تمثل عملية شبكة العنكبوت -التي شنَّتها أوكرانيا، في الأول من يونيو الجاري، باستخدام الطائرات المسيرة على قواعد عسكرية داخل العُمْق الروسي؛ بما في ذلك أهداف حسَّاسة- تصعيدًا جديدًا في نمط الحرب المستمرة، منذ فبراير2022؛ حيث يعكس هذا التحوُّل رغبة كييف في كسْر حالة الجمود العسكري عبر توسيع نطاق الاستهداف، ورفْع تكلفة الحرب على موسكو باستخدام أقل التكاليف.
في المقابل، تواجه روسيا تحدِّيًا استراتيجيًّا يتمثل في ضرورة الردع دون الانجرار إلى مواجهات نووية مفتوحة، وهو ما يثير تساؤلات حول حدود التصعيد المقبول؛ لذا فإن ثمَّةَ حاجة إلى تحليل هذا التطوُّر من منظور استراتيجي، بالتركيز على دلالاته العسكرية والسياسية، وانعكاساته المحتملة على طبيعة الصراع ومساراته المستقبلية.
تفاصيل العملية ودلالة التوقيت
نفَّذت أوكرانيا عملية جوية مُعقَّدة وغير مسبوقة منذ اندلاع الحرب، باستخدام 117 طائرة مسيرة[1]؛ حيث استهدفت أربع قواعد جوية روسية عميقة تُعَدُّ من أهمِّ مراكز تمركز القاذفات النووية الروسية؛ حيث انطلقت الطائرات من مواقع داخل أوكرانيا، ونجحت في اختراق آلاف الكيلومترات لتتمركز داخل العمق الروسي دون أن يتمَّ رصدها أو اعتراضها بفعالية وهو ما يكشف عن ثغرات كبيرة في أنظمة الدفاع الجوي والاستخبارات الروسية.
وبحسب التقديرات الأوكرانية، استغرق الإعداد للعملية قرابة 18 شهرًا من الرَّصْد والتخطيط الاستخباراتي، وهو ما أدَّى في نهاية المطاف إلى توجيه هجوم بضربات دقيقة ومباشرة إلى مواقع تمركز القاذفات ومنصَّات الإنذار المبكر ومستودعات الوقود والذخيرة؛ مما أدى إلى انفجارات ضخمة وحرائق استمرت لساعات، وتشير التقديرات إلى تدمير نحو 34% من القاذفات الاستراتيجية الروسية، إلى جانب خسائر فيما يقارب 40 من الطائرات قُدِّرت بـ 7 مليار دولار، وهي ضربة نوعية لم تحدث من قبْل في مسار هذه الحرب دفعت الرئيس الأوكراني إلى الإشادة بها[2].
وفيما يتعلق بدلالة التوقيت، تجدر الإشارة إلى أن العملية الأوكرانية ضد القواعد الجوية الروسية تكتسب أهمية مضاعفة بالنظر إلى توقيتها الحرج؛ إذ جاءت بالتزامن مع استمرار الجولات الأولية من المفاوضات غير المباشرة بين موسكو وكييف برعاية تركية[3]، وهو ما أضفى على الضربة دلالة سياسية مزدوجة، فمن جهة، بَدَتْ العملية وكأنها رسالة مفادها؛ أن أوكرانيا تدخل أي مسار تفاوضي من موقع قوة وليس من موقع ضعف، ومن جهة أخرى، أكَّدت على أن كييف لا تزال تمتلك القدرة على المبادرة والاختراق حتى في عُمْق المجال الاستراتيجي الروسي.
وفي السياق ذاته، جاءت الضربة في وقتٍ يواجه فيه مستقبل الدعم الأمريكي لأوكرانيا حالة من الغموض؛ نتيجة لتراجُع زَخَم المساعدات وتزايد التساؤلات داخل الإدارة الأمريكية حول جدوى الاستمرار في دعم الحرب، ويتزامن ذلك مع إشارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المتكررة الذي لا يُخفي فيها رغبته في إنهاء الحرب ربما بشروط قد لا تنال هوى أوكرانيا.
لذا يمكن القول: إن العملية التي سُمِّيت “شبكة العنكبوت”، جمعت بين التخطيط الاستخباراتي بعيد المدى، والاستخدام الذكي للتكنولوجيا المسيرة، واستغلال ثغرات فعلية في منظومة الدفاعات الروسية؛ مما جعل الرسالة الأهم تتجاوز مجرد تدمير أصول عسكرية، لتصل إلى معادلة، مفادها؛ أنه لم يعُدْ العُمْق الروسي آمنًا، كما أنه يمكن الرهان على أوكرانيا في معادلة تحريك دفَّة الحرب لصالح المعسكر الغربي.
