تشهدُ الساحةُ الدولية توتراتٍ وصراعاتٍ متصاعدةً تهددُ الأمنَ العالمي، وتكشفُ عن عجز القيادة الدولية في التصدي لهذه الأزمات، فقد أظهرتْ الحربُ الروسيةُ الأوكرانية والحربُ على غزة عمقَ الأزمة القيادية العالمية، إذ عجزت الدول الكبرى، وخاصة قوى الغرب التي تقودُ النظامَ الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عن القيام بدورٍ فعّال لوقف هذه الحروب المتكررة، مما يُثيرُ تساؤلاتٍ جديةً حول فعالية القيادات السياسية ودورها المؤثر.
وفي السياق ذاته، تكشف الصراعات الأيديولوجية والمؤسساتية داخل الولايات المتحدة، التي لا تزالُ تُمسكُ بزمام القيادة العالمية، عن أزمةٍ عميقةٍ في القيادة. ولا يمثّلُ صعودُ ترامب مجددًا حلًا لهذه الأزمة، إذ تفتقر شخصيتهُ إلى الصفات التي عُرف بها القادة الأمريكيون سابقًا.
وعلى الصعيد العالمي، بَرزَ قادةٌ مثل أردوغان وبوتين بوصفهم شخصيات ذات نفوذ كبير، إلا أن الأحداث الأخيرة تُشيرُ إلى تآكل هذا النفوذ، وفي حالة أردوغان تحديدًا، تُثارُ تساؤلاتٌ حول مدى قدرته على الحفاظ على دوره القيادي الذي اشتهر به، وتأثيره على الأحداث الخارجية في ظل التغيرات الراهنة.
دورُ القيادةِ في صُنعِ القرار السياسي:
تَبرزُ شخصيةُ القائد السياسي كعاملٍ حاسمٍ في تشكيل ملامح السياسة الخارجية للدول وفي عملية صنعِ القرار الداخلي، فالقرارات التي يتخذها القائد، بدافعٍ من رؤيته الشخصية وميوله السياسية، غالباً ما تُحددُ اتجاه العلاقات الدولية للدولة وشكلَ نظام الدولة، ومع أن تأثيرَ القائد يخضعُ لقيودٍ مؤسسية وهيكلية، إلا أن لديه هامشاً واسعاً من المناورة في صياغة السياسات الخارجية والقرارات الداخلية، خاصةً في الأزماتِ والتحولات التاريخية.
ولما تتركزُ السلطةُ السياسيةُ في يدِ القائد يستخدمها لتوجيه مسار الدولة وتحقيقِِ مصالحها العليا، ورغم أن السلطة تمنحُ القائد نفوذاً كبيراً، إلا أن نجاحه يعتمدُ على قدرته على استغلال هذه السلطة لتحقيق مصلحة الشعب وليس مصلحته الشخصية، وبالتالي، فإن القيادةَ الفعالة تتطلب توازنًا دقيقًا بين ممارسةِ السلطة وبناء الثقة مع الشعب، وهناك منظوراتٌ ومناهجُ متعددةٌ تم توظيفها لدراسة تأثير القائد السياسي على توجهات الدولة على الصعيد الداخلي والخارجي، منها ما ركز على دورِ العقيدة والسمات الشخصية للقائد في التأثير على عملية صنع القرار، ومنها ما ركّز على تحليل العوامل النفسية للقائد، أو الخلفية الاجتماعية والتاريخية، كلها مناهجُ متعددةٌ خُصصتْ لدراسة دور القائد في التأثير على توجهات الدولة خارجيًا وداخليًا، وكانت الشخصيةُ القيادية لأردوغان حالةً مستمرةً للدراسة[1].
