بعد أشهر من محاولات التهدئة، انفجرت من جديد الأزمة الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا، إثر تصعيد متبادل كشف هشاشة العلاقات الثنائية وعمق الخلافات غير المعلنة بعدما أعلنت الجزائر طرد 12 موظفًا تابعين لوزارة الداخلية الفرنسية، ردًا على توقيف فرنسا لموظف في قنصليتها يُشتبه في ضلوعه بقضية اختطاف المعارض الجزائري أمير بوخرص. وردّت باريس بطرد 12 دبلوماسيًا جزائريًا واستدعاء سفيرها في الجزائر، محمّلة السلطات الجزائرية مسؤولية “التدهور الكبير” في العلاقات، وبررت الجزائر قرارها بأنه “سيادي” ومستند إلى أدلة بثّتها أجهزتها الأمنية، بينما أكدت فرنسا أن القضية قضائية بحتة ولا علاقة لها بالسياسة، نافية تورط وزير الداخلية كما ادّعى الجانب الجزائري.
ويأتي هذا التصعيد بعد أيام فقط من مكالمة هاتفية بين ماكرون وتبون كانت تهدف لإعادة تطبيع العلاقات، ما يُظهر هشاشة الحوار بين الطرفين وعمق الانقسام السياسي والأمني، في ظل تراكم أزمات سابقة تتعلق بالهجرة، والذاكرة، والمعارضين.
خلفية الأزمة: من دعم الحكم الذاتي المغربي إلى انفجار التوتر:
الاعتراف بمغربية الصحراء الغربية: بدأت ملامح الأزمة تتشكل فعليًا في أواخر يوليو 2024، حين أعلن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” خلال زيارة رسمية للمغرب، دعمه الصريح لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل “جدي وواقعي وذي مصداقية” لقضية الصحراء الغربية، هذا الموقف مثل تحولًا حادًا في السياسة الفرنسية التقليدية المتوازنة تجاه النزاع، حيث كانت باريس تحاول سابقًا الحفاظ على علاقات مستقرة مع كل من الرباط والجزائر دون انحياز علني لطرف على حساب الآخر.[1]
وجاء رد الفعل الجزائري سريعًا، حيث أعلنت سحب سفيرها من باريس للتشاور في نهاية يوليو، معتبرةً أن تصريحات ماكرون “غير مقبولة وتمس بمصالح الجزائر الإقليمية”، ووصفت الموقف الفرنسي بأنه “انحياز سافر لأطروحة استعمارية ضد حق الشعوب في تقرير مصيرها”، اذ ترى الجزائر أن دعم الحكم الذاتي المغربي يمثّل تهديدًا مباشرًا لدورها التاريخي والدبلوماسي في دعم القضية الصحراوية.[2]
قضية بوعلام صنصال: في منتصف نوفمبر 2024، أعلنت السلطات الجزائرية توقيف الكاتب “بوعلام صنصال” المعروف بمواقفه النقدية الحادة للنظام الجزائري بعد وصوله إلى الجزائر للمشاركة في ملتقى ثقافي.
صنصال، وهو مواطن مزدوج الجنسية (جزائري–فرنسي)، اعتُقل بتهم تتعلق بـ”الإساءة لرموز الدولة” و”التحريض ضد الوحدة الوطنية”، وهو ما فجّر موجة انتقادات في الإعلام الفرنسي، واعتبرته باريس “اعتداءً على حرية الفكر والتعبير”، فيما اثار هذا الحدث أزمة جانبية متفرعة، حيث تدخلت شخصيات ثقافية فرنسية لدعم صنصال، وتم تنظيم وقفات تضامنية في باريس، ما دفع الجزائر إلى اتهام فرنسا بـ”التحريض الثقافي والتدخل في الشأن الداخلي”.[3]
ملف الهجرة: في أعقاب الأزمة الدبلوماسية، بدأت فرنسا في فبراير 2025، بفرض قيود إضافية على منح التأشيرات للمواطنين الجزائريين، ضمن سياسة ضغط بدعوى أن الجزائر ترفض التعاون في ترحيل المهاجرين غير النظاميين، فيما اعتبرت الجزائر تلك الخطوة “إجراءً عقابيًا غير أخلاقي”، وشهدت عدة مطارات حالات منع دخول وخروج أثارت استياءً شعبيًا واسعًا.[4]
مجمل هذه الأحداث من دعم فرنسا للموقف المغربي، إلى تشديد سياسة التأشيرات، ثم توقيف صنصال، شكّلت سلسلة متصاعدة من التوترات التي أضعفت جسور الحوار التقليدية بين البلدين، ودفعت العلاقات إلى حافة القطيعة، وهو ما يمكن اعتبارها كأحداث متتالية مهّدت الطريق لاحقًا، في أبريل 2025، لأخطر خطوة حتى الآن تمثلت في طرد السفير الجزائري من باريس، ثم الرد بالمثل من الجزائر، في مشهد يُعيد العلاقات إلى مربع التصعيد السياسي الرمزي، بعد أن فشلت أدوات “الدبلوماسية الناعمة” في احتواء الخلاف.
