المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > أثرُ محدوديةِ مقارباتِ المعارضةِ التركيةِ في السياسةِ الخارجية
أثرُ محدوديةِ مقارباتِ المعارضةِ التركيةِ في السياسةِ الخارجية
- أبريل 30, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات

إعداد: أحمد فهمي
منسق برنامج دراسات الدول التركية
شهدتْ السياسةُ الخارجيةُ التركيةُ خلال العقدين الأخيرين تحولاتٍ ومقارباتٍ متعددة، اتسمت بشكلٍ عام بتوسيعِ النفوذ الإقليمي وتكثيف الانخراط في القضايا الدولية، وقد قادَ حزبُ العدالةِ والتنمية هذه التحولات عبر نهْجٍ براجماتيٍ – وأحيانًا تصادمي – يعكسُ رؤيته لدور تركيا في النظام الدولي، في المقابل سعت المعارضة وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري – الذي كان يحظَى بشراكةِ حزبِ الحركةِ القوميةِ في قيادةِ المعارضة – إلى بلورة مقاربات بديلة تقوم على التهدئة وتغليب الأدوات الدبلوماسية والابتعاد عن السياسات التوسعية التي تتبعها الحكومة، ومع أن هذه المقاربات بدتْ واعدةً في الخطابِ السياسيِ إلا أنها عانت من محدوديةٍ واضحةٍ على مستوى التأثير والواقعية، فلم تنجحْ في تقديمِ بديلٍ متكاملٍ أو مُقنعٍ في مجال السياسة الخارجية، الأمر الذي أضعف موقع المعارضة داخليًا وخارجيًا.
فعلى الصعيد المحلي، انعكس هذا القصور في تراجع ثقة الناخبين بقدرتها على الحكم، وفتح المجال أمام انتقادات بشأن غياب الرؤية الاستراتيجية وافتقار البرامج البديلة التي تتماشى مع تطلعات المجتمع التركي. أما خارجيًا، فقد أظهرت بعض التطورات – مثل التعامل الدولي الخافت مع قضية اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو – محدودية قدرة المعارضة على حشد الدعم الدولي أو التأثير في التوجهات الغربية تجاه أنقرة، ويعزى ذلك جزئيًا إلى غياب الثقل المؤسساتي للمعارضة في قنوات العلاقات الخارجية، إضافةً إلى إدراكِ القوى الدولية لحقيقة أن مركزَ صُنعِ القرارِ الخارجيِ لا يزالُ بيد الحكومة التي عززت حضور تركيا كلاعب أساسي في ملفات إقليمية واستراتيجية تهم القوى الغربية.
السياسةُ الخارجيةُ التركية بين البرجماتية وغياب البديل:
اكتسبتْ السياسةُ الخارجيةُ التركيةُ طابعًا خاصًا، لا بفعل موقع البلاد الجغرافي فحسب، بل أيضًا انطلاقًا من إرثها التاريخي كامتدادٍ للدولة العثمانية، وما رافقَ ذلك من طموحٍ متجددٍ للعب دور إقليمي فاعل، كما تأثرت هذه السياسة بما يُعرف في الأدبيات التركية بـ”عقدة سيفر” وهي الشعور التاريخي بالانكسار الذي خلفته معاهدة سيفر عقب الحرب العالمية الأولى، والذي دفعَ النُخبَ السياسيةَ التركيةَ إلى السعي لاستعادة الدور والمكانة الدولية للبلاد، وقد تناول أحمد داود أوغلو هذه الرؤية بوضوح في كتابه “العمق الاستراتيجي”، مؤكداً على أهميةِ صياغةِ سياسةٍ خارجية تُعززُ الأمنَ القوميَ لتركيا وتُعيدُ لها ثِقلهَا الإقليميَ والدوليَ.
ومنذ تولّي حزبُ العدالةِ والتنميةِ الحكمَ عام 2002، شهدت السياسة الخارجية التركية تحولًا نوعيًا اتسم بالحيوية والانخراط الواسع في القضايا الإقليمية والدولية، متجاوزًا إرث العزلة الذي فرضته المؤسسات الكمالية – في مقدمتها مجلس الأمن القومي – في العقود السابقة، وتجلى هذا التحول في توسيع النفوذ عبر أدوات القوة الناعمة كالمساعدات الإنسانية والتعاون الثقافي إلى جانب القوة الصلبة من خلال العمليات العسكرية وإنشاء القواعد الخارجية وتنشيط الصناعات الدفاعية، وقد تُوجَ هذا التوجّهُ بإطلاقِ رؤية “قرن تركيا” التي تعكسُ طموحَ أنقرة في تكريس حضورها كقوةٍ مرنةٍ وفاعلةٍ.
وفي ظل هذا السياق البراجماتي الذي تقودهُ العدالةُ والتنميةُ، سعتْ المعارضةُ إلى طرْح مقارباتٍ بديلةٍ، خاصة عندما نجحت في تشكيل تحالف “الطاولة السداسية” الذي ضمَّ ستة أحزابٍ من خلفياتٍ أيديولوجيةٍ متباينةٍ استعدادًا لانتخابات 2023، وأصدرت هذه القوى وثيقة سياسات مشتركة تطرقت إلى قضايا السياسة الخارجية، إلا أن هذه المحاولة عانت من محدودية في الرؤية والتأثير لأسباب عدة، أبرزُها التباينُ الأيديولوجيُ بين مكوناتها، مما حالَ دون بلورةِ رؤيةٍ استراتيجيةٍ متماسكةٍ، قادرةٍ على التفاعل مع تعقيدات المشهد الجيوسياسي الإقليمي والدولي.
