تشهد منطقة القرن الأفريقي حالةً من عدم الاستقرار الأمني، أثارته إثيوبيا بالاتفاق الذي أقدمت على إبرامه مع أرض الصومال، إضافةً إلى تعنُّتِها في ملف سدِّ النهضة؛ لذا قامت كُلٌّ من القاهرة ومقديشو بعقْد اتفاق تعاونٍ عسكريٍّ بينهما، بموجبه قامت مصر بإرسال قوات عسكرية إلى الأراضي الصومالية؛ بناءً على رغبة الرئيس الصومالي؛ وذلك للدفاع عن سيادة واستقرار البلاد، تلك الخطوة أرهبت الجانب الإثيوبي، وحرَّكت ضده النعرات الإثيوبية؛ حيث قامت ميليشيا فانو بالسيطرة على مدينة حدودية مع السودان؛ وهو ما يؤشر إلى أوضاع أمنية خطيرة على مستقبل القرن الأفريقي، لن يكون محمودًا عُقْباها إذا وصلت إلى حدِّ الحرب مثلما يثيره البعض.
تعاون عسكري «مصري – صومالي»:
في مطلع أغسطس الماضي، أقدمت مصر والصومال على توقيع بروتوكول تعاون عسكري بينهما، في ظل الخلاف العالق بين مقديشو وأديس أبابا، جاء على إثر هذا البروتوكول إرسال مصر مُعدّات عسكرية وجنود إلى الأراضي الصومالية، في السابع والعشرين من شهر أغسطس الماضي، في مخطط لنشْر قوات يتراوح عددها بين ٥-١٠ آلاف جندي بمناطق جنوب غربي وهيرشبيلي وجالمودوج في الصومال، وهي الخطوة الأولى منذ أكثر من ٤ عقود، ويهدف هذا التعاون إلى دعْم القاهرة لقدرات الجيش الصومالي في القضاء على الإرهاب، ومجابهة التهديدات التي تمسُّ سيادة مقديشو، وردْع أيَّة محاولات من شأنها زعزعة استقرار المنطقة، مثلما فعلت إثيوبيا عندما أقدمت على اتفاقٍ مع أرض الصومال.[1]
تصعيد ضد مصر:
ما إن وصلت القوات العسكرية المصرية إلى مقديشو، حتى أعلنت إثيوبيا أن رئيس أرض الصومال موسى بيهي عبده، تسلَّم أوراق اعتماد السفير الإثيوبي الجديد تيشومي هاميتو، وقام بيهي بعقْد اجتماعٍ معه؛ للتباحث حول مُجْمل القضايا الأمنية في القرن الأفريقي وتعزيز التعاون المستقبلي بين البلديْن، كما أن صومالي لاند أصدرت بيانًا صعَّدت فيه ضد مصر، فانتقدت خطوة إرسال قوات مصرية إلى الصومال، وذلك بعد ساعاتٍ قليلةٍ من إصدار الخارجية الإثيوبية بيانًا مماثلًا، كما أعربت عن قلقها من التشكيل الجديد لبعثة الاتحاد الأفريقي لحفظ السلام في مقديشو، والتي ستكون مصر ضِمْن أعضائها.[2]
إعادة فتح بوابات مفيض سد النهضة:
بعدما وصلت القوات العسكرية المصرية إلى الصومال، قام رئيس الوزراء الإثيوبي بإصدار أمرٍ مفاجئٍ بإغلاق بوابات المفيض العلوية لسدِّ النهضة، في الثامن والعشرين من الشهر الماضي، دون الإعلان عن سبب هذا الإغلاق، وعلى ما يبدو أن الحضور العسكري المصري سبَّب رُعْبًا لأديس أبابا، وجعلها تتصرف بطريقة هوجاء، إلا أن هذا الفعل لم يصمد كثيرًا، ففي الخامس من سبتمبر الجاري، أعادت إثيوبيا فتح بوابات المفيض إجباريًّا؛ اضطرت له إثيوبيا بسبب خطورة استمرار إغلاق البوابات على جسم السدِّ الرئيسي وسد السرج، وقد تكون هذه الخطوة بمثابة تراجع جزئي عن تعنُّتٍ إثيوبيٍّ دَامَ لسنواتٍ؛ وذلك بعد التواجُد العسكري المصري على أراضي مقديشو، أيضًا أشار الخبير المصري عباس شراقي إلى أن التوربينات الأربعة توقفت عن العمل ٥ سبتمبر، وهو أمر لم يحدث منذ ٧ أشهر[3]؛ وهو ما يُوحِي ببطلان حُجَّة أديس أبابا التي تدَّعِي بناء السد لأهدافٍ تنمويةٍ وتوليد الكهرباء؛ فإذًا بطُل السبب، فهل من مزيدٍ من التعنُّت في هذا الملف، أم قد يحدث مواءمات تضمن حقوق مصر والسودان في مياه النيل؟