دلالات التصعيد:
يحمل قرار طرد السفراء بين البلدين دلالات رمزية عميقة يمكن توضيحها من خلال النقاط التالية:
رسائل سياسية مشفرة: كان قرار فرنسا بطرد دبلوماسيين جزائريين بمثابة رسالة واضحة للجزائر من جهة بأن باريس لن تتجاهل ما تعتبره تصرفات عدائية أو انتهاكات تمس سيادتها، خصوصًا بعد طرد موظفيها واحتجاز أحد العاملين في قنصليتها، وفي الوقت ذاته، كان ذلك موجهًا للجمهور الفرنسي كجهد لاستعادة صورة الدولة الحازمة في التعامل مع الشركاء الذين يعتبرهم “صعبي المراس”، خاصةً وسط زيادة الخطاب المرتبط بالهوية والتوترات الاجتماعية ذات الصلة بالجاليات المغاربية، ما يجعل الموقف تجاه الجزائر أداة ضمنية في صياغة موقف سياسي داخلي أكثر صرامة.
أما بالنسبة للجزائر، بما يعكس تمسّكها بسيادتها ورفضها لأي تعاطٍ فرنسي من موقع استعلائي، في سياق تحوّله إلى ورقة تعبئة داخلية تعبّر عن استعادة القرار الوطني المستقل، ورفض الوصاية السياسية أو التاريخية الفرنسية.
مؤشرات على أزمة طويلة الأمد: تشير تلك ألأزمة الجديدة بين البلدين إلى دخول العلاقات مرحلة “قطيعة مؤسسية”، ويعد هذا تطورًا نادرًا بين الدول التي تمتلك مصالح متبادلة وقد يتضمن التصعيد مزيدًا من تعليق المشاريع الاقتصادية المشتركة كإعلان “مجلس التجديد الاقتصادي الجزائري”، الثلاثاء 15 فبراير، إلغاء زيارته إلى باريس، ولقائه المبرمج مع منظمة أرباب العمل الفرنسية “ميديف”، وذلك على خلفية تجدد الأزمة بين البلدين، وتوقع مزيد من تأجيل الزيارات الرسمية او حتى تجميد اتفاقيات ثقافية.
تراجع لغة المصالح والعودة إلى لغة الرموز: في السنوات الماضية، ظلّت العلاقات بين باريس والجزائر قائمة على مبدأ “المصالح تتجاوز الخلافات التاريخية”، خاصة في ملفات الغاز، الهجرة، ومكافحة الإرهاب، لكن التصعيد الأخير يشير إلى انهيار هذا التوازن الدقيق، والعودة إلى لغة الرموز والتحدي، وهو ما يعني أن الأزمة الحالية تتجاوز الخلافات التقليدية، وتدخل في صميم نظرة كل طرف لنفسه ولموقعه الإقليمي والدولي.
ارتباط الأزمة بسياق دولي أوسع: تصاعد النفوذ الروسي والصيني في إفريقيا، ورغبة الجزائر في تنويع تحالفاتها، يُشكل ضغطًا إضافيًا على باريس، التي تشعر بتراجع نفوذها في “مستعمراتها السابقة”، كما أن الجزائر، في ظل صعودها كقوة إقليمية، باتت تعتمد على خطاب سيادي أكثر حدة تجاه الشركاء الأوروبيين، وعلى رأسهم فرنسا.
بالتالي، فإن تصعيد بحجم طرد السفراء يُعد مؤشرًا على صراع جيوسياسي أعمق قادم، يتجاوز الخلاف حول تصريح أو قرار، ويذهب إلى تباين جذري في الرؤية المستقبلية لدور كل بلد.
