شهدتْ العلاقاتُ بين أذربيجان ودول آسيا الوسطى خلال الأعوام الأخيرة تحولًا استراتيجيًا، تُرجمَ بانضمام باكو كعضوٍ إلى صيغة الاجتماعات التشاورية لقادة دول آسيا الوسطى، وقد جاء هذا التطور الذي أُقر بالإجماع خلال القمة السابعة في طشقند في نوفمبر 2025، ليشكّلَ نقطة ارتكازٍ جديدة في معادلات الإقليم، باعتباره خطوةً تُعيد رسْمَ الجغرافيا السياسية عبر بناء محور ارتباطٍ بين آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، بما يعكس انتقال المنطقة إلى مرحلة إعادة صياغة منظومة التفاعلات الإقليمية وتوازناتها المستقبلية.
ومنذ عام 2022، كثّفت أذربيجان تحركاتها الدبلوماسية تجاه هذه الدول عبر سلسلةٍ من الزيارات رفيعة المستوى وتوقيعِ اتفاقياتٍ استراتيجيةٍ شملت مجالات الطاقة، والنقل، والأمن، والتعاون الثقافي. وقد عززت هذه الخطواتُ من حضور باكو في محيطها الآسيوي، مرسّخةً توجّهًا جيوسياسيًا جديدًا يقوم على دمج القوقاز وآسيا الوسطى كفضاء تعاونٍ متداخلٍ المصالح ومتقارب الرؤى.
توجهات جيوسياسية:
يأتي انضمام أذربيجان إلى صيغة تعاون دول آسيا الوسطى كجزءٍ من عملية إعادة تموضعٍ جيوسياسيٍ، تعكس انتقال باكو إلى مرحلة انتهاج سياسةٍ خارجيةٍ متعددة المسارات وأكثر توازنًا، وذلك في ضوء إدراك القيادة الأذربيجانية أن البيئة الدولية المتغيرة تتطلب توسيع دوائر الانفتاح، بما يشمل تعزيز الارتباط مع المنظومات الإقليمية الآسيوية والإسلامية، وفي مقدمتها منظمةُ الدول التركية وشنجهاي للتعاون، فضلًا عن بناء شراكاتٍ استراتيجيةٍ متنامية مع الصين وعددٍ من القوى الآسيوية الصاعدة.
وفي هذا السياق، باتت دول آسيا الوسطى تمثّل شريكًا طبيعيًا لأذربيجان، استنادًا إلى رصيدٍ تاريخيٍ وثقافيٍ ودينيٍ مشترك، وإلى الإرث السوفيتي الذي أسس لقاعدة من التشابه المؤسسي والبشري، وقد أسهمت هذه الركائز في صياغة إدراكٍ متبادل بوجود مصالح جيوسياسية متقاربة، أهمُها السعي إلى تحقيق توازنٍ وظيفيٍ في النظام الدولي بعيدًا عن الاستقطابات التقليدية، وتعزيز استقرار الفضاء الإقليمي الممتد من بحر قزوين إلى حدود الصين.
على مستوى العلاقات الثنائية، كرّست باكو منذ عام 2022 مسارًا تصاعديًا في توطيد روابطها مع جمهوريات آسيا الوسطى، فقد اعتُبرت كازاخستان – على سبيل المثال – نقطةَ ارتكازٍ أساسية في سياسة أذربيجان الخارجية، تُوّج ذلك بتوقيع إعلانٍ لتعميق الشراكة الاستراتيجية والعلاقات الحليفة خلال زيارة الرئيس الكازاخستاني إلى باكو في أغسطس 2022، كما شهدت العلاقات مع أوزبكستان وقرغيزستان وتركمانستان نمطًا مشابهًا من التوسّع المتبادل، حيث قام الرئيس إلهام علييف بأربعَ عشرةَ زيارةً إلى دول آسيا الوسطى خلال ثلاثة أعوام، مقابل ثلاث وعشرين زيارة لقادة هذه الدول إلى باكو، ما يعكس مستوى غير مسبوق من الدينامية الدبلوماسية.
