شهدت جمهورية توغو، في الآونة الأخيرة، موجةً من الاحتجاجات الشعبية العنيفة، مدفوعةً بما يُوصف بـ “التحوّلات السلطوية في بنية النظام السياسي”، عقب تعديلات دستورية مثيرة للجدل، أقرّها البرلمان في مايو 2025، أفضت إلى إلغاء النظام الرئاسي المباشر واستحداث نظام برلماني يُكرّس استمرار الرئيس “فوايِر ناسينغبِه” في السلطة دون سقف زمني، وقد اعتبرت المعارضة هذه الخطوة “انقلابًا دستوريًّا” يضرب مبدأ تداول السلطة، ويُعيد إنتاج النخبة الحاكمة في إطارٍ من الشرعية الشكلية، وتمَّ تفسيرها داخليًّا وخارجيًّا كنوع من التحايل على التداول الديمقراطي للسلطة، في المقابل تتقاطع هذه التحوُّلات مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب ارتفاع مستويات القمع السياسي؛ ما ولَّدَ حالة من الاحتقان السياسي والمجتمعي، تُرجم اليوم في مشاهد تعبّر عن أزمة مشروعية حادَّة بين السلطة والمجتمع المدني، في ظلِّ تآكل أدوات الحوار واحتكار الدولة للمجال العمومي والإعلامي.
أولًا: الاحتجاجات الأخيرة في توغو
في 26 يونيو من العام الجاري، شهدت توغو تصاعدًا ملحوظًا في الحراك الشعبي، تمثّل في تظاهرات واسعة النطاق في العاصمة لومي وعدد من المدن الرئيسية؛ احتجاجًا على ما وصفته قوى المعارضة والمجتمع المدني بـ”الانقلاب الدستوري الناعم”، وقد اتسمت هذه الاحتجاجات بطابع سياسي واضح؛ إذ خرجت الجماهير للتعبير عن رفضها لإعادة إنتاج السلطة عبْر هندسة دستورية تُقصي الإرادة الشعبية من عملية الانتقال السياسي، وقد استخدمت السلطات وسائل القمع التقليدية واستخدام القوة المُفْرِطَة لتفريق المتظاهرين، كما تمَّ فرْض القيود على الإعلام، وقطْع الإنترنت بشكل مؤقت؛ في محاولة لعزْل الحراك وتقويض قدرته التعبوية، وتعكس هذه الإجراءات نَمَط الاستجابة السلطوية التقليدية للأزمات السياسية، يقوم على تغليب أدوات القمْع على المعالجة المؤسسية أو الحوار السياسي.[1]
ثانيًا: التعديلات الدستورية
في مايو 2025، أقرّ البرلمان التوغولي تعديلًا دستوريًّا جوهريًّا غيَّرَ من شكْل النظام السياسي في البلاد؛ حيث تمَّ إلغاء نظام الانتخابات الرئاسية المباشرة الذي كان معمولًا به منذ الاستقلال، وانتقل من نظام رئاسي مباشر إلى نظام برلماني، وبموجب هذا التعديل، تُسْنَدُ السلطة التنفيذية إلى رئيس مجلس وزراء ينتخبه البرلمان، بدلًا من الرئيس المنتخب مباشرة من الشعب، ولم يكن هذا التعديل مجرد إجراء قانوني، بل يُمثّل تحوُّلًا بنيويًّا في طبيعة النظام السياسي، ويُعيد إنتاج هيمنة الرئيس الحالي “فوايِر ناسينغبِه” على مفاصل الدولة، عبْر آلية تشريعية دون قيود زمنية.
وقد عرَّفَ المعارضون هذا التعديل بـ “الانقلاب الدستوري”؛ فعوضًا عن الخروج من السلطة بعد ولايته الرابعة، مكَّنَه التعديل من التحصّن داخل سلطة تنفيذية جديدة لا تخضع لقواعد التداول الديمقراطي التقليدية، وتجدر الإشارة إلى أن هذا التعديل أُقرَّ في مناخ من الانغلاق السياسي؛ حيث تم تمريره داخل البرلمان دون استفتاء شعبي، في ظلِّ مقاطعة عدة قوى معارضة ورفْض جماهيري واسع، ولم يكن هذا التعديل هو الأول ولكن سبقه العديد من التعديلات التي تضمن لـ” ناسينغبِه” مدة حكم أطول، ولكن هذه المرة كان التعديل فريدًا من نوعه؛ إذ إنه كان القشَّة التي قصمت ظهر البعير، وغيَّرت من شكْل النظام السياسي تمامًا.[2]
ثالثًا: الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية
تزامن التعديل الدستوري في توغو مع تدهور ملموس في مؤشرات التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية؛ ما أضفى على المشهد السياسي طابعًا أكثر هشاشةً وتفجُّرًا، فقد أصبح الضيق المعيشي ملموسًا في كافَّة طبقات المجتمع، لا سيما في الأوساط الحضرية والشبابية، التي تمثّل الكتلة الحيوية الأكثر تضرُّرًا من خيارات الدولة الاقتصادية، فقد شهدت البلاد خلال الأشهر الأخيرة:
1- ارتفاعًا حادًّا في أسعار الطاقة بنسبة تجاوزت 12.5%، نتيجة تقليص الدعم الحكومي للكهرباء، ضمن سياسات تقشُّفية تُسوِّقُها الحكومة كإصلاحات، لكنها تفاقم الفقر وتقوِّضُ العدالة الاجتماعية، وهو ما أثَّرَ على الشرائح الفقيرة والطبقة الوسطى.
