وسْطَ توتراتٍ سياسيةٍ وأزماتٍ اقتصاديةٍ، تقف ألمانيا اليوم على أعتاب مرحلة سياسية فارقة، حيث تُجرى الانتخابات التشريعية المبكرة في 23 فبراير الجاري، بعد انهيار ائتلاف حكومة المستشار أولاف شولتس في نوفمبر الماضي، وتكتسبُ هذه الانتخابات أهميةً استثنائيةً بالغةً، إذ يُتوقعُ أن تؤديَ إلى تغييرات واسعة في المشهد السياسي الألماني، خاصةً أنها تأتي في ظل مشهد سياسي مضطرب وانقسامات حادة حول قضايا مصيرية تهدد استقرار أكبر قوة اقتصادية في أوروبا.
وفي هذا السياق، تبرزُ عدةُ تساؤلاتٍ محوريةٍ حول: من سيحظى بثقة الناخب الألماني في هذه اللحظة الحرجة؟، وهل ستتمكن الأحزاب التقليدية من استعادة نفوذها أم أن صعود الأحزاب المتطرفة سيُعيدُ رسْمَ الخريطة السياسية لألمانيا؟ وكيف ستؤثر نتائج الانتخابات على مسار الاقتصاد الألماني ومستقبل علاقات البلاد داخل الاتحاد الأوروبي وعلى الساحة الدولية؟
أولًا خلفيةُ الانتخاباتِ البرلمانية في ألمانيا:
جرت الانتخابات الألمانية التي ترقّبها العالم بأسره وسط أجواء سياسية متوترة، وفي وقت تشهد فيه برلين انكماشاً اقتصادياً حاداً، مع التهديد بالدخول في حربٍ تجاريةٍ مع واشنطن، خاصةً بعدما دوّتْ أصداء قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن الحرب في أوكرانيا، والتفاوض مع موسكو واستبعاد كييف والأوروبيين، فضلاً عن تهديداته المستمرة بفرْضِ رسومٍ جمركيةٍ مشددةٍ على الدول الأوروبية. كما تزامنت الانتخابات مع الهجمات الإرهابية التي شهدتها ألمانيا في الأسابيع الأخيرة والتي نٌسبت إلى مهاجرين وأثرت على ثقة الألمان في نظام الهجرة، مما أدى إلى زيادة الدعم للحزب اليميني المتطرف “البديل من أجل ألمانيا”.[1]
وأدلى الناخبون الألمان بأصواتِهم في الانتخابات البرلمانية، الأحد 23 فبراير، وتصدّرَ المحافظون بزعامة فريدريش ميرتس نتائج الانتخابات متقدمين على حزب البديل من أجل ألمانيا، وأعلن ميرتس عن فوزه بالانتخابات التشريعية، بينما اعترفَ المستشار أولاف شولتس بالهزيمة وهنأ منافسه بالفوز.
وبناءً على مؤشراتٍ رسميةٍ لنتائج الانتخابات، حصل الاتحاد المسيحي (الحزب المسيحي الديمقراطي وشقيقه الاجتماعي البافارى) على 29% من الأصوات، بينما جاءَ حزبُ البديل من أجل ألمانيا في المركز الثاني ليسجل 20% من الأصوات، في حين حصل الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامة شولتس على 16.5%، مقارنةً بحصوله على 25.7% خلال انتخابات عام 2021. أما حزبُ الخُضرِ المتحالف مع حكومة شولتس قد حصل على 13.5%، ونجح حزب اليسار في دخول البوندستاغ بحصوله على 8.5% من الأصوات، وفشل الحزب الديمقراطي الحر وتحالف سارا فاغن كنشت في دخول البرلمان الألماني.[2]
وبناءً على ما سبق، فقد تٌعد هذه النتائج بمثابةِ تحولٍ كبيرٍ في المشهد السياسي الألماني، ففي الوقت الذي فقد فيه الحزب الاشتراكي الديمقراطي جزءاً كبيراً من قاعدته الانتخابية، وهو ما أضعف موقف المستشار شولتس في المرحلة المقبلة، عزز حزب البديل من أجل ألمانيا موقعه كقوةٍ سياسيةٍ بارزةٍ، الأمرُ الذي سيعقّد من جهود تشكيل الحكومة خاصةً في ظل استبعاد الأحزاب التقليدية إمكانيةَ التحالف معه. فمع هذه التطورات تظلُ الأنظارُ موجهةً نحو المحادثات الائتلافية والتي سترسمُ ملامحَ الحكومة الجديدة في الوقت الذي تشهد فيه برلين تحديات سياسية واقتصادية متزايدة.