أبعاد العملية
مثَّلت عملية “شبكة العنكبوت” تحوُّلًا نوعيًّا في مسار الحرب الأوكرانية بعدما استطاعت كييف تنفيذ ضربة دقيقة وعميقة داخل العُمْق الروسي؛ حيث إنَّ العملية لم تكن مجرَّد نجاح عسكري، بل حملت في مضمونها رسائل عسكرية استراتيجية وسياسية:-
١- عسكريًّا
نجحت أوكرانيا من خلال هذه العملية في توجيه ضربة مباشرة لأحد أهمِّ أركان الثالوث النووي الروسي، وهو الركيزة الجوية التي تعتمد على القاذفات الاستراتيجية القادرة على حمْل رؤوس نووية. ويُقصد بالثالوث النووي لأيِّ دولة امتلاك ثلاثة أنماط من أدوات الرَّدْع النووي، تتمثل في صواريخ باليستية عابرة للقارات تُطلق من البر، وغواصات نووية مسلحة، وقاذفات استراتيجية جوية. وباستهداف القاذفات الاستراتيجية، تكون أوكرانيا قد وجَّهت ضربة رمزية وعملية لمنظومة الرَّدْع الروسية، أضعفت من تماسك هذا الثالوث ولو جزئيًا.
وعلى الرغم من أن العملية لن تشل القدرة الصاروخية الروسية بشكل كامل، فإنها قلَّصت قدرة موسكو على تنفيذ ضربات بعيدة المدى من الجو، خاصَّةً إذا ما استمرت هذه الضربات النوعية مستقبلاً. لكن الأهم من التأثير العملياتي المباشر، هو الرسالة الاستراتيجية الكامنة في العملية، والتي مفادها؛ أنه لم تعُدْ الترسانة الروسية مُحصَّنة، ولم تعُدْ القواعد العسكرية في العُمْق الروسي بعيدة عن الخطر، حتى من دون امتلاك صواريخ تقليدية أو طائرات مأهولة.
وقد أكدت العملية كذلك أن امتلاك منظومة دفاع جوي متقدمة وحدها لم تعُدْ كافية لضمان الأمن الاستراتيجي، وأن الهجمات منخفضة التكلفة وعالية الدقة باتت قادرة على إحداث اختراقات.
٢- إستراتيجيًّا
أعادت العملية ضبْط أولويات القارة الأوروبية، فيما يتعلق بالدعم العسكري لأوكرانيا، كما أنها من المرجح أن تدفع باتجاه مراجعة السياسات المتحفظة في تسليح كييف، خاصَّةً على صعيد الأسلحة بعيدة المدى؛ حيث ارتفعت بشكل ملحوظ احتمالات تسليم أوكرانيا صواريخ ألمانية بعيدة المدى؛ مما سيعزز قدرة كييف على توجيه ضربات استراتيجية دون الاعتماد الكامل على الطائرات المأهولة أو الدعم الأيمركي المباشر.
ويقود هذا التوجُّه في ألمانيا المستشار الجديد فريدريش ميرتس الذي يبدو أكثر انفتاحًا وحسْمًا في مقاربة الملف الأوكراني مقارنةً بسلفه أولاف شولتس، الذي اتسم موقفه بالحَذَرِ الشديد والتردُّد في تسليم أسلحة هجومية ثقيلة؛ خوفًا من التصعيد المباشر مع موسكو[4]. وتجدر الإشارة إلى أن التحوُّل في موقف برلين الحالي ليس معزولًا عن الموقف الأوروبي، بل يعكس مناخًا أوروبيًّا آخذًا في التغيُّر؛ حيث باتت دول كبرى، مثل “فرنسا وبريطانيا”، تدعو إلى ضرورة تسريع وتوسيع نطاق الدعم النوعي لكييف؛ بما في ذلك تكنولوجيا الصواريخ والطائرات المقاتلة وأنظمة الدفاع السيبراني.
