أجندةُ التحركِ: كيف سيتعاملُ ترامب مع ملفِ حربِ غزة؟

إعداد: دينا إيهاب

باحث مساعد في وحدة شؤون الشرق الأوسط

تُشكلُ عودةُ الرئيس الأمريكي المُنتخب، دونالد ترامب إلى البيت الأبيض منعطفًا حاسمًا في المشهدين الإقليمي والدولي، في ظلِّ تطلعاتٍ واسعةِ النطاق لمعرفة كيفية تعاملهِ مع أبرز القضايا العالمية، وعلى رأسها الحربُ الإسرائيليةُ في غزة، ومع تحديد يوم ٢٠ يناير ٢٠٢٥ لتنصيبهِ رئيسًا للولايات المتحدة، يترقّبُ العالمُ خطابًا محوريًا يرسمُ من خلاله ملامح أولوياته خلال أول ١٠٠ يوم من ولايته الجديدة، والذي من المتوقعِ أن يتصدرَ ملفُ غزة هذا الخطاب، خاصةً في ظل تعقيداتٍ متزايدةٍ وواقعٍ سياسي وعسكري بات أكثر تشابكًا مقارنةً بفترة ولايته الأولى، على الصعيد الدولي، أعادت التحولاتُ الأخيرةُ تشكيلَ خريطة القوى والتحالفات العالمية، لتفرض توازنات جديدة تزيد من تعقيد المشهد الإقليمي، أما في الشرق الأوسط، فقد تضاعفتْ التحدياتُ الهيكليةُ في ظل صراعاتٍ مُتصاعدةٍ وسياقاتٍ أكثر هشاشةً، داخليًا، يبرزُ فريق ترامب المُرتقب، المكوّن من شخصيات يمينية ذات توجهات أكثر تطرفًا، كمؤشرٍ على سياسةٍ خارجيةٍ قد تحملُ ملامحَ أكثر صرامة، ما يُضفي طبقةً إضافيةً من التعقيد على مقاربة الولايات المتحدة تجاه غزة، وبالنظر إلى هذا السياق، يبرزُ التساؤلُ إلي أي مدى قد تؤثرُ عودة ترامب على مسار الحرب الإسرائيلية في غزة.

أولًا: رؤيةُ ترامب للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي

تُمثلُ رؤيةُ دونالد ترامب للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي نموذجًا صريحًا للتحولات التي قادتها التياراتُ اليمينيةُ المتطرفةُ في الولايات المتحدة، تتجسدُ هذه الرؤية في إطارٍ أيديولوجيٍ يرفضُ الاعترافَ بالحقوق القومية والسياسية للشعب الفلسطيني، ويؤكد على أولوية المصالح الإسرائيلية باعتبارها أساسًا ثابتًا للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ينبعُ هذا النهج من قناعةٍ مُتجذرةٍ في الفكر اليميني بأن إسرائيلَ هي الشريكُ المثاليُ في المنطقة، في حين يتم تصوير الفلسطينيين كعقبةٍ أمام تحقيق الاستقرار والتنمية، وذلك على النحو الآتي:

1- المُرتكزاتُ الأيديولوجيةُ لليمين المتطرف في رؤية ترامب: ترتكزُ رؤيةُ ترامب على مجموعةٍ من المفاهيم التي تميزُ الأيديولوجيةَ اليمينيةَ المتطرفةَ، أولاً، يتمحورُ هذا التوجهُ حول تبنّيِ سردية إسرائيلية مطلقة، تتجاهل تمامًا المطالب الفلسطينية بالسيادة أو الحق في تقرير المصير، في هذا السياق، يُنظر للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي باعتباره قضيةً أمنيةً محضةً تخدمُ أهدافَ إسرائيل الاستراتيجية، هذا المنظور يتجاهلُ الأبعادَ التاريخيةَ للصراع، حيث يتم اختزال الفلسطينيين إلى مجرد مشكلةٍ إنسانيةٍ أو عقبةٍ أمام تحقيق مصالح جيوسياسية أوسع، ثانيًا، يتبنّى هذا الفكرُ رؤيةً دينيةً أو ثقافيةً تعتبرُ دعم إسرائيل التزامًا أخلاقيًا وسياسيًا، يتمثل ذلك في تأطير الصراع ضمن خطابٍ يركزُ على “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” دون النظر إلى السياق الأوسع للوجودِ الإسرائيلي في فلسطين، يتقاطعُ هذا التوجهُ مع الخطاب الديني المسيحي الصهيوني السائد بين التيارات اليمينية في الولايات المتحدة، والذي يُضفي شرعيةً دينيةً على السياسات الإسرائيلية التوسعية.