ثانيًا سيناريوهاتُ تشكيلِ الحكومةِ الألمانية الجديدة:
شدد فريدريش ميرتس بعد فوزه بالانتخابات على أهمية الإسراع في تشكيل الحكومة لمواجهة التحديات الدولية الراهنة، ولكن مع استبعاده للتحالفِ مع حزب البديل من أجل ألمانيا، فقد يواجهُ مهمةً صعبةً في تشكيل حكومة مستقرة، ومع فشلِ الحزب الديمقراطي الحر وحزب سارا فاغن كنشت في تجاوز عتبة الـ 5% تقلصت خياراته للتحالفات الممكنة، وبالتالي هناك ثلاث سيناريوهات أمام ميرتس لتشكيل ائتلاف حكومي قوى:
السيناريو الأول:التحالف الكبير بين الاتحاد المسيحي (CSU/CDU) والحزب الاشتراكي الديمقراطي
وهو الخيارُ الأفضلُ لدى الألمان خاصةً بعد موجة الاضطرابات المتواصلة داخل الائتلاف الحكومي الثلاثي بين الاشتراكيين والخضر وليبرالي الحزب الديمقراطي الحر، وبالتالي فهناك فرصةٌ محوريةٌ أمام ميرتس في أن يتمكنَ من بناء قواعدَ ثقةٍ مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي فيما يتعلق بتطبيق سياسات للهجرة أكثر صرامةً أو بالتعامل مع الأزمات العالمية الكبرى مثل الحرب في أوكرانيا
السيناريو الثاني:تحالفٌ ثلاثيٌ بين الاتحاد المسيحي + الحزب الاشتراكي الديمقراطي + حزب الخضر
ولكن هذا الخيار سيكون صعباً للغاية أمام الاتحاد المسيحي، فمن ناحيةٍ سيمثلُ الحزب الاشتراكي الديمقراطي والخضر كتلةً متساويةً في القوة مع الاتحاد المسيحي، وهو ما سيقلل من وزن الحزب داخل الائتلاف، ومن ثمَّ سيعقدُ تنفيذ التغيير السياسي الذي وعدَ به ميرتس. ومن جهةٍ أخرى يبرزُ استبعادُ مشاركةِ حزب الخضر في الحكومة من قِبلِ الحزب الاجتماعي المسيحي، ولذلك سيتطلب هذا السيناريو مهاراتٍ تفاوضيةً فعالةً من ميرتس للتوصل إلى اتفاق يمكن اتخاذه كبدايةٍ جديدةٍ وتحولٍ سياسيٍ فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية وقضايا الهجرة والمناخ. [3]
السيناريو الثالث: تحالفُ الاتحادِ المسيحي مع حزب الخضر
على الرغم من أن حزبَ الخضر أعلنَ عن استعداده للدخول في ائتلاف حاكمٍ مع الاتحاد المسيحي، ولكن هذا السيناريو معقّدٌ نظراً لرفْض زعيم الحزب المسيحي البافاري الدخول في أي ائتلاف مع حزب الخضر.