معارك دموية تعصف بالداخل الإثيوبي:
أثار الوصول العسكري المصري إلى الصومال تخوُّفات لدى الحكومة الإثيوبية؛ ما دفعها إلى تحريك قوات عسكرية إضافية إلى إقليم أوجادين بمحاذاة الحدود الصومالية؛ ردًّا على التحرُّك المصري، ويحتمل أن يُسهم وجود القوات المصرية في ردْع التطلُّعات الإثيوبية، المتعلقة بمسعى الحصول على منْفَذٍ بحريٍّ، وفي خِضَمِّ تحرُّك الجيش الإثيوبي نحو أوجادين، قامت ميليشيا فانو الأمهرية، بالسيطرة على مدينة المتمة الإثيوبية المتاخمة لمعبر القلابات السوداني بعد اشتباكات مع الجيش الإثيوبي؛ ما أدَّى إلى قيام الجيش السوداني بتجريد عناصر الأخير من السلاح، والسماح لهم بالعبور إلى السودان، وعلى الفور قامت السلطات السودانية، بإغلاق معبر القلابات.
وفي السادس من سبتمبر ٢٠٢٤، ارتفعت وتيرة المعارك بين الجيش الإثيوبي ومتمردي الفانو؛ ما أسفر عن سقوط عشرات الجرحى في صفوف الجيش فرُّوا إلى داخل السودان بعد هذه الاشتباكات، كما أن العديد من السكان في قُرَى الحدود السودانية أُجبروا على النُّزوح، وشنَّت ميليشيات فانو هجومًا بالمدفعية الثقيلة على تجمُّعات ومعسكرات الجيش الإثيوبي قُرْب بلدة المتمة المتاخمة للحدود السودانية وسط مخاوف ورُعب في مناطق القلابات وعطرب وكنينة السودانية؛ جرَّاء أصوات المدافع[4]، وتشير الأوضاع إلى احتمالية نشوب حربٍ داخليةٍ في إثيوبيا تنْشَطُ من خلالها العِرْقيات المختلفة كالأورومو وأيضًا عناصر التيجراي المنشقة؛ الأمر الذي قد يجعل حكومة آبي أحمد تتراجع عن مواقفها التعنُّتية في ملف سد النهضة، ومحاولة السَّطْو على سيادة الصومال، عبْر اتفاقها مع الإقليم الانفصالي، وإغلاق دائرة صراعٍ جديدٍ قد ينشب في منطقة القرن الأفريقي.
هل من الممكن أن يحدث تنسيق «مصري – تركي» في القرن الأفريقي؟
جاءت الخطوة المصرية في الصومال تزامنًا مع تحرُّكات تركية جيوستراتيجية في مقديشو بشكلٍ خاصٍّ والقرن الأفريقي بشكلٍ عامٍ، وتوجّت العلاقات «التركية – الصومالية» باتفاقٍ دفاعيٍّ وأمنيٍّ على غرار المصري، بما يُمكِّنُ الجانب التركي من مدِّ مظلة الحماية على المياه الصومالية، ومنْح الشركات التركية تراخيص التنقيب عن الثروة المعدنية في المياه الاقتصادية للصومال؛ لذا فمن مصلحة أنقرة تحقيق الاستقرار في مقديشو، وعدم إعطاء الفرصة لأديس أبابا بتنفيذ اتفاقها ووصولها إلى مياه البحر؛ بما يُهدِّد بقاءها وتواجدها لحماية البحرية الصومالية؛ وهو ما يتقاطع مع المصالح المصرية، في ظِلِّ الصعود الذي تشهده العلاقات بين البلديْن، وزيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى العاصمة التركية لأول مرة منذ تولِّيه الرئاسة، إذن فربما يحدث تنسيق «مصري – تركي» على الأراضي الصومالية، مع تلاقِي أهداف ومصالح الطرفيْن، فمن ناحيةٍ، تسعى مصر لتطويق إثيوبيا والضغط عليها؛ منْعًا لتنفيذ مساعيها الهدامة في المنطقة، ومواصلة تعنُّتها في ملف سد النهضة، على الجانب الآخر، ثمَّةَ تركيا، التي تمتلك قاعدةً عسكريةً في الصومال هي الأكبر خارج أراضيها، وبناءً عليه؛ تسعى للعب دوْر الوساطة بين إثيوبيا والصومال؛ تجنُّبًا للتصعيد وحفاظًا على هذه الرُّقْعة المائية من المطامع الإثيوبية.