2- السلامُ الاقتصاديُ كأداةٍ للتغاضي عن الحقوق السياسية: يُعدُ مفهومُ “السلام الاقتصادي”^[1] الذي طرحهُ ترامب تجسيدًا واضحًا للرؤية اليمينية المتطرفة تجاه الصراع، وفقًا لهذه الرؤية، يتمُ تقزيمُ القضيةِ الفلسطينيةِ إلى مجرد تحسين الظروف الاقتصادية دون معالجة الحقوق الجوهرية للشعب الفلسطيني، يعكسُ هذا النهجُ افتراضًا أن الفلسطينيين يمكن أن يقبلوا بحلولٍ “اقتصادية” تعوضهم عن حقوقهم السياسية، مثل إقامةِ دولتهم المستقلة أو حق العودة، تتسمُ هذه الرؤية بأنها تبسيطيةٌ ومنحازةٌ؛ إذ تفترضُ أن المشكلاتِ الاقتصاديةَ هي العاملِ الرئيسي للصراع، متجاهلةً بذلك جذوره السياسية والإنسانية.

3- رفْضُ الحلولِ العادلةِ واستبدالها بأجندة توسعية: أحدُ أبرزِ سمات الرؤية اليمينية المتطرفة التي تبناها ترامب هو رفضهُ الصريح للحلول العادلة التي تتضمنُ الاعترافَ بحقوقِ الفلسطينيين السياسية، بدلًا من ذلك، تمحورتْ رؤيتهُ حول تعزيز نفوذ إسرائيل الإقليمي من خلال فرض حلولٍ أحاديةِ الجانب تخدمُ مصالحها، حيث لم يكنْ في أي من أطروحات ترامب اعتراف بالقضايا الجوهرية مثل حق الفلسطينيين في القدس، أو حق العودة، أو حتى إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة، حيث يُمكنِ النظر إلى سياسات ترامب على أنها محاولةٌ لإعادة تعريف طبيعة الصراع بما يتناسبُ مع رؤية اليمين المتطرف، حيث يتمُ تقليصُ الفلسطينيين إلى طرفٍ “يجب إدخاله” في حلول تخدم أمن إسرائيل واستقرارها الإقليمي.

4- تحييدُ العدالةِ وإعادةُ صياغةِ السلام من منظور يميني متطرف: الرؤيةُ اليمينيةُ المتطرفةُ التي تبناها ترامب تعتمدُ على استبدال مفهوم العدالة بمفهوم براغماتي يخدمُ المصالحَ الإسرائيليةَ فقط، هذه البراغماتية تتجلى في تجاهل القوانين الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وتقديمِ حلولٍ اقتصاديةٍ ودبلوماسيةٍ تسعى إلى تحييدِ القضية الفلسطينية دوليًا وإقليميًا، هذه المقاربةُ تُظهر افتقارًا للتوازن، حيث ترفض أيَّ شكلٍ من أشكال الضغط على إسرائيل لتحقيق تنازلاتٍ حقيقيةٍ، وتُعزز مبدأ فرض الحلول من طرفٍ واحدٍ، في الوقت نفسه، تكرس هذه السياسة خطابًا سياسيًا يُصور الفلسطينيين كطرفٍ غير عقلاني يرفضُ الفرصَ “السخية” التي تقدمها الإدارة الأمريكية.

