيقيًا لمكانةِ الرياض الإقليمية والدولية في ظل التحولات الجيوسياسية، على الصعيدِ السياسي، تسعى المملكةُ إلى الحفاظِ على توازن دقيق بين مصالحها الإقليمية ودورها كقوةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ مؤثرةٍ، مما يفرض عليها عبء الضغط على القوى الكبرى، خاصةً الولايات المتحدة، للانخراط في تسويةٍ عادلة تُنهي الاحتلال وتحققُ الاستقرارَ الإقليميَ، من الناحية الاقتصادية، يُهدد اتساع رقعةِ الصراع استقرار أسواق الطاقة العالمية التي تتأثر بشكل مباشر بدور المملكة كمورد رئيسي للنفط.
6- زيادةُ النفوذِ التركي بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا: زيادةُ النفوذ التركي في سوريا، يمثلُ تحولًا استراتيجيًا يفرضُ تحدياتٍ مباشرةُ على الأمن الإقليمي، بما في ذلك الأمنُ السعوديُ، تسعى تركيا من خلال هذا التوسع إلى إنشاءِ مناطق نفوذ على الحدود السورية-التركية لمكافحة التهديداتِ الأمنيةِ الناتجةِ عن تزايد القوى الكردية في شمال سوريا، وهذا النفوذُ التركيُ المتزايدُ يساهمُ في دعم الجماعات المعارضة التي تتنوع توجهاتها وأيديولوجياتها، مما يُعقدُ الموقف السعودي الذي سعى إلى دعم “المعارضة المعتدلة”[9] التي تحظى بدعمٍ موازٍ من أطرافٍ أخرى، إضافةً إلى ذلك، يتداخل دعم تركيا لجماعات إسلاميةٍ في سوريا، مثل تلك ذات الروابط مع جماعة الإخوان المسلمين، مع التوجهات السياسية المغايرة للسعودية، كما يزيدُ النفوذُ التركيُ من التوترات الحدودية والأمنية بالنسبة للسعودية في سياق التنافس الإقليمي، خصوصًا في ظلِّ احتماليةِ عودة محاولات قوى مثل إيران وروسيا للتأثير في مستقبل سوريا وعدمِ القبولِ بالوضع الراهن، هذا السياقُ قد يفرضُ على السعودية إعادةَ توجيهِ سياساتها الإقليمية، ودفعها للانخراط في تحالفاتٍ جديدةٍ لمواجهة التطورات على الأرض السورية، مما يعقّد استقرارها الإقليمي وأمنها القومي.
7- الصراعُ في السودان: تُشكلُ الأوضاعُ في السودان تهديدًا نسبيًا للأمن الاقتصادي والاستراتيجي للمملكة العربية السعودية [10]، لا سيما في منطقة البحر الأحمر، التي يمرُ عبرها حوالي ١٠% من التجارة العالمية، بما فيها ٥٠% من احتياجاتِ المملكةِ النفطية [11]، على الجانب الأمني، تشهدُ سواحلُ السودان على البحر الأحمر تصاعدًا في التهديدات، بما في ذلك انتشارُ عملياتِ التهريبِ والأسلحة التي قد تُخلُ بميزان القوى الإقليمي، كما أن غيابَ الاستقرار السياسي في السودان يزيدُ من احتمالات دخول قوىً خارجيةٍ إلى البحر الأحمر، وهو ما يُعقد جهودَ السعودية لتأمين ممراتها البحرية وموانئها الرئيسية مثل ميناء جدة الإسلامي، وفقًا لتقديرات ٢٠٢٣، تجاوز حجم التجارة عبر البحر الأحمر ٧٠٠ دولار مليار سنويًا [12]، مما يبرزُ خطورةَ أي اضطرابات محتملة على الاقتصاد السعودي.