وتكشفُ هذه التحركات عن إدراكٍ جماعيٍ متنامٍ لأهمية دمْج أذربيجان كحلقة وصلٍ محوريةٍ في فضاء آسيا الوسطى–القوقاز، بما يعزّز شبكات النقل والطاقة والأمن المشترك. وبانضمام باكو الرسمي إلى الصيغة الجديدة، انتقلت من وضع “الشريك الداعم” إلى العضو السادس في منصةٍ إقليميةٍ آخذةٍ في التشكّل، تمثّل إحدى أكثر مبادرات التعاون الواعدة في أوراسيا خلال السنوات الأخيرة.
مجالات التعاون وممرات النقل والطاقة:
يمثّل التعاونُ الاقتصادي الركيزةَ الأساسيةَ في الصيغة الجديدة بين أذربيجان ودول آسيا الوسطى، حيث تسعى الأطراف إلى بناء فضاءٍ اقتصاديٍ مترابطٍ يعزّز التكامل التجاري والاستثماري حتى عام 2035، وقد ركّزت قمة طشقند السابعة (2025) على بلورة برنامجٍ مشتركٍ للتعاون التجاري والاقتصادي ووضْعِ إطارٍ لبيئةٍ استثماريةٍ موحدةٍ، إلى جانب هدف رفْعِ حجم التبادل التجاري الإقليمي إلى 20 مليار دولار سنويًا عبر تعزيز التجارة البينية وإنشاء منصات إنتاج مشتركة، ويعكسُ النمو المتسارع في تجارة أوزبكستان مع دول المنطقة (من 3.2 إلى 6.9 مليار دولار بين 2017 و2024) وارتفاع تجارتها مع أذربيجان بنسبة 13% عام 2025، الزخم الاقتصادي الذي يمكن أن يعززه انضمام باكو باعتبارها بوابةً نحو أسواق القوقاز وتركيا وأوروبا.
الطاقة:
تحتلُ الطاقة موقعًا محوريًا في التعاون المستقبلي، بالنظر إلى أن أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان من كبار المنتجين، وتعمل هذه الدول على تنويع مسارات التصدير بعيدًا عن الاحتكار الروسي، وهو ما تجسّد في مذكرة تفاهمٍ ثلاثيةٍ، تمَّ توقيعها في يناير 2025، لتعميق التعاون في ترانزيت الطاقة وتطوير الطاقة المتجددة وتبادل التكنولوجيا، وتتيح البنية التحتية الأذرية (خاصة خطوط باكو–تبليسي–جيهان وتبليسي–أرضروم) مسارًا استراتيجيًا لكازاخستان لنقل نفطها، فيما دخلت باكو وعشق آباد في مباحثاتٍ لنقل الغاز التركماني عبر بحر قزوين باتجاه أوروبا، مستندتين إلى تسوية خلافات الحقول المشتركة عام 2021.
ومع التطلع نحو مستقبلٍ منخفض الكربون، يجري التوسّع في مشاريع الطاقة الشمسية والرياح، وتطويرِ أبحاثٍ مشتركةٍ في التقنيات الخضراء، كما يجري بحث ربط شبكات الكهرباء بين آسيا الوسطى والقوقاز وتبادل الطاقة الكهرومائية بين طاجيكستان وقرغيزستان والدول المستهلكة، إضافةً إلى خططٍ لإنشاء كابلاتِ أليافٍ بصريةٍ عبر بحر قزوين لتعزيز التكامل الرقمي.
ممرات النقل:
يشكّل قطاع النقل الركيزة الأكثر ديناميكية، بالنظر إلى الموقع المحوري لأذربيجان بين آسيا الوسطى والقوقاز وتركيا، وقد أكد الرئيس علييف في قمة 2025 أن الممر الأوسط بات يشهد زيادةً بنسبة 90% في حركة الشحن خلال ثلاث سنوات، مدفوعًا بنفور الشركات من المسارات الروسية بعد الحرب الأوكرانية، ورغم التحديات المتعلقة بالطاقة الاستيعابية للموانئ والسكك الحديدية، تتجهُ الدول لتوحيد التعريفات وتحسين الرقمنة، مع مبادرةٍ لتطوير استراتيجيةٍ شاملةٍ للنقل الإقليمي وإنشاء مجلسٍ للبنية التحتية بدعمٍ من الأمم المتحدة.
ويقوم ميناء ألآت في باكو بدورٍ محوريٍ كمركزٍ لإعادة الشحن بين آسيا وأوروبا، بالتوازي مع توسعة موانئ كازاخستان على بحر قزوين وتطوير شبكات السكك الحديدية العابرة للقارات، كما تعمل دول الصيغة على رقمنة بيانات النقل المتعدد الوسائط، ما يعزّز سرعة العبور عبر بحر قزوين.