ثانيًا: إدارةُ ترامب تجاه إسرائيل ما بين الولاية الأولى والثانية

تُظهرُ السياسة التي انتهجها دونالد ترامب تجاه إسرائيل خلال ولايته الأولى (٢٠١٧-٢٠٢١)، واستمرارها في ولايته الثانية، تحولًا جذريًا في دور الولايات المتحدة من الوسيط التقليدي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلى شريكٍ أساسيٍ في تنفيذ أجندة اليمين الإسرائيلي التوسعية، هذه السياسة، التي بُنيتْ على قراراتٍ تاريخيةٍ حاسمةٍ، تُعتبر انعكاسًا لتوجهاتٍ أيديولوجيةٍ ومصالح استراتيجية، إلى جانب تأثير نفوذ اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، حيث تمثل ذلك في الآتي:

1- القدسُ عاصمةٌ لإسرائيل: في عام ٢٠١٧، أعلن ترامب رسميًا القدس عاصمةً لإسرائيل ونقلَ السفارة الأمريكية إليها. هذه الخطوةُ كانت بمثابة اعترافٍ ضمنيٍ بسيادة إسرائيل على المدينة بأكملها، متجاهلًا قرارات الشرعية الدولية التي تُقرُ بوضع القدس كمدينةٍ ذاتِ وضعٍ خاصٍ وقابلةٍ للتفاوض. القرار أعطى إسرائيل ضوءًا أخضر للمضي قُدمًا في سياساتها لتهويد المدينة مع تغييب كامل لحقوق الفلسطينيين.

2- الاعترافُ بسيادةِ إسرائيل على الجولان: في عام ٢٠١٩، أعطى ترامب الشرعيةَ الأمريكيةَ لضمِّ إسرائيل لمرتفعات الجولان السورية المحتلة، في خطوةٍ تعززُ المطالبَ الإسرائيلية وتوجهُ رسالةً واضحةً بأن القانون الدولي ليس عائقًا أمام القرارات أحادية الجانب.

3- صفقةُ القرن: الأهمُّ في سياسات ترامب كان طرح “صفقة القرن” في عام ٢٠٢٠، التي قدمها كخطةٍ شاملةٍ لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. في جوهرها، سلبت الخطة الفلسطينيين معظم حقوقهم، إذ أبقتْ السيادة الإسرائيلية على غور الأردن والمستوطنات الكبرى، بينما اقترحت كيانًا فلسطينيًا منزوعَ السيادة ومُقطّعَ الأوصال، هذه الخطة قوبلت برفضْ فلسطينيٍ واسع، لكنها في الوقت ذاته كانت تعبيرًا صريحًا عن انحياز إدارة ترامب لصالح اليمين الإسرائيلي.

4-موقفُ ترامب تجاه المؤسسات الفلسطينية: أغلقَ مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، مما وجّهَ ضربةً رمزيةً وسياسيةً كبيرةً للفلسطينيين، وأعطى إشاراتٍ واضحةً بأن الإدارة الأمريكية لم تعد ترى فيهم شريكًا في عملية السلام. كما أوقف ترامب تمويل وكالة الأونروا في عام ٢٠١٩، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في الأراضي الفلسطينية، حيث يعتمد ملايين اللاجئين الفلسطينيين على خدمات الوكالة.