ثالثًا: سُبل مواجهةِ السعودية للتهديدات الأمنية
برزتْ المملكةُ العربيةُ السعودية كلاعبٍ محوريٍ في الدبلوماسية الإقليمية عبر سلسلة تحركاتٍ استراتيجية، حيث مع إدراك الرياض في ظل إدارة بايدن بضرورة تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة كحليفٍ استراتيجي لها في مواجهة هذه التوترات الإقليمية، انتهجت السعودية دبلوماسيةً استباقيةً لمواجهة للتهديدات الأمنية من خلال ما يلي:
1- سياسةُ “تصفير المشكلات”:شهدتْ العلاقاتُ السعودية-الإيرانية تحولًا استراتيجيًا مع توقيع اتفاق استئناف العلاقات في ١٠ مارس ٢٠٢٣ برعايةٍ صينيةٍ، بعد قطيعة دامت منذ عام ٢٠١٦، جاء هذا الاتفاقُ ثمرةَ مسارٍ دبلوماسيٍ بدأ عام ٢٠٢١ بوساطة عراقية، إلا أن رعايةَ الصين كضامنٍ عكستْ تحولًا جيوسياسيًا وأهمية الرياض في صياغة التوازنات الجديدة بالمنطقة، بالنسبة للسعودية، جاء التطبيع كجزءٍ محوريٍ من سياسة “تصفير المشاكل”، الهادفة إلى تحقيق الاستقرار الإقليمي التي أطلقها ولي العهد محمد بن سلمان، خصوصًا عبر التركيز على التهدئة مع إيران لتقليل التهديدات الأمنية، وعلى رأسها ملف اليمن، ففي أبريل 2023، تزامنًا مع الاتفاق، شهدتْ الأزمةُ اليمنيةُ أكبر عملية تبادلٍ للأسرى بين الحكومة اليمنية والحوثيين[13]، مما أظهرَ تقدمًا عمليًا نتيجة التفاهمات المُستجدة، إضافة إلى التخفيف التدريجي للتدخلات الإيرانية في الشؤون الخليجية، إعادة فتح السفارة السعودية في إيران في أغسطس ٢٠٢٣، إلى جانبِ تبادلِ الزيارات الدبلوماسية على أعلى المستويات، عزّزت مصداقية هذا التحوّل، وعلى صعيدِ الأزمةِ العراقية، وبعد تطبيعِ العلاقاتِ بين الرياض وطهران، أعلنتْ إيرانُ عن إفراج العراق، بموافقةٍ أمريكيةٍ، عن ٥٠٠ مليون دولار أمريكي كانت مجمدة لتسديد جزء من ديون إيران لدى العراق [14]، وبالتالي، الأمر الذي يُظهر تأثيرَ التطوراتِ الإيجابيةِ في العلاقات السعودية – الإيرانية على توازن القوى في المنطقة.
2- مُحادثاتُ السلامِ بين السعودية والحوثي:جاءتْ محادثاتُ السلام بين السعودية والحوثيين في أبريل ٢٠٢٣، ضمن جهودٍ مستمرةٍ في محاولةٍ لإحتواء الصراع في اليمن، حيث جرت هذه المفاوضات في مسقط، برعاية عمانية [15]، حيث استمر الحوارُ لمدة شهورٍ، كان الهدف الرئيسي من هذه المحادثات تثبيت وقف إطلاق النار ورفع الحصار عن الموانئ والمطارات اليمنية، كما يُعدُ خطوةً مهمةً نحو استعادة الاستقرار في المنطقة. وقد كانت هذه المباحثات جزءًا من السياق الأوسع لسياسةِ تصفيرِ المشكلاتِ لتقليل التوترات الإقليمية، نتيجةً لتحسّنِ العلاقات بين الرياض وطهران، مما ساعد على دفع المسار نحو تهدئة الأوضاع في اليمن.