ممر زنجيزور:
يمثّل ممر زنجيزور أحد أهم مشاريع الربط، إذ يوفر وصلةً مباشرةً بين أذربيجان وتركيا عبر أراضي أرمينيا، وقد أنجزت باكو الجزء الأكبر من بنيتها التحتية للممر بسعة تقارب 15 مليون طن سنويًا، فيما ما يزال الجانبُ الأرمنيُ محلَ خلافٍ سياسيٍ، ويُشكّل الاتفاق المبدئي الذي رعتْهُ واشنطن عام 2025 (طريق السلام والازدهار – TRIPP) خطوةً أولى نحو إدارةٍ مشتركةٍ للممر تحت إشرافٍ أمريكيٍ لمدة 99 عامًا، رغم اعتراض موسكو وطهران. وبموازاة ذلك، تواصل باكو تطوير ممر آراس عبر إيران كخيار احتياطي لضمان استمرارية الربط.
مشاريع الربط الإقليمية الأوسع
تعزز مشاريع أخرى، مثل خط سكة حديد الصين–قرغيزستان–أوزبكستان (CKU) والممر العابر لأفغانستان نحو باكستان، إجمالي قدرات الربط في المنطقة، وعلى الرغم من أن بعضها لا يمر مباشرةً عبر أذربيجان، إلا أنها تزيد اندماجَ الممر الأوسط وتوسّعَ شبكة تدفقات السلع نحو بحر قزوين، ما يرفع من قيمة دور باكو في منظومة العبور بين الشرق والغرب.
التوازنات الإقليمية وصراعات المنطقة
يحملُ انضمام أذربيجان إلى صيغةِ تعاون آسيا الوسطى بُعدًا أمنيًا واستراتيجيًا يعيد تشكيل خريطة التوازنات في أوراسيا، إذ تنظر جمهوريات آسيا الوسطى إلى الشراكة مع باكو باعتبارها رافعةً لتعزيز استقلالية قرارها الأمني وتقليص الارتباط التقليدي بالقوى الكبرى، وقد أقرت قمة طشقند (2025) إطارًا مشتركًا للأمن الإقليمي يقوم على مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، ووضع سجل للمخاطر وآليات للرصد والوقاية (2026–2028)، وهو ما يمنح أذربيجان مقعدًا متقدمًا في صياغة السياسات الأمنية على مستوى الإقليم، ويفتح المجال أمام نقل خبراتها للدول الشريكة.
1- أداة لإعادة هندسة التوازنات الكبرى:
يضيفُ حضورُ أذربيجان وزنًا استراتيجيًا لمنصة آسيا الوسطى في مواجهة احتكار روسيا والصين لمشاريع الربط والأمن، ويعزّز قدرة دول المنطقة على تنويع خياراتها، وقد برزت في واشنطن أطروحة “آسيا الوسطى الكبرى” التي تربط جنوب القوقاز بآسيا الوسطى كفضاءٍ واحدٍ، وهو ما يتقاطع مع المصالح الأمريكية والأوروبية في موازنة المحور الروسي–الصيني، لذلك يُلاحظُ دعمٌ غربيٌ حذٌرٌ للممر الأوسط وللانفتاح الإقليمي على أذربيجان وتركيا، مع نشاطٍ دبلوماسيٍ أمريكيٍ ملحوظٍ في ملفات باكو–يريفان.
بالنسبة لدول آسيا الوسطى، يشكّل هذا التعدد في الشراكات وسيلةً لتحييد الضغوط الروسية والصينية، وعلى الرغم من عضوية بعضها في منظمة الأمن الجماعي، فإن تجارب السنوات الأخيرة – وخاصةً غزو أوكرانيا – دفعت هذه الدول لتعميق التنسيق الذاتي والتحرك بحذر خارج المظلة الروسية، دون القطيعة معها.
2- تأثيرات على الصراع في القوقاز:
ساهمَ تطور العلاقات الأذرية–الآسيوية في ترسيخِ دعمٍ سياسيٍ ومعنويٍ لباكو في نزاع قره باغ، حيث أكدت دول آسيا الوسطى على وحدة الأراضي الأذرية وقدمت مساعداتٍ مباشرةً لإعادة الإعمار في فضولي والمناطق المحررة، بما في ذلك دعم من أوزبكستان وكازاخستان وقرغيزستان وتركمانستان، ويعكس ذلك اصطفافًا رمزيًا وثقافيًا يعزز مكانة أذربيجان الإقليمية.