المستقبل الأمني لمنطقة القرن الأفريقي:
ثمَّةَ حالة من التوتُّر وعدم الاتزان السياسي والأمني في منطقة القرن الأفريقي؛ كانت إثيوبيا سببًا رئيسيًّا فيها، وبالنظر إلى الطبيعة القبلية في إثيوبيا، وزيادة حِدَّة الاضطرابات الداخلية فيها، وتصاعد المعارك بين الجيش الإثيوبي وميليشيا فانو الأمهرية، مع وجود تمرُّدات من جانب عرقية الأورومو وعناصر من التيجراي، يمكن التنبؤ ببعض المسارات التي يمكن أن تحدث خلال الفترة القادمة:
حرب إثيوبية داخلية: بالنظر إلى التناحُرات الداخلية في إثيوبيا بين الجيش الإثيوبي وميليشيا فانو، واحتمالية انضمام العِرْقيات الأخرى إلى هذا الصراع، قد نجد حكومة آبي أحمد منهمكةً في حربٍ داخليةٍ قد تدفعها إلى إعادة ترتيب الأوراق مرَّةً أُخرى، وربما التراجع عن اتفاق أرض الصومال، علاوةً على تعطيل العمل بشكلٍ مؤقتٍ في سدِّ النهضة، أو الإذعان للمطالب المصرية والسودانية ومراعاة حقوقهم المائية، وقد تؤول الأوضاع إلى إقالة آبي أحمد، ذلك الأمر إذا حدث ستتغير دفة الأمور عما هي عليه.
تنسيق «مصري – تركي» في القرن الأفريقي: تشير التطوُّرات الحالية إلى فرضية التعاون والتنسيق بين مصر وتركيا، خاصَّةً في ظِلِّ تنامي وتيرة العلاقات بينهما، فمن مصلحة الطرفيْن تحقيق الاستقرار في المنطقة، والذي تحاول إثيوبيا بمساعيها المختلفة زعزعته، فقد تنجح الوساطة التركية في الأزمة بين أديس أبابا ومقديشو، وإيجاد حلٍّ وسط يُرْضِي جميع الأطراف ويُرَاعِي الشواغل الأمنية في المنطقة، وقد تعمل القوات المصرية والتركية على الأراضي الصومالية بشكلٍ تعاونيٍّ؛ لدحْر محاولات التمدُّد الإثيوبي على حساب نظرائها، ربما يحظى ذلك برعاية الاتحاد الأفريقي؛ تجنُّبًا لاندلاع صراعٍ جديدٍ.
قبول إثيوبيا عرْض جيبوتي بمنحها إدارة ميناء تاجورة: إيمانًا من جيبوتي بأهمية تحقيق الاستقرار ونزْع فتيل التوتُّرات في القرن الأفريقي، قامت بتقديم عرْض للحكومة الإثيوبية، تمثَّلَ في منْحها الإدارة الكاملة لميناء تاجورة في الشمال؛ لتسهيل أمور تجارتها أي ميناء تجاري، فقد تجد إثيوبيا ذاتها أمام نيران لن تسمح لها بالوصول البحري عبْر أرض الصومال، مع احتدام التوتُّرات الداخلية، وتضطر إلى القبول بهذا العرْض، والتخلُّص من كوْنها دولةً حبيسةً، ولكن أهداف الحكومة الإثيوبية لم تكن تجاريةً فحسب، بل أرادت أن تؤسس لها وجودًا عسكريًّا في منطقة حيوية كالبحر الأحمر، تستخدمها بعد ذلك كورقة ضغط على قُوى تناصبها العداء، وتحقق من خلالها أهدافًا سياسية واقتصادية وعسكرية.
احتمالية اندلاع صراع جديد: تشير بعض التقديرات إلى احتمالية اندلاع حرب بالوكالة على الأراضي الصومالية، واشتعال صراعٍ جديدٍ في منطقة القرن الأفريقي، إلَّا أن هذا الأمر مستبعدٌ بشكلٍ كبيرٍ؛ وذلك لأن المنطقة متوترة بطبيعة الحال وتشهد صراعات دموية، كما أن الأطراف المتضررة لن تتحمل أعباء حرب، إلا أن إثيوبيا إذا أصرت على مواقفها الرافضة لمصالح دول جوارها، أو إذا حاولت المساس بأمنهم واستقرارهم أو الزَّجِّ بالتطوُّرات نحْو نزاعٍ تكون هي الطرف الأساسي فيه، ستكون القوى الأخرى على جاهزيةٍ لحصار أديس أبابا والاشتباك معها، ولكن هذه الاحتمالية أيضًا ضعيفة؛ بسبب ما تعانيه إثيوبيا من توتُّراتٍ داخليةٍ.
تدخل أطراف إقليمية ودولية: من المتعارف عليه أن الأزمة في بدايتها تكون صغيرة وقابلة للحلِّ، وما إن تتدخل أطراف خارجية حتى يتعقَّدَ المشهد ويصعب معه الحلّ، خاصَّةً إذا كان هناك أقطاب من مصلحتها عدم استقرار المنطقة، والاستفادة من الشُّغُور والانفلات الأمني، إضافةً إلى سعيهم للوقيعة بين الدول المتناحرة، فإذا تمَّ استدعاء الداعم الأكبر لإثيوبيا في تحرُّكاتها المختلفة، نجد أنه قد يعمل على دفْع أديس أبابا نحو الانغماس في حرب أو على الأقل عرْقلة مساعي السلام والاستقرار، ومن ثمَّ؛ فقد تتداخل وتتشابك الأزمة الحالية، بما يؤدي بالأوضاع إلى مُنْزَلَقٍ خطيرٍ يصْعُبُ التنبؤ به في الوقت الحالي.
ختامًا:
تسير الأوضاع في منطقة القرن الأفريقي نحو المجهول، مع تأزُّمٍ في العلاقات بين ثلاثي الصومال وإثيوبيا ومصر؛ حيث جاءت التفاهمات «المصرية – الصومالية» في خضم أزمة ممتدة عاصرتها العلاقات «المصرية – الإثيوبية» على خلفية قضية سدِّ النهضة، وفيما يتعلق بما يثار حول احتمالية اندلاع حرب بين هذه الأطراف، فإن هذا الأمر مستبعدٌ بشكلٍ كبيرٍ؛ نظرًا لأن المنطقة في حالة غليان لن تتحمل نزيف حرب جديدة، إضافةً إلى أن مصر لن تنخرط في صراعٍ هي في غنى عنه في الوقت الحالي، كما أن التحرُّكات المصرية محسوبة بشكلٍ جيِّدٍ، ودائمًا ما تتبع المسارات الدبلوماسية المتوازنة، أمَّا عن خطر الحرب فهو أمر ليس مستحيلًا، لا سيما إذا واصلت الحكومة الإثيوبية استفزازاتها المتكررة للجانب المصري، بل وأصَّرت على تهديد أمنها القومي، بل وأمن دول القرن الأفريقي بأسرها.
المصادر:
[1] أحمد عبد الحكيم، ماذا بعد الحضور العسكري المصري في الصومال؟، اندبندنت عربية، ٣١ أغسطس ٢٠٢٤، https://n9.cl/qq97r
[2] أشرف عبد الحميد، إثيوبيا تغضب مصر مجدداً.. عينت سفيراً في أرض الصومال، العربية، ٣٠ أغسطس ٢٠٢٤، https://n9.cl/ejjnz
[3] مي عبد المنعم، بعد إغلاقها على خلفية التوترات مع مصر.. إثيوبيا تضطر لفتح بوابات السد بشكل إجباري، العربية، ٦ سبتمبر ٢٠٢٤، https://n9.cl/s7o8e