2- جمود سوق العمل وتآكل القدرة الشرائية، مع غياب أيِّ برامج فعَّالة للتشغيل أو دعم المشاريع الصغيرة، وهو ما نتج عنه زيادة نسبة البطالة، لا سيما في قطاع الشباب والخريجين؛ مما دفع الآلاف إلى الهجرة غير النظامية أو الانخراط في أنشطة غير رسمية.
3- تصاعُدًا في معدلات الفقر المدقع، مع تراجُع قدرة الدولة على توفير شبكات الأمان الاجتماعي، خاصَّةً مع تدهور الخدمات العامة الأساسية، خاصَّةً في قطاعي التعليم والصحة؛ ما أنتج حالة من “اللامساواة الهيكلية” بين المركز والمناطق الداخلية.
4- تراجُع الاستثمارات العامة والبنية التحتية؛ بفعل سوء إدارة الموارد العامة وغياب الشفافية في التعاقدات؛ ما أفضى إلى جمود اقتصادي طويل الأمد وغياب أيِّ مؤشرات لنمو مستدام.
في ظلِّ هذا الواقع، أصبحت الوظيفة الاقتصادية للدولة عاجزة عن امتصاص الصدمات الاجتماعية؛ مما حوَّلَها، في نظر قطاعات واسعة من المواطنين، من أداة للحماية إلى أداة للضغط والتقشُّف، وهو ما يفسِّرُ حِدَّة الاستجابة الجماهيرية للتعديل الدستوري، واعتباره تهديدًا إضافيًّا في بيئة لا تضمن الحدِّ الأدنى من الأمان الاجتماعي والاقتصادي.[3]
رابعًا: أزمة الشرعية السياسية
تُعَدُّ تلك الأزمة امتدادًا لتراكُم تاريخي من الاحتكار العائلي للسلطة؛ حيث تحتكر عائلة ناسينغبِه الحكم منذ ما يقرب من ستة عقود، بدْءًا من الجنرال إيديما (1967) وصولًا إلى الرئيس الحالي فوايِر ناسينغبِه، الذي تولى الحكم منذ 2005، عقب وفاة والده في ظروف غامضة، هذا الامتداد الزمني الطويل دون تداول حقيقي للسلطة أنتج ما يُعرف بـأزمة التمثيل السياسي؛ حيث إنه لم يعُدْ النظام الحاكم يعكس الإرادة الشعبية أو يعبر عنها، أمَّا التعديل الدستوري الأخير في مايو 2025، والذي أنهى الانتخابات الرئاسية المباشرة وأعطى السلطة التنفيذية لرئيس مجلس وزراء يُنتخبه البرلمان، مثَّلَ نقطة انفجار للأزمة؛ إذ تمَّ اعتباره محاولة مكشوفة لإعادة إنتاج سيطرة الرئيس ناسينغبِه، عبْر آلية مشروعة ظاهريًّا، لكنها مُفْرَغةٌ من أيِّ مضمون ديمقراطي؛ إذ أنه تم تمرير التعديل داخل برلمان تُهيمن عليه الأغلبية الحاكمة، دون استفتاء شعبي، وفي ظل مقاطعة واسعة من قوى المعارضة.
هذا السياق، أكّد ما كان يتخوَّفُ منه الشارع التوغولي، أن النظام لا يسعى إلى إصلاح أو تداول سلمي للسلطة، بل إلى إعادة ترتيب قواعد اللعبة السياسية لصالح نخبة ضيقة مرتبطة بالرئاسة، وهو ما أدى إلى تآكل شرعية النظام من أسفل، أي من القواعد الاجتماعية التي لم تعد ترى في مؤسسات الدولة مصدرًا للتمثيل أو الحماية أو العدالة، وقد زاد من حِدَّة الأزمة اعتماد النظام على أدوات أمنية في مواجهة الاحتجاجات، وتعليق وسائل إعلام دولية، مثل RFI وFrance 24؛ مما أوحى بأن السلطة لم تعُدْ تتَّكِئ سوى على الرَّدْع الأمني ومركزة القرار، وهو ما يفاقم الفجوة بينها وبين المجتمع، وفي المحصلة، فإن النظام في توغو يواجه اليوم شرعيةً مشروخةً.[4]
خامسًا: تداعيات الاحتجاجات على الوضع الأمني والسياسي في توغو
أفضت موجة الاحتجاجات الأخيرة في توغو إلى تداعيات بالغة الخطورة على المستوى السياسي، تمثّلت أساسًا في تعميق أزمة الشرعية التمثيلية للنظام الحاكم، الذي بات يعتمد بشكل متزايد على أدوات الضبط السلطوي في مواجهة المطالب الشعبية، وقد أسهم التعديل الدستوري في تكريس ما يُعرف بـ”الشرعية القانونية الشكلية”، القائمة على ترتيبات مؤسساتية مفروضة من أعلى، دون أيِّ تفويض شعبي حقيقي، وهو ما دفْع قطاعات واسعة إلى التشكيك في مشروعية استمرار النخبة الحاكمة، ورفْض احتكارها للقرار السياسي.