الدورُ القياديُ المعهودُ لأردوغان:
كان أتاتورك مهندسًا للجمهورية التركية الحديثة، حيث قاد تحولاتٍ جذريةً في الدولة والمجتمع، مستبدلاً النظام الإمبراطوري بنظامٍ علماني حديث، تمكن من بناء هويةٍ وطنية قوية، وحشد الدعم الشعبي وراء مشروعه الإصلاحي، وقد شكّلَ إرثُ أتاتورك نقطةً مرجعيةً أساسيةً لكل القادة الذين جاءوا بعده، جاء أردوغان ليقدمَ رؤيةً مختلفة للدولة التركية، حيث ركز على الجمع بين الدين والقومية، مستفيدًا من تطلعات الطبقات الوسطى والمحافظة. قاد تحولات سياسية واقتصادية عميقة، من خلال الإصلاحات التي نفذها حزب العدالة والتنمية، والتي أدت إلى تحسين الأوضاع المعيشية للكثيرين، وقد تمكن من بناء قاعدةٍ شعبيةٍ واسعة، مستندًا إلى شعبيته الشخصية وقدرته على التواصل مع الجماهير[2]
وارتبط ظهور “تركيا الجديدة” بالأساس بتصاعد نفوذ أردوغان وبدوره القيادي من خلال حزب العدالة والتنمية والذي قادَ التحولَ المحافظ-الليبرالي في الحكم، استطاع خلال فتراته الأولى الاستفادةَ من الظروفِ الاقتصاديةِ والدينية والثقافية لتكوينِ قاعدةٍ واسعةٍ لخطابه السياسي، شملت تلك القاعدة المحافظين والليبراليين والقوميين الأتراك، حيث عمل أردوغان على اتصاله بهوية “تركيا الأصيلة” لجذب الناخبين المحافظين والقوميين[3].
أثّرت قيادة أردوغان على التحولات السياسية في تركيا الداخلية، وعلى مسارات السياسة التركية الخارجية، حيث وُصفت الفترة بعد العقد الأخير في تركيا بالأردوغانية Erdoganism باعتباره الشكل الذي أصبح عليه النظامُ التركيُ في العقْدِ الأخير، إلا أنه في الفترة الأخيرة وبالأخص خلال الانتخابات الرئاسية والمحلية التركية الأخيرة بدأ يظهر تآكل نفوذ قيادة أردوغان[4].
إلى ماذا استندتْ الشخصية القيادية لأردوغان؟
تشاركتْ عوامل عدة في بناء شخصية أردوغان القيادية منها البيئةُ والحياةُ الاجتماعية وكونه مندرجًا من الطبقة المتوسطة واتصاله بالهوية التركية، وفهمه لدوافع الشعب وتطلعات الفئات البسيطة من الشعب مع الأخذ في الاعتبار أهميةَ هذه الفئة من الشعب، وإظهار ذلك في خطابه السياسي حيث استطاع من خلال قوة خطابه استقطابَ فئاتٍ كبيرةٍ من الشعب بالاعتماد على شخصيته الكاريزمية أيضًأ، أضفْ إلى ذلك الجانب العقائدي له الذي استطاع استخدامَه وفرضَهُ لاستقطاب الفئات المختلفة منها المحافظة والليبرالية، فاستطاع فرض هويته الخاصة، إلى جانب قدرته على تعزيز شرعيته من خلال التصدي للعديد من الأزمات الداخلية والخارجية، وبالتالي نجدُ أن الشخصية القيادية لأردوغان جمعت عوامل عدة منها عواملُ تتعلقُ بسماته الشخصية باعتباره شخصيةً كاريزمية وعواملُ تتعلقُ بالشعبية السياسية ومنها عوامل تتعلق بالنسَقِ العقائدي له.
تآكلُ الشخصيةِ القيادية لأردوغان:
بدأتْ الشخصية القيادية لأردوغان تَضعفُ في الفترة الأخيرة على المستويين الداخلي والخارجي، فقد تراجعت شعبيته بشكل كبير، وهذا بدا واضحًا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وعلى الرغم من نجاحه في تحقيق الفوز في النهاية، فإن الفارق البسيط بينه وبين منافسه أظهرَ بشكلٍ جليّ تراجع شعبيته. تبعَ ذلك الانتخابات المحلية التي أكدت تآكل نفوذ وشعبية حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان. ولما كانت الشعبية والشرعيةُ السياسيةُ أحدَ أهم العوامل التي أسهمت في بناء شخصيتهِ القيادية، فإن هذا التراجعَ انعكسَ بطبيعة الحال على مكانته القيادية. ومن بين الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع، أداؤه السياسيُ الداخلي، حيث عجز عن معالجة الأزمة الاقتصادية بشكلٍ فعّال. أما على الصعيد الخارجي، فقد واجه انتقاداتٍ حادةً بسبب موقفه من القضية الفلسطينية. فقد رأى كثير من أفراد الشعب أنه اكتفى بالتصعيد السياسي في خطاباته دون اتخاذ خُطواتٍ عمليةٍ ملموسة.