مستقبل العلاقات الجزائرية–الفرنسية: الى أين؟
تُظهر المعطيات الأخيرة أن العلاقات الجزائرية–الفرنسية دخلت مرحلة أكثر تعقيدًا، تتجاوز حدود السجال السياسي والدبلوماسي إلى التأثير المباشر في المصالح الاقتصادية والاستثمارية، وهو ما تعكسه بوضوح الخطوة التي اتخذها “مجلس التجديد الاقتصادي الجزائري” بإلغاء زيارته المرتقبة إلى فرنسا، احتجاجًا على ما وصفه بـ”الإشارات السلبية” و”الازدواجية” في سلوك باريس تجاه الشراكة الاقتصادية بين البلدين.، إذ إن ضغط السلطات الفرنسية على مسؤول مؤسسة فرنسية للنقل البحري للامتناع عن زيارة الجزائر، أجهض مشروعًا استثماريًا مشتركًا، وأظهر مدى هشاشة المسار الاقتصادي بين الطرفين حين يتقاطع مع الاعتبارات السياسية.[5]
هذا التطور يُعدّ مؤشرًا بالغ الدلالة على انتقال التوتر من الحقل الدبلوماسي إلى مجال الاقتصاد والتعاون الثنائي، مما يهدد بتقويض البنية المتبقية من العلاقات التي كانت تُراهن على الملفات البراغماتية كالهجرة والطاقة والاستثمار، كمساحات يمكن من خلالها إبقاء خطوط التواصل مفتوحة رغم الخلافات السياسية، لكنّ تفكك هذا الرهان يشير إلى أن العلاقات مرشّحة لمزيد من الانكماش، ليس فقط على مستوى التواصل الرسمي، بل على صعيد الثقة المتبادلة بين الفاعلين المؤسساتيين والاقتصاديين من الجانبين.
وفي هذا السياق، لا يمكن فصل الأزمة الراهنة عن السياق البنيوي الذي يحكم العلاقة بين البلدين، حيث لا تزال الذاكرة الاستعمارية والندية السيادية تلقي بظلالها على أي تقارب محتمل، ومن ثمّ، فإن ما نشهده لا يمثّل مجرد عثرة دبلوماسية عابرة، بل هو تجلٍّ لخلل أعمق في بنية العلاقة، التي ما تزال تُدار بعقلية الإملاء من جهة، والرفض السيادي من جهة أخرى، في ظل افتقار الطرفين لإطار مؤسسي متين يُنظّم الخلاف ويمنع تحوّله إلى قطيعة متكررة.
وبالنظر إلى المدى المنظور، يبدو أن مسار العلاقات يتجه نحو مرحلة من التجميد الهادئ، تُحفظ فيها القنوات الرسمية عند الحد الأدنى، بينما تتعثر المبادرات الاقتصادية والثقافية وتتراجع فرص الاستثمارات المتبادلة، بانتظار ظروف دولية أو إقليمية تُعيد ترتيب الأولويات وتُحرّك الحاجة البراغماتية لدى الطرفين، لكن إلى ذلك الحين، من المتوقع ان تبقى العلاقة رهينة إيقاع مألوف من الانفراج الشكلي والتوتر الكامن، لا يغيب طويلًا قبل أن يعاود الظهور، بمسببات متجددة ولكن بمنطقٍ ثابت.
الخاتمة:
تتجلّى الأزمة الحالية بين الجزائر وفرنسا بوصفها امتدادًا لمنظومة علاقات مضطربة، تتسم بتقلبات دورية تترواح بين فترات الانفراج السطحي والانفجار السياسي السريع، فالقطيعة لم تعد حادثة دبلوماسية معزولة، بل أصبحت نمطًا متكرّرًا يعكس الطبيعة المعقدة للتفاعل بين البلدين، حيث تحضر الذاكرة الاستعمارية، وحسابات السيادة، والاختلافات في المقاربات الإقليمية دوراً رئيسياً كمكونات ثابتة ضمن معادلة التوتر.
وفي ضوء هذا الواقع، لا يبدو أن الأزمة الراهنة تمثل تحولًا نوعيًا، بقدر ما تعيد إنتاج نفس القائم على الحذر والانفجارات الدورية، وعلى الرغم من إمكانية استئناف قنوات التواصل في المستقبل، ستبقى هيكلة العلاقة محكومة بتوازن هش يؤكد على تكرار التوتر عند أدنى احتكاك. مما يثبت أن القطيعة ليست حالة استثنائية بل أصبحت جزءاً من إيقاع منتظم لمشهد لا يزال مفتوحاً للمزيد من الانكشاف والاضطراب.
المصادر:
[1] قرار اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء.. انعطافة تاريخية تسير نحو أفق جديد، موقع هسبريس، اغسطس 2024.