مع عودتهِ إلى الرئاسة في ٢٠٢٥، استأنف ترامب السياساتٍ التي بدأها في ولايتهِ الأولى، حيث استمرت إدارته في استكمال هذه الأجندة، وذلك من خلال ما يلي:

1- تعييناتٌ مؤثرةٌ: عيّن ترامب شخصياتٍ بارزةً تُمثل التيارَ الدينيَ اليميني المتطرف في مناصب مهمة، كان أبرزهم “مايك هاكابي” ^[2] الذي يُعدُ من أبرز مؤيدي إسرائيل، كسفير أمريكي لدى إسرائيل، كما أن هاكابي يعارض تمامًا حل الدولتين ويرى أن الضفةَ الغربيةَ جزءٌ تاريخيٌ من إسرائيل، بل ويسميها “يهودا والسامرة”، بالإضافة إلى ذلك في الآونة الأخيرة، عارض هاكابي دعم الولايات المتحدة للهدنة بين إسرائيل وغزة، مؤيدًا حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد حماس، مُعتبرًا الصراع بين “الخير والشر”، كما أنه يقترحُ أن تُركزَ الولايات المتحدة على دعم إسرائيل بدلًا من التفاوض مع حماس.

2- نفوذُ اللوبي الإسرائيلي: كان للنفوذِ الهائل الذي يتمتعُ به اللوبي الإسرائيلي في واشنطن دورًا حاسمًا في توجيه سياسات ترامب، فالكونغرس بغرفتيه مليء بالنواب الذين يصفون أنفسهم بـ”الصهاينة”، ما يعني أن أيَّ سياسةٍ معارضة لإسرائيل تواجه مقاومة شديدة.

3- الدعمُ الماليُ مُقابل وعود بالسياسات التوسعية: حيث الدعمُ الماليُ الهائل الذي تلقاه ترامب في حملته الانتخابية من شخصيات مثل “ميريام أديلسون” كان له تأثيرٌ مباشرٌ على قراراته، حيث قدمت أديلسون دعمًا ماليًا قدره ١٠٠ مليون دولار^[3]، مقابل وعودٍ صريحةٍ بدعم السياسات الإسرائيلية التوسعية، وهذا ما أعلنه وزير المالية الإسرائيلي “بتسلئيل سموتريش” أن عام ٢٠٢٥ سيكون عام “بسط السيادة” على الضفة الغربية ^[4] ، والذي ينسجمُ مع تصريحات ترامب في حملته الانتخابية بشأن توسيع حدود إسرائيل^[5].

ثالثًا: دلالاتُ تصريحاتِ ترامب بشأن حرب غزة

تميزتْ  تصريحاتُ ترامب في بداية حرب غزة بالغموض السياسي، حيث وعدَ بإنهاء الحرب بسرعةٍ دون تقديم خطةٍ واضحةٍ، لكن مع تطور الصراع، تحولَ دعمهُ إلى تأييدٍ صريحٍ لإسرائيل، خاصة في حربها ضد حماس، ليصبح جزءًا من رؤية نتنياهو التوسعية، كما ربط النجاح العسكري الإسرائيلي بمصالحه السياسية، مستخدمًا دعم إسرائيل لتحقيق مكاسب داخلية ضد منافسيه الديمقراطيين، ما يعكسُ تحولًا من غموض إلى تأييد كامل لأهداف الحكومة الإسرائيلية، وذلك على النحو الآتي:

1- وعودٌ غامضةٌ بإنهاء الحرب سريعًا: عبّر ترامب، خلال الأشهر الماضية، عن رغبته في إنهاء الحرب في غزة بسرعة، مستخدمًا لغةً خطابيةً تدعو إلى “السلام الحقيقي”، حيث في مقابلة بإبريل ٢٠٢٤، صرّح قائلاً: “انتهوا من هذا الأمر، ولنعدْ إلى السلام ولنتوقفْ عن قتل الناس” ^[6]، وفي منشور على منصة “إكس” بتاريخ ٣٠ أكتوبر ٢٠٢٤، أكد: “أريد أن يعود الشرق الأوسط إلى السلام الحقيقي والدائم، وسوف نفعل ذلك بشكل صحيح” ^[7]، على الرغم من هذه التصريحات، لم يقدّمْ ترامب خطوات عملية أو خطة واضحة لإنهاء الحرب، مما جعل وعوده عُرضةً للانتقاد ووصفها بأنها مجرد شعارات انتخابية.