ولكن الاعتقادَ في تآكل دور أردوغان القيادي لا ينفي دوره النشطَ في تحويل مساراتِ السياسية التركية الخارجية، وتفعيلِ الوجود والنفوذ التركي في المنطقة العربية والأفريقية، والعمل على تصفية الخلافاتِ الموجودةِ في العلاقات الخارجية، ودورهِ القيادي في منظمةِ مجموعة الدول التركية والتوجّه لبناءِ درجةٍ عالية من الاستقلالية دون تحكمٍ أيٍّ من القوى الفاعلة، كذلك لا يمكن ازدراء دورهِ في تعزيز وتطوير الصناعات الدفاعية التركية بشكلٍ استراتيجي كبير.
الخاتمة
يتضحُ مما سبق أن القيادةَ السياسية تمثّل محورًا أساسيًا في صياغة توجهات الدول وإدارةِ الأزمات. إلا أنها تواجه تحديات متزايدة على الساحة الدولية، نتيجةَ تصاعد الصراعات وتراجعِ قدرة النظام العالمي الحالي على حفظ السلْم والأمن. وفي ظل هذا المشهد، يبرز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كشخصيةٍ قيادية أثرتْ بعمق في مسار السياسة التركية داخليًا وخارجيًا، لكنه يعاني في الوقت نفسه من تراجعٍ واضحٍ في نفوذه وشعبيته، ما يُثيرُ تساؤلاتٍ حول استمرارية تأثيره القيادي.
على الرغم من نجاحات أردوغان السابقة، فإن الأحداثَ الأخيرة كشفت عن تآكل شعبيته داخليًا، وهو ما يُعزى إلى تراجع الأداء الاقتصادي وتزايد الانتقادات الشعبية تجاه سياساته، خاصةً في القضايا الحساسة مثل القضية الفلسطينية، حيث وُصفَ موقفهُ بالتراخي والاكتفاء بالتصعيد الخطابي دون اتخاذ إجراءات ملموسة. وعلى المستوى الخارجي، ورغم نجاحه في تعزيز النفوذ التركي، وتطوير الصناعات الدفاعية، وإحياء دور تركيا الإقليمي، فإن هذا الدور يواجه تحدياتٍ كبيرةً نتيجة التحولات الإقليمية والعالمية، إلى جانب تراجع الاستقرار الداخلي.
إن هذا التراجع لا ينفي أهميةَ المرحلة التي قادها أردوغان، والتي شهدتْ تحولاتٍ كبيرةً على المستويات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية. لكنه يُظهر بوضوح أن الشخصية القيادية، مهما كانت كاريزمية أو مؤثرة، تظل عُرضةً للتآكل إذا لم تواكبْ متطلبات المرحلة، وتُجدِّد أدواتها وسياساتها بما يتناسب مع تطلعات الشعب والتحديات المتغيرة. ومن هذا المنطلق، فإن مستقبلَ القيادة التركية يعتمد على قدرتها على تجاوز هذه التحديات، وتقديم رؤيةٍ جديدة تستجيب لمتطلباتِ الداخل والخارج، سواء بقيادة أردوغان أو تحت قيادة جديدة.
[2] منى عامر، عبدالسلام علي، عبدالله فيصل، القيادة السياسية والتحول الديمقراطي في تركيا في الفترة من (2002-2021)، المجلة العلمية، ع 73، ديسمبر 2021، ص ص 470-472.