كما يمنح الانخراط الأذري في المنصة الإقليمية باكو أوراقَ قوةٍ إضافيةٍ في تعاملها مع أرمينيا، التي تُعاني عزلةً استراتيجيةً متزايدةً وتراجعًا في الدعم الروسي التقليدي، ومن المتوقع أن يضغط هذا الواقع على يريفان للانخراط في ترتيبات سلامٍ أكثر واقعيةً، خاصةً مع تنامي إدراك جمهوريات آسيا الوسطى بأن استقرار القوقاز شرط لنجاح مشاريع الربط التجاري التي تعتمد عليها.
3- تعاون أمني متعدد المستويات:
تواجهُ دول آسيا الوسطى وأذربيجان تحدياتٍ أمنيةً مشتركةً تتعلق بالتهديدات القادمة من أفغانستان، وتهريب المخدرات، والتطرف، والجريمة السيبرانية، وقد ناقش القادة في طشقند آليات لحماية البنى التحتية الحيوية من المياه والطاقة والممرات التجارية، ويُرجّح أن تتطور هذه الجهود إلى تدريباتٍ مشتركةٍ أو تنسيقٍ استخباراتيٍ، خاصةً مع خبرة الجيش الأذري وتطوره التقني في السنوات الأخيرة.
وقد تمتلك باكو دورًا محوريًا في الارتقاء بالقدرات الدفاعية لدول المنطقة، خصوصًا في مجالات المراقبة الحدودية والطائرات المسيرة، وهي مجالاتٌ شهدت تعاونًا سابقًا بين أذربيجان وكازاخستان وقرغيزستان، وتساهم هذه الروابط في تعزيز منظومة أمنٍ ذاتيةٍ تقلل اعتماد دول المنطقة على البنى الأمنية الروسية.
وختامًا:
يُظهر انضمام أذربيجان إلى صيغة تعاون دول آسيا الوسطى أن المنطقة بصدد تشكّلِ معادلةٍ إقليميةٍ جديدةٍ تتجاوز حدود الجغرافيا التقليدية، وتعيد رسْمَ خرائط النفوذ ومسارات التنمية من بحر قزوين إلى الأناضول والصين، فالصيغةُ الجديدة لا تمثّل مجرد توسّعٍ عدديٍ أو تعزيزٍ للتكامل الاقتصادي، بل تعبيرٌ عن تحولٍ استراتيجيٍ أعمق تتسارع فيه دول المنطقة للبحث عن فضاءات تعاون مستقلة، تتكيف مع عالم يتغير بسرعة وتتنافس فيه القوى الكبرى على الممرات والمصالح.
لقد كسبت دول آسيا الوسطى من انضمام باكو شريكًا يمتلكُ خبرةً جيواستراتيجيةً وقدراتٍ لوجستيةً وأمنيةً مؤثرة، بينما وجدت أذربيجان في هذا الإطار منصة تعزّز نفوذها وتوسع دورها كصلة وصل حيوية في الممر الأوسط ومشاريع الطاقة العابرة للقارات، ومع تزايد التفاعل بين المنطقتين، يبدو أن صيغة C6 تتجه تدريجيًا نحو التحول إلى أحد أهم التجمعات الإقليمية الصاعدة في أوراسيا، بما تحمله من إمكاناتٍ لخلْقِ توازناتٍ جديدةٍ وتخفيف الضغوط على الدول الصغيرة والمتوسطة.
وفي المحصّلة، فإن التحركات الجارية ليست مجرد تعاونٍ مرحليٍ، بل استثمارٌ استراتيجيٌ طويل المدى في مستقبلٍ يرتكز على الربط، والانفتاح، والتنوع، والقدرة على إدارة التنافس الدولي بدل الوقوع تحت وطأته، وهو ما يجعل السنوات المقبلة اختبارًا حقيقيًا لقدرة هذا التجمع على الانتقال من مرحلة التشاور إلى مرحلة الفعل وصياغة نموذجٍ إقليميٍ قادرٍ على الصمود في وجه التحولات الجيوسياسية المتسارعة.