٣- سياسيًّا
أثبتت أوكرانيا من خلال العملية الأخيرة أنها لا تزال تملك القدرة على تحقيق اختراقات استراتيجية عميقة بأقلّ التكاليف الممكنة؛ مما يعزز من موقعها في المعادلة السياسية للحرب؛ حيث جاءت العملية لتقلب المشهد وتقدم برهانًا عمليًّا على أن استثمار العواصم الغربية في دعْم كييف لا يزال يُترجم إلى نتائج ميدانية حقيقية، كما عزَّزت هذه العملية صورة أوكرانيا أمام الرأي العام الغربي كحليف فعَّال، ينجح في توظيف الدعم المقدم له، ويوصل الرسائل الاستراتيجية في اللحظة المناسبة، فبدلًا من أن يُنظر إليها كعِبْءٍ يتطلب دعْمًا لا ينتهي، بدت أوكرانيا كاستثمار دفاعي ناجح، يمكنه تقويض القوة الروسية من الداخل وبوسائل غير تقليدية. لذا فإن هذه الصورة مهمة بشكلٍ خاصٍّ في عواصم أوروبية تشهد تناميًا في الأصوات الشعبوية المطالبة بإعادة النظر في الالتزامات الخارجية.
وفي سياقٍ متصلٍ، جاءت الضربة في توقيت بالغ الحساسية، متزامنة مع جولة مفاوضات بين الجانبيْن الأوكراني والروسي في تركيا؛ ما يمنح كييف ورقة ضغط جديدة على طاولة التفاوض؛ حيث إن إظهار القدرة على استهداف العُمْق الروسي وتدمير أجزاء من ترسانته الاستراتيجية يمنح أوكرانيا هامشًا تفاوضيًا أوسع، ويبعث برسالة واضحة لموسكو، مفادها؛ أن كلفة الاستمرار في الحرب قد تتجاوز بكثير ما كان متوقعًا.
سيناريوهات مطروحة
تبرز عدة سيناريوهات محتملة للرَّدِّ الروسي، تتفاوت في مستويات التصعيد والتكلفة السياسية والعسكرية. وفيما يأتي عرْضٌ لأبرز هذه السيناريوهات وتحليل لفُرَص تحقُّق كل منها:-
١- السيناريو الأول: تصعيد روسي باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية
يفترض هذا السيناريو أن تُقدِم موسكو على رفْع مستوى التصعيد عبْر اللجوء إلى استخدام الأسلحة النووية التكتيكية كردٍّ مباشرٍ على استهداف أحد رموز عقيدتها النووية، وهي القاذفات الاستراتيجية. فوفق العقيدة العسكرية الروسية، فإن المساس بأدوات الردع النووي يمكن أن يُفسَر كمهدِّدٍ وجوديٍّ؛ ما يفتح الباب نظريًّا أمام استخدام الرَّدْع النووي.
لكن ورغم جدية هذا الطَّرْح من حيث المبدأ، فإن هذا السيناريو يظلُّ مستبعدًا في الوقت الراهن لعدة أسباب، منها أن روسيا ما تزال تُمسك بزمام المبادرة ميدانيًّا في مناطق شاسعة من الشرق والجنوب الأوكراني، وهو ما يُعَدُّ مكسبًا استراتيجيًّا يجعل من التصعيد النووي خيارًا غير ضروري ومكلفًا سياسيًّا ودوليًّا، كما أن اللجوء إلى هذا النوع من الأسلحة قد يؤدي إلى كسْر الحاجز النووي لأول مرةٍ منذ الحرب العالمية الثانية؛ ما سيثير ردود فعل غربية ودولية عنيفة، قد لا تتحملها موسكو في ظلِّ توازنات القوى الحالية.
وعليه، فإنه على الرغم من أن الضربة الأوكرانية غير مسبوقة؛ من حيث طبيعتها وموقعها، فإن روسيا لا تزال في موقعٍ يسمح لها بالرَّدِّ بوسائل تقليدية أكثر مرونة، دون الاضطرار إلى كسْر الخطوط الحمراء النووية.
يعد هذا السيناريو هو الأقرب للتحقُّق؛ إذ من المرجح أن تلجأ موسكو إلى تصعيد عسكري محدود –سواء عبْر ضربات دقيقة ضد منشآت أوكرانية نوعية أو تكثيف للهجمات الجوية والصاروخية– بهدف استعادة هيبتها التي اهتزت نتيجة الضربة الأوكرانية، ومنْع تكرار مثل هذه العمليات مستقبلًا؛ حيث إن روسيا كقوة عظمى لا يمكنها تجاهُل ضربة طالت أحد أركان ردْعها النووي دون أن ترد بما يوازي حجم الإهانة الرمزية والعسكرية.
وفي الوقت نفسه، فإن الرَّدَّ يجب ألا يتجاوز سقْفًا معينًا حتى لا يُقوض مسار المفاوضات الجاري حاليًا بين الطرفين، خاصَّةً مع انخراط موسكو وكييف في جولات أولية للحوار بوساطة تركية، ورغم أن هذه المفاوضات لا تزال في بداياتها، ولم تصل بعد إلى مستويات تمثيلية رفيعة، فإن مجرَّد وجودها يفرض على الطرفين ضبْط إيقاع الردود العسكرية بما لا يؤدي إلى إفشال المسار السياسي.
ومن هذا المنطلق، فإن التصعيد المحدود يوفر لروسيا فرصة لتحقيق أهداف متعددة: استعراض القوة والرَّدْع، والحفاظ على مكانتها كطرف لا يُستفَز دون عواقب، دون أن تدخل في مغامرة نووية تُعقِّدَ المشهد وتُنهي فُرَص التفاوض.
قد تتجه موسكو إلى تجاهل الضربة أو التقليل من أهميتها إعلاميًّا وعسكريًّا، والتركيز بدلًا من ذلك على ترسيخ مكاسبها الميدانية في الشرق والجنوب، وهذا السيناريو يقوم على فكرة أن الانجرار وراء الاستفزازات الأوكرانية، خاصَّةً من نوْع الهجمات الرمزية، قد يؤدي إلى فتْح جبهات جديدة أو توريط موسكو في تصعيد غير محسوب، وهو ما قد يضعف أوراقها التفاوضية لاحقًا، كما أن هذا المسار يتيح لموسكو اللعب على وتر الخطاب العقلاني أمام المجتمع الدولي، بتصوير نفسها كطرفٍ مسؤولٍ لا ينزلق وراء الاستفزازات، لكن رغم هذا الاحتمال، فإنه يبقى خيارًا غير مرجح؛ نظرًا لأن العقيدة العسكرية والسياسية الروسية لا تميل إلى تجاهل الضربات التي تمسُّ صورتها كقوة عظمى.
إجمالًا:
في ضوء السيناريوهات الثلاثة السابقة، يُسْتَبْعَدُ فهْم العملية الأوكرانية باعتبارها تحرُّكًا منفردًا؛ حيث إن حجم العملية وتعقيدها؛ من حيث جمْع المعلومات وتحديد التوقيت واختراق عُمْق استراتيجي روسي، يشير بوضوح إلى وجود تنسيق استخباراتي وعسكري وثيق مع الحلفاء الأوروبيين؛ حيث إن العملية -كما تُرجح طبيعتها- تتجاوز القدرات العملياتية التقليدية لأوكرانيا وحدها، وتكشف عن نمط جديد من التعاون الغربي في إدارة الحرب بشكلٍ غير مباشرٍ.
كذلك، لا يمكن تصوُّر أن كييف أقدمت على هذه الخطوة الحسَّاسة دون علم أو موافقة ضمنية من واشنطن؛ حيث إن الإدارة الأمريكية، منذ وصولها إلى البيت الأبيض تضع الملف الأوكراني في صدارة أولوياتها، وتسعى إلى إنهاء الحرب بشكلٍ عاجلٍ، كما أن استمرار صمود كييف على مدى سنوات الحرب كان دائمًا مرتبطًا بشكلٍ أساسيٍّ بالدعم الأمريكي الممنوح سياسيًّا وعسكريًّا واستخباراتيًّا.
وعليه، يمكن قراءة العملية كرسالة مزدوجة من كييف وحلفائها، إلى موسكو، مفادها؛ أن أوكرانيا لاتزال قادرة –عبْر أدوات الدعم الغربي– على إحداث اختراقات استراتيجية مُوجِعَة، وأن مفاتيح إنهاء الحرب ليست حِكْرًا على روسيا، كما تعزز هذه العملية من قناعة أن الحرب دخلت مرحلة “كسر المعنويات”، وهو ما يعني أن الحسابات لم تعُدْ محصورةً في الأرض والعتاد فقط، بل باتت الرمزية والهيبة والرَّدْع جزءًا من مسرح العمليات.
كما أن التزام الطرفين -الروسي والأوكراني- بسقوف ردٍّ محسوبةٍ واستمرار مسار المفاوضات رغم فداحة الضربات، يشير إلى أن هناك إرادةً غير معلنةٍ للحفاظ على خيطٍ رفيعٍ من التوازن، يسمح بتمرير رسائل القوة دون الانزلاق إلى مواجهات غير قابلة للسيطرة.
وبشكلٍ عامٍ، تبدو الحرب مرشحة لمزيد من التعقيد في ظلِّ هذا النمط الجديد من العمليات، لكن مع بقاء نافذة التفاوض مفتوحة، وإن كانت ضبابية، ويبقى السيناريو الأقرب هو إدارة الحرب عبْر الرسائل النوعية، لا الحسْم الكامل.
المصادر:
[1] هجوم بـ117 مسيّرة.. شبكة العنكبوت الأوكرانية تكبد روسيا خسائر فادحة، العربي، ١-٦-٢٠٢٥