3- مسارُ الدبلوماسيةِ النشّطةِ للسعودية: تواصلُ المملكةُ العربيةُ السعودية تعزيزَ دورها الإقليمي والدولي من خلال دبلوماسيةٍ نشطةٍ ذكيةٍ تركز على تسوية النزاعات الإقليمية. على سبيل المثال، من خلال استضافتها لقمة جدة في مايو ٢٠٢٣، سعت الرياض إلى وضْعِ حلٍ عمليٍ للأزمةِ السودانية، حيث جلبت الأطراف المختلفة إلى طاولة الحوار ودعمت مساعيَ وقْفِ إطلاق النار والعمل على إيجاد تسويةٍ سياسيةٍ تساهم في استعادة الاستقرار في السودان، في الوقت نفسه وفي سياق حرب غزة، تواصل المملكة تحقيق التقدم في ملف القضية الفلسطينية، حيث قادت في ٣٠ أكتوبر ٢٠٢٤ “التحالف الدولي لحل الدولتين”، مؤكدةً التزامها بفرض تسويةٍ عادلةٍ ودائمةٍ للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، مع التأكيد على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في تقرير مصيره كشرطٍ لاستكمال مُباحثات التطبيع مع إسرائيل، بهذا النهج، تثبت السعودية مرةً أخرى قوتها كوسيطٍ محوريٍ يسعى لتحقيق سلامٍ دائم ومبني على العدالة والاستقرار في المنطقة، تعزيزًا لمكانتها الدبلوماسية في السياقين الإقليمي والعالمي.
4- المساعداتُ الإنسانيةُ والإغاثية: تجاوزَ حجم ُالمساعداتِ التي قدمها مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية إلى قطاع غزة ٥٧٩٥ طنًا [16]، من المواد الغذائية والإيوائية والأدوية والمستلزمات الطبية وسيارات الإسعاف، وعلى هامش مشاركته بمؤتمر ميونخ للأمن، ١٨ فبراير ٢٠٢٤، قال وزير الخارجية السعودي “فيصل بن فرحان” : “إنه من غير المقبول على الإطلاق أننا لم نتمكنْ بعدُ من حلِّ القضية البسيطة المتمثلة في وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة”.[17]
5- تقليلُ الاعتمادِ على الإدارة الأمريكية: عند تولي الرئيس جو بايدن منصبه، شهدتْ العلاقاتُ الدفاعيةُ والأمنيةُ بين الولايات المتحدة والسعودية تحولًا كبيرًا، في بداية عهد بايدن، قامت الإدارة الأمريكية بفرضِ حظرٍ على بيعِ الأسلحة الهجومية، وهو تحركٌ يعكسُ السياسةَ المتبناة من قِبلِ بايدن في تقليص التدخل العسكري المباشر في منطقة الشرق الأوسط، ولكن، مع مرور الوقت، بدأت إدارة بايدن في إعادة النظر في هذا الموقف، مُعتبرةً أن السعودية تُعدُ شريكًا استراتيجيًا حيويًا في المنطقة، وخاصةً في مواجهة التهديدات الإقليمية مثل إيران. ومع ذلك، انعكسَ هذا التغييرُ في السياسة الأمريكية على الثقة بين البلدين، حيث شعرتْ الرياض بعدمِ الارتياح من تذبذب سياسة الولايات المتحدة وعدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها الاستراتيجية، هذا الإحباطُ دفعَ وليَ العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى تنويع علاقات السعودية مع قوى دوليةٍ جديدة مثل الصين وروسيا، والذي عكس رغبة المملكة في تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة وتعزيزِ علاقاتها الاقتصادية والأمنية في سياق متعدد الأطراف.