2- من الدعمِ الضمنيِ إلى المطلقِ لإسرائيل ضد حماس: تميزت تصريحاتُ ترامب بدعمٍ غير مباشر للعمليات الإسرائيلية ضد حركة حماس. استخدامه المتكرر لعبارة “إنهاء المهمة” يعكسُ توافقًا مع رؤية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن “القضاء على حماس”، كما في أغسطس ٢٠٢٤، وصف ترامب المناصرين الفلسطينيين في الولايات المتحدة بـ”بلطجية أنصار حماس” ^[8]، داعيًا للتعامل معهم بصرامة، وامتدح الشرطةَ لإخلاء احتجاجاتهم بالقوة، علاوةً على ذلك، اقترحَ ترامب سياسات مثيرة للجدل، مثل إلغاء تأشيرات الطلاب الذين يحملون آراء معادية لإسرائيل، وضمّن الحزب الجمهوري في برنامجه الانتخابي وعدًا بطرد “المتطرفين المؤيدين لحماس” ^[9].

3- الربط بين إنهاء الحرب وانتصار إسرائيل: ربط ترامب في خطاباته بين إنهاء الحرب وتحقيق انتصار إسرائيلي حاسم، حيث أشار إلى لقائه مع نتنياهو في يوليو، قائلاً: “نتنياهو يعرف ما يفعله، شجعته على إنهاء حرب غزة بسرعة، لكن بانتصار” ^[10]، يؤكد هذا الموقف أن إنهاءَ الحرب بالنسبة لترامب مشروطٌ بتحقيق إسرائيل لمكاسب عسكرية وسياسية واضحة.

4- الجدلُ حول الإطار الزمني للحرب: أثارتْ تصريحاتُ ترامب حول إنهاء الحرب تساؤلاتٍ حول الجدول الزمني لتحقيق ذلك، أشارت تقارير إلى أنه أبلغ نتنياهو برغبته في إنهاء الحرب قبل عودته إلى البيت الأبيض في يناير ٢٠٢٥ ^[11]، هذا التوقيتُ يعكسُ رغبةَ ترامب في تحقيقِ مكاسبَ سياسيةٍ مبكرةٍ عند توليه الرئاسة، وحرمان إدارة بايدن من تحقيق أي نجاح دبلوماسي في الملف الفلسطيني وتوفيت فرصة تعقيد المشهد الإقليمي أكثر على بايدن الذي يريد أن يضعَ أعباءً إضافيةً على ترامب في بداية ولايته تحت ظرف إقليمي مُتعثر، ومع ذلك، يبقى هذا الإطارُ الزمنيُ محفوفًا بالتحديات، منها حسابات نتنياهو الداخلية والتوصل إلى اتفاق مع حماس بشأن الرهائن، مما يجعل إنهاء الحرب في هذا الإطار مسألة غير مضمونة.

رابعًا: أجندةُ ترامب لتسوية الحرب في غزة

تضعُ إدارةُ ترامب أجندةً خاصةً بها لتسوية الحرب في غزة، والتي يُمكن تلخيصها فيما يلي:

1- تبادل الأسرى: تأتي صفقةُ تبادلِ الرهائن على رأس الأجندة الأمريكية الخاصة بترامب لتسوية الحرب في غزة، حيث جاء تصريحهُ في ٩ ديسمبر ٢٠٢٤، شديدَ اللهجةِ على ضرورة عودة الرهائن الإسرائيليين قبل توليه المنصب، مُحذرًا من أنه بخلاف ذلك سيحول الشرق الأوسط لجحيم^[12].

2- الوساطةُ بشروطٍ إسرائيلية: حيث يسعى ترامب في أجندتهِ إلى إنهاءِ الحرب عبر وساطةٍ أو مفاوضات ولكن بشروطٍ تميلُ لصالح إسرائيل، مثل نزْعِ سلاح حركة حماس ومنْعها من حُكمِ القطاع، وإعطاء إسرائيل جزء من قطاع غزة بهدف حماية أمنها القومي، من شأن ذلك أن يمنحَ إسرائيلَ اليدَ العليا، بينما يمكن لترامب الادعاءُ بأنه “أوقف الحرب” عبر صفقة تمنع التصعيد، صفقة من شأنها أن تُمثل ضغطاً سريعاً لإنهاء الصراع مؤقتًا، حيث يُعرف ترامب بميوله لإنجاز الصفقات بشكلٍ سريعٍ ودراميٍ.

3- تسويةٌ اقتصاديةٌ قصيرةُ الأجل: من ناحيةٍ أخرى، تنتهجُ أجندةُ ترامب أسلوبًا آخر يتمثلُ في التلويح بتقديم حوافز اقتصادية لإعادة إعمار غزة وتحسين أوضاع الفلسطينيين مقابل وقْفِ القتال، مع وعدٍ بتخفيف الحصار المفروض على غزة، فإن هذا الحلَ سيبقى تسويةً قصيرة الأجل دون أي معالجة جذرية للأسباب الجوهرية للصراع، والتي ستوَاجهُ بالرفض من قِبلِ الفصائل الفلسطينية لها ما لم تكنْ مرتبطةً بحلٍ شاملٍ يتضمنُ إقامةَ دولةٍ فلسطينيةٍ.

4- مبدأ حل الدولتين: يُمكنُ القول بأن مبدأ “حل الدولتين ” ليس مطروحًا على أجندة ترامب الخاصة بتسوية الحرب في غزة أو على الأقل في الوقت الراهن، حيث أدلى ترامب بتصريحات في أبريل ٢٠٢٤، أشارفيها إلى أنه كان يعتقد في وقتٍ سابقٍ أن حلَّ الدولتين قد ينجح ، ولكنه الآن يرى أن ذلك سيكون صعبًا للغاية ^[13]، وهذا الموقفُ قد يعكسُ تقاربًا مع المواقف الإسرائيلية التي ترى في حل الدولتين عقبةً أمام تحقيق مصالحها، وبالتالي فإن ترامب قد يكون أكثرَ قبولًا للتعاطي مع حلولٍ تتضمنُ تهجيرَ الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية إلى الأردن، وهو ما يتماشى مع رؤية بعض المسؤولين الإسرائيليين الذين يعتقدون أن الأردن هو “الوطن البديل” للفلسطينيين.

5- التوسّعُ الاستيطاني: من المُحتمل أن تدعمَ أجندةُ ترامب المشاريعَ الاستيطانية الإسرائيلية من خلال ضم مستوطنات الضفة الغربية وغور الأردن إلى إسرائيل، في مُقابل إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح ذات صلاحياتٍ سياديةٍ محدودةٍ، بحيث تعمل إسرائيل بشكلٍ حصريٍ على توفير الأمن لكلا الدولتين، وذلك في إطار مُقاربة اقتصادية تتضمن الضغط على حماس في المفاوضات من خلال إقامة بنيةٍ تحتيةٍ ماديةٍ وبيئة تنظيمية سهلة تعملُ على تحويل الضفة الغربية وغزة إلى مراكزَ ماليةٍ وتجاريةٍ إقليميةٍ عبر ضخ استثمارات اقتصادية ضخمة تصل إلى نحو ٥٠ مليار دولار في الاقتصاد الفلسطيني^[14].

وبالنظر إلى هذا السياق، فإن أجندةَ ترامب في تعاملهِ مع ملف الحرب في غزة خلال ولايته الجديدة تُواجهُ عدداً من التحديات، ومنها على سبيل المثال ما يلي:

1- الرفضُ العربيُ والإسلامي لرؤية ترامب تجاه غزة: يُمكن القول بأن أجندة ترامب ستُقابل برفضٍ عربيٍ وإسلاميًٍ، خاصةً مع دعمه للمشاريع الاستيطانية ورفضهِ مبدأ حل الدولتين، وبالتالي تقويض الحقوق الفلسطينية المشروعة، هذا الرفض ينبع من إدراك عربي وإسلامي مشترك بأن هذه السياسات تُفاقم الأزمة، وتُجهض أي فرصة لتحقيق تسوية عادلة.