ثالثًا مستقبلُ ألمانيا بعد فوزِ ميرتس بالانتخابات: “ملامح المشهد السياسي القادم”
الاقتصاد الألماني: يُعدُ فوزُ ميرتس بالانتخابات بمثابةِ تحولٍ نحو سياساتٍ اقتصاديةٍ أكثر محافظة، لذلك فمن المتوقع أن تركزَ الحكومة الجديدة بقيادته على تخفيض الضرائب لدعم الاستثمار وتشجيع الشركات خاصةً في ظل الضغوط التي يواجهها الاقتصاد الألماني بسبب التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة، كما ستركز الحكومة أيضاً على دعم الابتكار والتكنولوجيا في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والصناعة الخضراء.[4]
ولكن من ناحية أخرى، فقد يواجهُ ميرتس تحديات كبرى، أبرزها نقْصُ العمالةِ الماهرة التي تعيق النمو الصناعي، وارتفاع أسعار الطاقة وتأثيراتها على الإنتاج، فضلاً عن الاعتماد على التجارة مع الصين والذي يفرض على برلين تحقيقَ توازنٍ بين المصالح الاقتصادية والمخاوف السياسية، لذلك فمن المتوقّعِ أن تتجهَ حكومةُ ميرتس نحو تعزيز العلاقات التجارية مع واشنطن، بالإضافة إلى تنويع الشراكات الاقتصادية للحد من التبعية لبكين.
قضيةُ الهجرة واللجوء: يُعتبرُ ملفُ الهجرة واللجوء هو أحد الملفات الساخنة التي ستواجهُ الحكومةَ الجديدةَ، لذا فمن المتوقع أن تتخذَ حكومةُ ميرتس موقفاً أكثر صرامةً تجاه اللاجئين وذلك عبر إصلاح قوانين اللجوء وتشديد الرقابة على الحدود، وتقليص أعداد المقبولين وتسريع عمليات الترحيل لمن تٌرفض طلباتهم خاصةً لمن يشكّلون تهديداً أمنياً، كما ستفرض شروطاً أكثر صرامة لمنح الإقامة الدائمة والجنسية.[5]
ولكن في المقابل، تعاني برلين من نقْصٍ حادٍ في العمالة الماهرة، الأمرُ الذي يدفع الحكومة إلى تقديم استثناءات للهجرة الاقتصادية، فسيتمُ فتحُ المجال أمام المهنيين ذوي الكفاءات العالية ولكن ضمن إجراءات مشددة لضمان اندماجهم في المجتمع الألماني. ومن المتوقّعِ أن تثيرَ هذه السياسات جدلاً داخلياً مع الأحزاب اليسارية والمنظمات الحقوقية، ولكنها ستعكسُ توجهاً عاماً في أوروبا نحو تشديد سياسات الهجرة واللجوء.
ملفُ الطاقة: تشكّل أزمة الطاقة تحدياً رئيسياً أمام حكومة ميرتس القادمة، خاصةً بعد قطع الإمدادات الروسية على خلفية الحرب الأوكرانية. ففي ظل هذا الوضع ستعملُ حكومةُ ميرتس على تعزيز الاستثمار في الطاقة المتجددة ولكنها ستحتاج أيضاً إلى حلولٍ مؤقتةٍ لضمان استقرار الإمدادات، فقد تلجأ الحكومة إلى توسيع الشراكات مع دولٍ مثل النرويج وقطر والولايات المتحدة لاستيراد الغاز الطبيعي المُسال، فمن المتوقع أيضاً أن تُعيدَ النظرَ في استخدام الطاقة النووية لفترة انتقالية، وهو ما قد يواجهُ مقاومةً من الأحزاب البيئية والمنظمات المناخية. وفي الوقت ذاته ستعمل الحكومة على تخزين الطاقة وتعزيز كفاءة الشبكات الكهربائية بهدف تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري تدريجياً دون الإضرار بالاقتصاد.