رابعًا: تقييمٌ وقراءةٌ مُستقبلية
تسعى المملكةُ العربيةُ السعودية، بقيادة الملك، سلمان بن عبدالعزيز، وولي العهد الأمير، محمد بن سلمان، إلى تحقيق أهداف رؤية ٢٠٣٠، التي تهدف إلى تحويلِ السعودية كقوةٍ اقتصاديةٍ وسياسية، لكن هذا التحول لا يمكن أن يتمَّ في عزلةٍ عن المحيط الإقليمي والدولي، ما جعلَ السياسةَ الخارجيةَ للمملكة عنصرًا أساسيًا في تحقيق هذه الأهداف، حيث تسعى السعودية إلى توسيع نفوذها الإقليمي والدولي عبر استراتيجياتٍ دبلوماسيةٍ مُنفتحةٍ على التعاون مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، دون التقيد بأي جانبٍ واحدٍ، يعكسُ هذا التحولُ التكيف الكبير الذي أظهرته السعودية مع متغيراتٍ عالميةٍ سريعةٍ وتغير التحالفات التقليدية. في الوقت نفسه، يتسمُ هذا التوجهُ بمرونةٍ سياسيةٍ يمكنها من تعديل سياساتها بما يتناسب مع التحديات المتزايدة، على وجه الخصوص في محيطها الإقليمي الذي يعجُّ بالصراعات السياسية والتوترات المستمرة. وعليه، وضعت الرياض سياسات استباقية للحفاظ على استقرارها والنهوض بقوةِ اقتصادها عبر التنويع والحفاظ على موقف دبلوماسي قوي، ومن خلال جهود الوساطة والنزاعات الإقليمية التي تقودها السعودية في المنطقة، رسختْ مكانتَها كقوةٍ دبلوماسيةٍ، كما أصبح للمملكةِ دورٌ محوريٌ في دفْعِ السلام وحلِّ النزاعات، خاصةً في القضايا الإقليمية المُعقدة على رأسها الحرب الإسرائيلية في غزة والحرب في اليمن وملف سوريا والعراق، ولهذا تلتزمُ المملكة بشكلٍ واضحٍ في اعتماد سياسة خارجية أكثر استقلالية، مع السعي في ذات الوقت للاستفادة من تحالفاتها الاستراتيجية التي تتعدى الإطار التقليدي إلى ما أوسع من ذلك.
وبالنظرِ للمستقبل ومع فوزِ الرئيس دونالد ترامب بولايةٍ جديدةٍ، فإن السعودية في سياستها الخارجية الجديدة التي تتسق مع تعددِ الأقطاب وتحقيقِ الاستفادة من تفاهماتٍ مُشتركةٍ مع الجميع، سوف تظل مُنفتحة على التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ستجد السعودية نفسها أمام فرصةٍ لتعزيزِ هذه العلاقة بصورة أكبر، خصوصًا في مجالات الدفاع والطاقة، بالإضافة إلى تعزيز التعاون الثنائي في مجالات الأمن الإقليمي ، لا سيَّما في ظل التوترات المتزايدة في منطقةِ الشرق الأوسط في مقدمتها حرب غزة والملف الإيراني، مع الحفاظ على أدوارِ الوساطةِ ما يجعلها لاعبًا أساسيًا في التوجهات الإقليمية والدولية المُقبلة.
[4] الأمن السعودي: “زيادة التحديات إلى جانب القيود الاستراتيجية”، تابناك، تاريخ النشر: ٢٧ نوفمبر ٢٠٢١، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/HJnIW
[6] محمد علوش، حزب الله والسعودية: مواجهة بلا نهاية، البيت الخليجي للدراسات والنشر، تاريخ النشر: ١١ مارس ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://gulfhouse.org/posts/6280/
[7] {الحشد الشعبي} يحشد قواته شرق الرمادي و «داعش» يتقدم صوب مناطق تمركزه، صحيفة الشرق الأوسط، تاريخ النشر: ١٩ مايو ٢٠١٥، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/iyiGT
[9] سقوط نظام الأسد.. ضربة موجعة لإيران وتحولات جيوسياسية بالشرق الأوسط، جريدة هسبريس المغربية، تاريخ النشر: ١٠ ديسمبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/vOMnX
[10] الصراع في السودان- مخاطر تحدق بدول المنطقة وقلاقل لقوى دولية، DW ، تاريخ النشر: ٢١ أبريل ٢٠٢٣، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/uUiwF
[11] العلمي: أزمة البحر الأحمر تزيد فرص ارتفاع أسعار الغذاء والأدوية 50%، العربية، تاريخ النشر: ١٥ يناير ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/IOZQI
[13] سامية بيبرس، إيران: ” ماذا بعد تطبيع العلاقات مع السعودية… الفرص والتحديات”، مجلة الشؤون العربية، العدد: ١٩٥، تاريخ النشر: ١١ سبتمبر ٢٠٢٣، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/hFVpg:
[16] أمن دولي ـ المملكة العربية السعودية ـ سياسات إقليمية ودولية جديدة، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، تاريخ النشر: ١٣ مارس ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/bzLgU