ومن الناحية الأمنية، واجه النظام الاحتجاجات باستراتيجية الأمن الوقائي القمْعي، عبْر نشْر القوات الخاصة، وتفريق التجمُّعات بالقوة، وشنّ حملة اعتقالات طالت نشطاء سياسيين ومدنيين، كما لجأت السلطة إلى تعليق الحريات الإعلامية وإغلاق قنوات البث الدولية؛ مما ساهم في خلْق بيئة مغلقة ذات طابع أمني، تُفاقم من الاستقطاب المجتمعي وتُضعف فرص الحوار السياسي، وتعكس هذه السياسات هشاشة البنية الأمنية في توغو، واعتمادها على منطق الردع لا الاحتواء، ما يُنذر بانفلات قادم؛ في حال تصاعدت حِدَّة الغضب الشعبي دون استجابة إصلاحية حقيقية.[5]
سادسًا: السيناريوهات المحتملة
1- احتواء محدود للأزمة عبْر تنازلات شكلية
قد تُقْدِمُ السلطة على أخْذ خطوات تهدف إلى امتصاص الغضب الشعبي، دون التراجع عن التعديل الدستوري، مثْل تشكيل حكومة “وحدة وطنية” رمزية، أو إطلاق سراح بعض المعتقلين، أو الدعوة إلى “حوار سياسي” تحت إشراف الأغلبية البرلمانية، وبالرغم أن هذا السيناريو قد يُهدِّئ الاحتجاجات مؤقتًا، إلا أنه لن يعالج جذور الأزمة المرتبطة بشرعية النظام والتمثيل الديمقراطي؛ مما يعني إمكانية تجدُّد الحراك في موجات لاحقة، خاصَّة إذا استمرت الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.
2- التصعيد الأمني وتشديد القبضة السلطوية
تذهب السلطة في هذا السيناريو نحو الخيار الأمني البحت، عبْر نشْر القوات، وحظْر التجمُّعات، وتعليق المنصات الإعلامية، إضافةً إلى زيادة الاعتقالات؛ في محاولة لإعادة السيطرة الكاملة على المجال العام، وقد يُحقق هذا السيناريو “استقرارًا سلبيًّا” قصير المدى، لكنه سيُعمِّقُ أزمة الشرعية السياسية ويُفاقم عُزْلة النظام داخليًّا وخارجيًّا، خصوصًا إذا رافقته انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، كما أنه يُضعف المؤسسات المدنية، ويُفاقم احتمالات الانفجار مستقبلًا.
3- انفتاح سياسي حقيقي نحو إصلاحات دستورية تدريجية
يُعَدُّ هذا السيناريو الأضعف في كل السيناريوهات المحتملة، ولكنه يظلُّ المخرج الأكثر استدامة للأزمة، فمن الممكن تعليق العمل بالتعديل الدستوري الجديد، الدعوة لاستفتاء شعبي بإشراف دولي، وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة تسمح بإعادة تشكيل النظام السياسي على أسس تشاركية، وتحقيق هذا السيناريو يتطلب ضغطًا داخليًّا من المعارضة والمجتمع المدني، وضغطًا خارجيًّا من شركاء توغو الدوليين، خاصَّةً في الاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ECOWAS)، وهو السيناريو الوحيد القادر على استعادة الثقة في الدولة ومؤسساتها، وتجنيب البلاد انزلاقًا طويل الأمد.
ختامًا:
تُختزل الأزمة الراهنة في توغو في كوْنها أزمة بنيوية في مشروعية الحكم السياسي، لا مجرد اضطراب ظرفي ناتج عن تعديل دستوري، فمع تصاعُد الاحتجاجات وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، تبدو البلاد عالقة في حلقة مفرغة من إعادة إنتاج السلطوي، عبْر أدوات قانونية، في ظل انكماش مساحات المشاركة السياسية، وتفكُّك العقْد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين، وبينما تراهن السلطة على الشرعية الشكلية والأمنية لضبْط المشهد، فإن مؤشرات التآكل الداخلي تتسارع؛ مما ينذر بانفجار أشمل إذا لم تُفتح قنوات إصلاح سياسي حقيقي.