العلاقاتُ الخارجيةُ مع واشنطن وبكين وموسكو: فعلى الصعيد الدولي، من المتوقّع أن تعززَ ألمانيا تحالفَها مع الولايات المتحدة، خاصةً في مجالات الدفاع والتكنولوجيا والطاقة، كما ستستمر في دعم أوكرانيا عسكرياً وسياسياً، لكنها قد تكونُ أكثرَ تحفظاً في التعامل مع روسيا، من خلال البحث عن حلولٍ دبلوماسيةٍ لتخفيفِ حدةِ التوترات، مع الإبقاء على العقوبات كأداة ضغط.[6]
أما في العلاقة مع الصين، فستتبع ألمانيا نهجاً حذراً، فمن المتوقّعِ أن تسعى للحفاظ على العلاقات التجارية القوية مع بكين، ولكنها في الوقت ذاته ستفرضُ قيوداً على الاستثمارات الصينية في البنيةِ التحتيةِ الحساسة، مثل قطاع الاتصالات والطاقة. وفيما يخصُ الاتحادَ الأوروبي، ستواصل ألمانيا دورها كقوةٍ قياديةٍ، لكنها ستكون أكثر تحفظًا في الإنفاق المالي المشترك، مما قد يثير توترات مع دول جنوب أوروبا مثل إيطاليا وإسبانيا، التي تعتمد على الدعم الأوروبي لمواجهة أزماتها الاقتصادية. وفي المقابل، ستعمل على تعزيز التعاون مع دولٍ أوروبا الشرقية مثل بولندا ودول البلطيق، خاصةً في قضايا الأمن والدفاع ضد التهديدات الروسية.
ختامًا:
يمكن القول، إن هذه الانتخابات قد تشكّلُ لحظةً مفصليةً في تاريخ ألمانيا السياسي، حيث يعكس صعود الأحزاب اليمينية والمحافظة تحولاً واضحاً في أولويات الناخبين وسعيهم إلى تغيير السياسات الراهنة في مواجهة الأزمات الاقتصادية والهجرة والتحديات الجيوسياسية، فهذا التحولُ لا يعبّر فقط عن رفض الواقع الحالي، بل يمثل أيضاً دعوة لإعادة رسم سياسات البلاد وفق رؤية أكثر حسماً وواقعيةً. ومع دخول ألمانيا مرحلة جديدة من إعادة التشكيل السياسي، ستُحددُ الأسابيع المقبلة ملامح المستقبل الألماني، ليس فقط من حيث تشكيل الائتلاف الحاكم، بل ستعكس أيضاً مدى قدرة البلاد على تجاوز الانقسامات الداخلية، وإعادة تثبيت مكانتها كركيزةٍ للاستقرار والقيادة داخل أوروبا وعلى الساحةِ الدولية.
المصادر:
[1] هناء أبو العز، ألمانيا تنتخب المستشار وسط تخوفات من ترامب وأزمات اقتصادية، اليوم السابع، 23 فبراير 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/kBHKHJlK
[2] منى السعيد، الانتخابات الألمانية .. شولتس يقر بالهزيمة وميرتس يعمل على تشكيل الحكومة في أسرع وقت، الوطن، 23 فبراير 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/SbtlXFW7
[3] الشرق، الانتخابات الأكثر توتراً في ألمانيا منذ عقود .. كيف سيحسم الناخبون معركة الاستقطاب؟، 22 فبراير 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/xrJeD2Yx
[4] يسرى عادل، الانتخابات الألمانية .. ملفات ساخنة على طاولة البوندستاج، مركز الاتحاد للأخبار، 23 فبراير 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/ZOAAdtg8
[5] زاكروس، المحافظون يفوزون بالانتخابات الألمانية وسط تقدم تاريخي لليمين المتطرف، 23 فبراير 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/dpDV9viY
[6] النمسا ميديا، الانتخابات الألمانية المبكرة: صعود اليمين المتطرف وانعكاساته على الحكومة المقبلة والسياسة الدولية، 23 فبراير 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/vC0qrDym
