“يجب أن تتولى الإدارة السورية الجديدة إدارة المعسكرات والسجون التى يحتجز بها عناصر تنظيم داعش”[1]، هكذا صرح وزير الخارجية التركية (هاكان فيدان) خلال مؤتمر صحفى مشترك فى أنقرة مع نظيره البلجيكي (برنارد كوينتين) مؤكداً على دعم أنقرة التام لهذا المقترح فى ضوء التخوف من إعادة داعش على الساحة السورية، وحقيقة الأمر باتت سوريا منذ سقوط نظام الأسد محاطة بالمخاطر العديدة والتداعيات العكسية، والتى يقع ضمنها ملف السجون والمخيمات الواقعة شمال شرق سوريا تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، لاسيما وأن الأخيرة تواجه تحديات على عدة جبهات أهمها الجبهة التركية حيث يخوض الطرفان ضربات جوية مشتعلة مع عدم استبعاد احتمالية تعرض الشمال السورى لعملية عسكرية تركية، مما قد يساعد مخطط التنظيم بالهجوم على السجون وتحرير عناصره وانتشار الفوضى والقلق فى تلك المنطقة، وينذر بالخطر تجاه العديد من الأطراف الإقليمية والدولية.
ماهية ملف السجون والمخيمات “قنبلة موقوتة”:
يقع العديد من عناصر تنظيم داعش من أجناس مختلفة، بعد الهزيمة العسكرية التى منى بها عام 2019 فى معركة “الباغوز” فى سوريا، أسير داخل المعتقلات والمخيمات فى مناطق نائية بعيداً عن المناطق السكنية ومن المفترض وقوعها تحت حراسة مشددة بأسلحة ومعدات متطورة وفائقة الكفاءة، وعلى الرغم من محاولات قوات قسد لتوفير الحماية اللازمة للسجون الواقعة تحت سيطرتها إلا أنها حذرت كثيرا أنها لا تملك القدرة وغير مجهزة أبنيتها لتلك الحراسة المكثفة ويتم دعمها بأسلحة محدودة، ناهيك عن احتجاز هؤلاء فى ظروف صعبة، ومن ثم تعتبر السجون مصدر قلق أمنى ليس للداخل السورى فقط وإنما لدول الجوار والنطاق الإقليمى والدولي. حيث تضم السجون حوالى 9 آلاف من قيادات وعناصر التنظيم ومن أبرزها سجن “غويران” أكبر السجون يقع فى مدينة الحسكة و”الشدادى” و”جركين” و”ديريك” و”علايا” و”راجو” وغيرها من المراكز فى الرقة ودير الزور[2].
بينما تضم المخيمات مثل مخيمى “الهول وروج” الواقعين فى ريف الحسكة حوالى 56 ألف شخص من عوائل التنظيم بمن فيهم النساء والأطفال تحت سن السادسة عشر سنة، وقد خضعت تلك السجون والمخيمات لحراسة قوات قسد، التى تحالفت مع قوات التحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة في القتال ضد داعش منذ منتصف العقد الماضى، ولكن كان من المفترض أن يكون بشكل “مؤقت” لحين محاكمتهم وعودتهم إلى بلدانهم الأصلية، الأمر الذى طال أمده فى حالة من الغموض والتعقد حتى اللحظة الراهنة مع عرقلة بعض الدول لتنفيذ أحكام إعدام ضد رعاياها، وتفاقم تهديده لدى القوات الكردية المتخوفة من حراستها لهذا العدد الهائل من العناصر الخطرة فى ظل حالة الانفلات الأمنى الراهن فى المشهد السورى وفى حال الهجوم العسكرى عليها الذى يحتمل أن يتسبب فى فرار جزء كبير منهم[3].
سياق الخطر القائم:
تحجيم الدور الكردى:
منذ سقوط النظام السورى تحاول تركيا استغلال حالة عدم الاستقرار فى سوريا لإدارة ملف الأكراد بشكل أكثر صرامة من ذى قبل من أجل تقليص إدارة القوات الكردية فى المنطقة الجغرافية الخاضعة لسيطرتها فى الشمال الشرقى، والتى تشكل نصف طول الحدود مع تركيا والعراق، لذلك جاء المقترح التركى بنقل إدارة السجون والمعتقلات للإدارة السورية تحت رعاية تركية قائلة على لسان وزير خارجيتها فيدان أن “مساهمة قوات “قسد” في الحرب ضد التنظيم الإرهابي تقتصر فقط على إدارة السجون التي يحتجز فيها أعضاءه”[4]، موجهاً إنذار نهائى لتلك القوات التى قد تقع أسير اشتباكات بينها وبين القوات التركية والتى تحتشد على الحدود، أو الفصائل السورية التابعة لهيئة تحرير الشام، وعليه اضطرت إلى تحويل قواتها من الدفاع عن السجون ومراكز الاحتجاز إلى مواقع الخطوط الأمامية لمواجهة الخطر الأكبر. ومن ناحية أخرى نوه قائد إدارة العمليات العسكرية (أحمد الشرع) أن “الفصائل الكردية سوف تنضوى تحت لواء الجيش السورى”[5]، هذا إلى جانب مطالبة بعض السكان الخاضعين لسيطرة قوات قسد فى مدن مثل “الرقة” و”دير الزور” بحكم بديل من قبل الإدارة السورية الجديدة فى دمشق[6].