كما عجزتْ هذه المقارباتُ عن إحداثِ اختراقٍ حقيقيٍ في الخطاب العام المتعلق بالسياسة الخارجية، حيث غلب عليها الطابع النقدي لسياسات الحكومة دون تقديم بدائل عملية وقابلة للتنفيذ، وقد ظلت الكثير من الطروحات التي قدمتها المعارضة في هذا الإطار حبيسة الأطر النظرية، دون تفاعلٍ فعليٍ مع التحدياتِ الأمنيةِ والاقتصاديةِ الجيواستراتيجيةِ التي تواجهُ البلادَ، وهذا ما أضعف قدرتها على كسب ثقة الناخبين، الذي بات أكثر انجذابًا للخطاب القومي والأمني الذي تبنته الحكومة، خاصةً في ظل تصاعد التهديدات الإرهابية، واضطرابات دول الجوار، والتحولات في النظام الدولي.
محدوديةُ مقارباتِ المعارضة:
سعتْ المعارضةُ إلى تقديمِ مقارباتٍ بديلةٍ تستندُ إلى خطابٍ يقوم على تغليب الدبلوماسية التقليدية وتجنّب التورطِ في مغامراتٍ عسكريةٍ، مستلهمةً في ذلك رؤيةَ المؤسسِ مصطفى كمال أتاتورك: «سلام في الوطن، سلام في العالم»، ورغم منطقية هذا الطرح من حيث المبدأ، إلا أن فعاليته على أرض الواقع ظلت محدودة، إذ اصطدمت بعدة تحديات أبرزُها: تعقيدُ البيئةِ الجيوسياسيةِ الإقليميةِ، وتصاعدُ المزاجِ القوميِ داخل تركيا، الذي بات ينظرُ إلى تنامي القوة التركية بوصفه أحدَ مقوماتِ الاستقلالِ والسيادةِ، خاصة أن حكومات حزب العدالة والتنمية استطاعت ترسيخ مكانة تركيا على الساحة الدولية بعد عقود من التبعية للسياسات الغربية التي سادت خلال الحقبة الكمالية والحكومات العسكرية والائتلافات الحزبية المتعاقبة. وفي هذا السياق، يمكن استعراض محدودية مقارباتها في عدد من الملفات الرئيسية:
-
الملف السوري: بادرتْ المعارضةُ – وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري – بالدعوة إلى إعادةِ التواصلِ مع النظامِ السوري بهدفِ تسهيلِ عودة اللاجئين وتحقيقِ الاستقرارِ على الحدود، ورغم واقعية هذا الطرح من منظور إدارة الأزمة، إلا أنه قوبل برفضٍ من مؤسسات الدولة، نظرًا لاعتباره تفريطًا في المكاسب الأمنية المتحققة عبر العمليات التركية شمال سوريا، وتهديدًا لتوازناتِ الأمن القومي، لا سيّما فيما يتعلقُ بمكافحة الجماعات الكردية المسلحة.
-
الملفُ الليبيُ وشرق المتوسط: أبدت المعارضة تحفظًا إزاء نهْجِ القوةِ الذي تبنته الحكومة، معتبرةً أن التوسّعَ العسكريَ وتوقيعَ اتفاقياتٍ بحريةٍ مثيرةٍ للجدل قد يَزجُّ بتركيا في مواجهات غير محسوبة مع قوى إقليمية ودولية، وبدا هذا الموقف معزولًا عن توجهات الرأي العام الذي رأى في تلك التدخلات إنجازات استراتيجية، لا سيّما مع نجاح أنقرة على فرْضِ حضورها في مواجهة تحالفات إقليمية كمنتدى غاز شرق المتوسط الذي تم تأسيسه دون مشاركة تركيا نتيجةً لسياساتها الإقليمية، كذلك تحقيق مكاسب اقتصادية جراء تعاونها مع حكومات الغرب الليبي المتعاقبة.
-
العلاقاتُ مع الغرب وروسيا: روّجت المعارضة لخطابٍ يدعو إلى إعادةِ تموضعِ تركيا ضمن المحور الغربي، والدعوة إلى استعادة العلاقات التقليدية مع واشنطن وبروكسل، والامتثال لسياسات الناتو بما في ذلك العقوبات على روسيا، إلا أن الشارعَ التركيَ أكثر ميلًا للاستقلالية في رسْمِ السياسةِ الخارجيةِ في ظل تجربةِ التهديد بالعقوبات والازدواجية الغربية في قضايا الأمن القومي، والتي عززتها مبادرات الحكومة مثل التعاون مع روسيا في مشروع الطاقة النووية، كما نجحت في تحقيق مكاسب استراتيجية جراء لَعِبِ دورِ الوسيط بين طرفي الحرب الروسية–الأوكرانية.
-
التمددُ التركيُ في إفريقيا والأنشطة العسكرية: في هذا الملف تحديدًا بدت المعارضةُ مترددةً وغائبةً عن المشهد، حيث لم تقدمْ رؤيةً واضحةً تجاه الانفتاح التركي المتزايد على القارة الإفريقية، رغم أهميته الاستراتيجية في تعزيز النفوذ الاقتصادي والعسكري ومكافحة امتدادات تنظيم “جولن”، وقد ساهم هذا الغياب في تعزيز الانطباع العام بمحدودية خيارات المعارضة تجاه ملفات السياسة الخارجية.