2- التحالف الدولي لحل الدولتين: مصير مفاوضات التطبيع السعودية-الأمريكية-الإسرائيلية للسلام يظلُ معلقًا على اشتراط الرياض قيام دولة فلسطينية، خاصةً بعد إطلاق “التحالف الدولي لحل الدولتين” في سبتمبر ٢٠٢٤، هذا الشرط سيؤثر بشكلٍ كبيرٍ على السياسةِ الأمريكية تجاه غزة في إدارة ترامب الثانية، التي ستكون محكومةً بالواقع الإقليمي الجديد والتحولات في علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الإقليميين، مما يفرضُ تحدياتٍ على إدارة ترامب في تحقيق توازن بين مصالحها مع إسرائيل والتزاماتها تجاه حلفائها العرب.

3- نتنياهو تحت ضغط قضايا الفساد والعزلة الدولية: يُواجهُ نتنياهو تحدياتٍ داخليةً وخارجيةً، أبرزها قضايا فساد متراكمة، من بينها القضية المعروفة بـ”الملف 4000″ ^[15]، التي تتعلق بعلاقته مع مالك شركة الاتصالات الإسرائيلية “بيزك”. بالإضافة إلى ذلك، صدرتْ مذكرةُ اعتقالٍ دوليةٍ من المحكمة الجنائية الدولية ضد نتنياهو ^[16]بتهم تتعلق بجرائم حرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة، هذه الضغوط الداخلية والخارجية جعلت من الصعب على نتنياهو السفر بحرية، مما يزيدُ من عزلة إسرائيل على الساحة الدولية، خاصةً مع تراجعِ دعم بعض شركائه السياسيين في الكنيست، مما يُؤثر على قدرة ترامب في دعم نتنياهو بشكلٍ غير مشروط، ويضعه في موقف مُحرج دوليًا.

4- الرأي العام الأمريكي: تواجهُ إدارة ترامب تحدياتٍ داخليةً تتعلق بموقف الرأي العام الأمريكي والضغط من الأحزاب السياسية. في ظل تصاعد الانتقادات الدولية لإسرائيل، قد يجدُ ترامب نفسه مضطرا لتقديمِ تنازلاتٍ أو تعديلِ سياسته تجاه الحرب في غزة، خاصة في حال حدوث تغيير في الأجواء السياسية الداخلية الأمريكية، حيث قد تتصاعد الدعوات للمحاسبة وإصلاح السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل، وهي دعواتٌ قد تنبعُ من الأحزاب الديمقراطية أو حتى من بعض الفصائل الجمهورية التي تتبنى مواقف أكثر تحفظًا.

ختامًا:

إن عودةَ ترامب إلى الساحة السياسية تعكسُ استمرارًا في تعزيز أيديولوجيته اليمينية المتطرفة المؤيدة لإسرائيل، وهو ما سيؤثر بشكلٍ حاسمٍ على مسار الحرب في غزة، وهو ما جعلَ موقفه متماهيًا بشكلٍ كاملٍ مع المصالح الإسرائيلية، هذه الرؤية المتشددة، التي ترفضُ تقديم تنازلات تجاه القضية الفلسطينية، ستؤدي إلى تعزيز التصعيد العسكري في غزة، حيث سيظل دعم ترامب لإسرائيل حجر الزاوية في استراتيجيته، ومع دخول ولايته الثانية، ستفرضُ التحدياتُ الراهنةُ على ترامب التكيف مع التحولات الإقليمية والدولية، إلا أن أيديولوجيته الراسخة وتفكيره البراجماتي قد يجعلُ من الصعب عليه تبنّي مقارباتٍ أكثر توازنًا، مما سيجعلُ تأثيره على مسار الحرب في غزة محكومًا بتحقيق مصالح إسرائيلية على حساب أيِّ حلولٍ سياسيةٍ ذاتِ أفقٍ بعيد.

المصادر:

^[1] فورين بوليسي: السلام الاقتصادي مع إسرائيل لن يقيل عثرات الفلسطينيين، الجزيرة نت، تاريخ النشر: ٣ يونيه ٢٠٢١، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/qBpNQ

^[2]   من هو السفير الأمريكي الجديد لدى إسرائيل؟.. متشدد ولا يعترف بالضفة الغربية، الوطن، تاريخ النشر: ١٣ نوفمبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://m.elwatannews.com/news/details/7677432

^[3] نبهان خريشة، لماذا سيواصل ترامب سياسته في ولايته الأولى، جريدة القدس، تاريخ النشر: ١٤ نوفمبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://alquds.com/ar/posts/141815

^[4] سموتريتش يعلن مصادرة نحو 24 ألف دونم لتوسيع الاستيطان بالضفة، الجزيرة نت، تاريخ النشر: ٦ ديسمبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/gxiMV

^[5] خبراء: حديث ترامب عن توسيع مساحة إسرائيل يتجاوز “استمالة اليهود”، إرم نيوز، تاريخ النشر: ١٦ أغسطس ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://www.eremnews.com/news/arab-world/9pywsg2

^[6]  محمد بسيوني، رسائل مُربكة: مستقبل الحرب في غزة بعد فوز ترامب، إنترريجونال للدراسات الاستراتيجية، تاريخ النشر: ٨ نوفمبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://www.interregional.com/article/%D8%B1%D8%B3%D8%A7%D8%A6%D9%84-%D9%85%D8%B1%D8%A8%D9%83%D8%A9:/2816/Ar

^[7] المرجع السابق ذكره.

^[8] ترامب يطالب نتنياهو بانتصار سريع بغزة ويطمح لتوسيع مساحة إسرائيل، الجزيرة نت، تاريخ النشر: ١٦ أغسطس ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/WsWnk

^[9]  شيماء عبد الحميد، عودة قد تغير حسابات المشهد الإقليمي.. ماذا يعني فوز ترامب بالنسبة لإيران وإسرائيل؟”، مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية، تاريخ النشر: ٨ نوفمبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/UhIYJ

^[10] ترامب يكشف ما قاله لنتنياهو بشأن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، CNN Arabic ، تاريخ النشر: ١٦ أغسطس ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2024/08/16/trump-says-he-did-not-encourage-netanyahu-to-agree-to-ceasefire-during-their-meeting

^[11] دونالد ترامب:على إسرائيل إنهاء المهمة بسرعة، حتى قبل عودتي إلى البيت الأبيض”، المسار الإخباري، تاريخ النشر: ١٨ مارس ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://masarnews.co/archives/156346

^[12] مبعوث ترمب يحذّر من تداعيات عدم إطلاق سراح الرهائن في غزة قبل التنصيب، صحيفة الشرق الأوسط، تاريخ النشر: ٩ ديسمبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/miGZe

^[13] ترامب يستبعد نجاح حل الدولتين حاليًا، RT Arabic، ، تاريخ النشر: ٢٠ أبريل ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/spxNx

^[14] عمر طاشبينار، إحياء الواقعية الجاكسونية: ملامح سياسة ترمب الخارجية في ولايته الرئاسية الثانية، مركز الإمارات للسياسات، تاريخ النشر:  ٦ نوفمبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://epc.ae/ar/details/featured/malamih-siasat-trump-alkharijia-fi-wilaya-riasiya-thania-muhtamala

^[15] داوود عودة، نتنياهو والفساد.. 3 اتهامات في 3 ملفات، العين الإخبارية، تاريخ النشر: ١٠ نوفمبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://al-ain.com/article/israel-netanyahou-corruption

^[16] نتنياهو بمأزق غير مسبوق.. مذكرة اعتقال دولية ومحاكمة داخلية، سكاي نيوز العربية، تاريخ النشر: ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط: https://linksshortcut.com/fJgsE