تأجيج المخاوف الأمريكية:
أبدت الإدارة الأمريكية تخوفها تجاه سيناريو “هروب جماعى” لعدد كبير من مسلحى داعش من السجون وبالتالى عودة داعش إلى الساحة، فى إطار التصعيد الراهن بين قوات قسد والفصائل المدعومة من تركيا، وفقاً لتحذيرات صادرة من جانب أجهزة استخبارية، لذلك تطلب من إدارة قسد ضرورة حماية تلك المراكز وفى ذات الوقت ستُحمل تركيا المسؤلية كاملة فى حال وقوع ذلك السيناريو، وفى هذا الإطار صرح (سيباستيان جوركا) المرشح لتولى منصب شؤون مكافحة الإرهاب فى الإدارة الأمريكية الجديدة بأنه “ينبغي على مختلف الدول إعادة مواطنيها الدواعش المحتجزين في السجون شمال شرق سوريا”[7]. وبالرجوع إلى عدة سنوات نجد أن الولايات المتحدة اعتبرت الأكراد حلفاء فى الحرب ضد تنظيم داعش منذ عام 2014 مع توغل التنظيم واختراقه لمساحات شاسعة من سوريا والعراق، وفى ولايته الأولى سحب الرئيس المنتخب (دونالد ترامب) القوات الأمريكية من المواقع القريبة من الحدود السورية التركية بعد دحر داعش عسكرياً عام 2019 مع بقاء حوالى 900 جندى أمريكى يدعمون الأكراد، ولكن فى الوقت الحالى قد تواجه القوات الأمريكية الموجودة فى سوريا تحدياً جديداً فى حالة الانفلات الأمنى لنظام معسكرات الاعتقال.
تحسين موقف الإدارة السورية الجديدة:
فى إطار سعى الإدارة السورية وقائدها (أحمد الشرع) إلى السيطرة على النظام السورى تم التنويه عن أن جميع الأسلحة فى البلاد، بما فيها سلاح القوات الكردية، سوف تخضع إلى سيطرة الدولة، ذلك بجانب حل الفصائل المسلحة وإدخالها فى الجيش السورى النظامى، لعدم ترك السلاح خارج الدولة كما كان الوضع منذ الثورة السورية وفتح الباب أمام الحركات الثورية المسلحة لزعزعة الاستقرار الأمنى، مما قد يؤدى تباعاً إلى تخفيف الحراسة على السجون والمخيمات، لذلك جاء المقترح التركى بتسليم السجون للإدارة السورية الجديدة في دمشق كخيار لواشنطن التى مثلت سجون العناصر الداعشية السبب الوحيد للعلاقة بين الولايات المتحدة وقوات قسد[8].
مآلات أمنية:
تحفيز حلم العودة:
مع تحرك تنظيم داعش فى الفترات الأخيرة ووقوع احتمالات بشأن عودة خطر التنظيم إلى قواعده المركزية، خاصة مع هجومه على مخازن الأسلحة والمعدات العسكرية التابعة لقوات النظام بعد سقوط النظام، ومثلت التعبئة البشرية عنصر هام لإعادة تنظيم صفوفه، وبجانب قيام التنظيم بتدريب العديد من الشباب وحشد قواته فى البادية السورية، تعتبر سجون الدواعش انطلاقة هامة، يعول عليها قادة داعش، تتسق مع الطموحات التوسعية للتنظيم، فقد استمر التنظيم محافظاً على وجوده من الخلايا النائمة القاطنة فى البادية، وتساعد مجموعة من الظروف الحالية فى الداخل السورى على تلك الانطلاقة المهددة بالاشتعال وإثارة الفوضى[9].
وسبق أن اقتحم عناصر داعش أحد السجون لتحرير أفراد التنظيم وهو ما حدث فعلياً فى سجن “غويران” بالحسكة، ولا يستبعد أن تشكل الهجمات التركية على قوات قسد فرصة لاقتحام السجون أو هروب آلاف العناصر فى وضع منفلت أمنياً، وسبق أن حذر الأمن العراقى من هذا “المخطط المحتمل” وخطورة تأثيره على الأمن الإقليمى والدولى، حيث صرح (عبد الكريم عبد فاضل) رئيس جهاز الأمن الوطنى أن “عناصر داعش في سوريا يخططون لمهاجمة السجون الموجودة تحت سيطرة قسد في الرقة والحسكة وغيرهما”، مع تأكيده على جاهزية القوات العراقية لمواجهة أى تهديدات داخلية أو خارجية مع رفعها لحالة التأهب الأمنى[10].
موقف البيت الأبيض:
بالنظر إلى ماهية موقف واشنطن تجاه الاقتراح التركى فإنه يرتبط بتولى إدارة جديدة لأمريكا هذا الشهر بقيادة (دونالد ترامب) الذى يتمتع بعلاقة جيدة مع نظيره التركى وهو ما برز خلال ولايته الأولى، ولكن فى ذات الوقت كما ذكر سلفاً تتصاعد المخاوف لدى المسؤولين الأمريكين من احتمال وقوع حالات هروب جماعية من السجون، وعودة نشاط التنظيم إلى سوريا لذلك نوه (لويد أوستن) وزير الدفاع الأمريكى قائلاً “إن بلاده بحاجة لإبقاء قواتها في سوريا لمنع داعش من إعادة تشكيل نفسه كتهديد رئيسي”وهذا النهج تبنته بشكل واضح إدارة بايدن، ومنذ سقوط النظام السورى قام الجيش الأمريكيى بتنفيذ عشرات الغارات الجوية على أهداف ما بين معسكرات وعناصر لتنظيم داعش في وسط سوريا، ولكن اتساقاً مع رؤية وأولويات ترامب التى تتمثل فى إنهاء الحروب فى غزة وأوكرانيا، والنظر حول الحاجة إلى الاحتفاظ بالوجود العسكرى فى سوريا من عدمه مع وجود شريك استراتيجى مثل تركيا،فإن احتمالية سحب القوات الأمريكية من شمال شرقي سوريا كما كان يخطط مسبقاً تظل مرهونة بموافقة “البنتاغون”[11].
خطر إعادة المحتجزين:
يواجه العديد من المعتقلين أو المحتجزين التابعين لداعش من دول مختلفة، مثل “أوروبا وآسيا الوسطى وأمركيا الشمالية والشرق الأوسط”، مستقبل مجهول داخل سوريا، لذلك جاء تصريح فيدان وزير الخارجية التركية مؤكداً على وجوب “إعادة هؤلاء المعتقلين في المخيمات والسجون إلى بلدانهم، فإن إبقاءهم هنا إلى أجل غير مسمى دون إخضاعهم لأي عملية قضائية ودون أي خطة أو أجندة لمستقبلهم تحول إلى أزمة كبيرة في المنطقة”. ففى ظل استمرارية رفض وتباطؤ بعض الدول لإعادة أتباع داعش لاسيما من النساء والأطفال تطالب العديد من المنظمات الدولية ودول الجوار السورى الدول الأوروبية بضرورة إعادة وتأهيل العناصر المحتجزة الذين كانوا ضحايا للتنظيم، والمعرضة للخطر والتهديد فى حال احتدام الهجمات بين قسد والفصائل الموالية لتركيا الذى قد ينتج عنه فرار هؤلاء من المعتقلات أو فرار عائلاتهم من مخيمات اللجوء، الأمر الذى يمثل هاجس أمنى وورقة ضغط لدى العديد من الأطراف خاصة الحكومة العراقية التى عبرت مراراً وتكراراً عن الخطر والقنبلة الموقوتة على الحدود فى إشارة إلى مخيمات الشمال الشرقى[12] .
مجمل القول؛ يشكل ملف السجون والمخيمات فى شمال شرق سوريا ورقة ضغط وستار خفى لتصفير الحسابات السياسية الأخرى فمن ناحية تستخدمها القوات الكردية لتثبيت وجودها فى المناطق الجغرافية الواقعة تحت سيطرتها بدعم أمريكى الحريصة على منع عودة داعش حتى لا يتنافى سبب البقاء الأمريكى فى سوريا، ومن ناحية أخرى ترى تركيا أن نقل إدارة الملف طريقة للحد من النفوذ الكردى فى سوريا وضمان نفوذ أكبر لأنقرة على الأمور الأمنية والاستراتيجة في شمال سوريا، وفى كل الأحوال يظل هذا الملف كارثة أمنية له العديد من الارتدادات العكسية خاصة فى حال تخفيف السيطرة الأمنية وانتشار الفوضى العارمة.
المصادر:
[1] “تركيا: على الإدارة السورية الجديدة إدارة معسكرات احتجاز عناصر “داعش””، موقع الشرق الأوسط، 2 يناير 2025، متاح على الرابط أدناه:
[7] “”قنبلة موقوتة”.. خشية أميركية من هروب مقاتلي “داعش” خارج السجون السورية”، الميادين، 18 ديسمبر 2024، متاح على الرابط أدناه:https://shorturl.at/D2jQY
[8] “تركيا تطالب بتسليم عناصر داعش المسجونين في سوريا إلى بلادهم”، موقع الغد، 2 يناير 2025، متاح على الرابط أدناه: https://shorturl.at/RGKBv
[9] بهاء العوام، “سجون “داعش” في سوريا أزمة تجددت مع سقوط نظام الأسد”، موقع اندبندنت عربية، 9 يناير 2025، متاح على الرابط أدناه:
