بدأتْ المرحلةُ الانتقالية في سوريا في 8 ديسمبر 2024 عقب سقوط النظام السابق، حيث تولّتْ إدارة العمليات العسكرية مقاليدَ السلطةِ بقيادة أحمد الشرع ومنذ ذلك الحين، شرعت الإدارة الجديدة في تبنّي حزمةٍ من السياسات والإجراءات الاستراتيجية لإدارة المرحلة الانتقالية على مختلف الأصعدة السياسية، الاقتصادية، والعسكرية، مع السعيِ لإعادةِ هيكلةِ النظام السياسي وبناءِ مؤسسات الدولة بما يحققُ الاستقرارَ الداخليَ والتوازن في العلاقات الخارجية.[1]
وفي هذا السياق، يبرز الدور الجيوسياسي المحوري لتركيا في صياغة المشهد السوري الجديد، مستندةً إلى عقيدة الأمن القومي التي ترى أن تحقيقَ مصالحها يتطلبُ القضاءَ التامَ على النزعات الانفصالية ذات الطابع الكردي، وإنهاء نفوذ قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتي تُصّنفها أنقرة كامتدادٍ لحزبِ العمال الكردستاني (PKK) وتعتبرها تهديدًا وجوديًا لوحدة أراضيها، ويأتي ذلك في إطار استراتيجية الأمن الوقائي التي تتبعها تركيا، حيث ترى أن تحقيقَ الاستقرارِ في سوريا يُعد امتدادًا مباشرًا لأمنها القومي.
الأبعادُ الاستراتيجية التركية في الملف السوري لا تقتصرُ على الجوانب العسكرية والأمنية فحسب، بل تشمل أيضًا إدارةَ ملفِ اللاجئين السوريين، حيث تسعى أنقرة إلى تخفيف الأعباء الديمغرافية والاقتصادية التي ترتبت على استضافتها لملايين اللاجئين، عبر تسريع عمليات إعادة التوطين في المناطق الآمنة داخل سوريا، في ظل ديناميكيات التوازنات الإقليمية والدولية.
أما على المستوى السياسي، فإن ما يُثيرُ التساؤلاتٍ ليس الدورَ التركيَ بذاته، إذ أن سياساته المعلنة واضحة، بل كيفية إدارة أنقرة ودمشق لتفاعلات المشهد السياسي والأمني، خاصةً في ظلِّ الوجودِ العسكريِ الأمريكي في شرق الفرات، واستمرار تعنّتِ “قسد” في الانخراط ضمن بنية الجيش السوري الجديد، ويبقى السؤالُ المحوريُ كيف سيتمُ رسْمُ معادلةِ النفوذِ السياسي والعسكري في سوريا في ظل الحضور التركي؟ وهل يمكنُ تحقيقُ تسويةٍ سياسيةٍ مستدامةٍ تضمن المصالح التركية والسورية على حدٍ سواء، دون الدخول في صدامٍ مباشرٍ مع الفاعلين الدوليين و الإقليميين؟
مواجهةُ قواتِ سوريا الديمقراطية (قسد)
تجسّدت الرؤيةُ للإدارة السورية الانتقالية على المستوى العسكري في تفكيك الجيش النظامي السابق، وحلِّ جميعِ الأجهزةِ الأمنيةِ والميليشيات التابعة له، إضافةً إلى تفكيك فصائل المعارضة المسلحة وإعادةِ هيكلتها ضمن الجيش السوري الجديد، وهي إجراءاتٌ دخلتْ حيزَ التنفيذ الفعلي. ومع ذلك، لا تزال هذه العملية تواجهُ تحدياتٍ معقّدةً، لعلّ أبرزَها موقفُ قسد التي بقيت خارج المنظومة العسكرية الجديدة، في ظل استمرار المفاوضات لإدماجها ضمن المؤسسة العسكرية الوطنية.
غير أنّ هذا المسارَ يواجهُ عراقيلَ جوهريةً، في مقدّمتها التصلّب السياسي والعسكري لحزب العمال الكردستاني، الذي يتمتعُ بنفوذٍ واسعٍ داخل قسد، ورفضهِ تقديم تنازلات استراتيجية، ما يُعقّد إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية شاملة. في المقابل، تتبنى أنقرة نهجًا تصعيديًا، إذ تمارسُ ضغوطًا سياسية وعسكرية لدفع الإدارة الجديدة في دمشق نحو تسريع حسم هذا الملف، ولو استدعى الأمرُ اللجوءَ إلى الخيارِ العسكري، وتذهب التقديرات التركية إلى أن أنقرة تترقّب نتائج المفاوضات بين دمشق وقسد، مع إبقاء خيار التدخل العسكري في شمال سوريا قيد الدراسة، شريطة الحصول على ضوء أخضر من الإدارة السورية الانتقالية.[2]
والجديرُ بالذكر أن أحدَ الجوانبِ الرئيسيةِ في هذا الملف هو الوجودُ العسكريُ الأمريكيُ ودعمهُ المستمر لقسد، وهو ما يُشكّل عاملًا حاسمًا في موازين القوى، ففي حال قررت أنقرة تبنّي الخيار العسكري لحسم هذا الملف، فإن ردّ الفعل الأمريكي قد يكونُ معارضًا بشدةٍ لهذه الخطوة، نظرًا لاعتباراتٍ استراتيجيةٍ تتجاوزُ الساحةَ السوريةَ إلى الحسابات الجيوسياسية الإقليمية والدولية.
وفيما يخصُ الانسحابَ العسكريَ الأمريكي من سوريا، فلا يبدو خيارًا مطروحًا في المدى المنظور، رغم تصريحاتٍ سابقةٍ للرئيس الأمريكي دونالد ترامب أشار فيها إلى أن سوريا ليست معركةَ الولاياتِ المتحدة، وهذا التواجد العسكري لا يعكسُ بالضرورة رغبةَ واشنطن في إعادة تشكيل الدولة السورية، بقدر ما يعكس حرصها على إدارة الفراغ الاستراتيجي الناجم عن تراجع النفوذ الإيراني، والروسي أيضًا، في بعض المناطق، إلى جانب ذلك، يواصل الدعم الأمريكي لقسد منحها قدرةً على فرْضِ نفسِها كفاعلٍ رئيسيٍ في المشهد السوري، ليس فقط عسكريًا، ولكن أيضًا سياسيًا، عبر ممارسة ضغوط رقابية على الحكومة السورية الانتقالية، التي ترى في قسد كيانًا انفصاليًا يحمل نزعة راديكالية، وتُصنّفه ضمن الجماعات غير الشرعية، مما يزيد من تعقيد مسار التسوية السياسية ويفتح المجال أمام مزيد من الاستقطاب.[3]
ملامحُ الخطواتِ المستقبليةِ
لا تزالُ الولاياتُ المتحدة تُولي الملف السوري اهتمامًا خاصًا، لا سيَّما في ظل مخاوفها من احتمال إقدام هيئة تحرير الشام على اتخاذ خطواتٍ تصعيديةٍ قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة. ومن الناحية الاستراتيجية، لا يُشكّل التنسيق بين واشنطن وأنقرة تحديًا معقدًا، خصوصًا إذا استند إلى نموذج التعاون الذي ساد بين البلدين خلال الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، وبالأخص فيما يتعلق بالملف السوري.
وفي هذا السياق، تسعى هيئة تحرير الشام بشكلٍ حثيثٍ إلى اكتسابِ الشرعيةِ السياسية، وهو ما يجعلها حريصةَ على الخروج من لوائح التنظيمات الإرهابية، كما أن قيادتها تعمل على ترسيخ بقائها من خلالِ تحقيقِ اعترافٍ مزدوجٍ، داخليًا من قِبلِ الفواعل المحلية، وخارجيًا على الصعيدين الإقليمي والدولي. وضمن هذه المعادلة المعقدة، تتجنبُ الحكومة الانتقالية في سوريا أيَّ تصعيدٍ عسكري من شأنه أن يؤديَ إلى تفاقمِ الأوضاع الميدانية، مما قد يعقّد مسار التسوية السياسية ويُفضي إلى مزيد من التوتر في المشهد السوري[4].
بناءً على هذه المعطيات، يمكن القول إن المشهد الجيوسياسي السوري في المرحلة المقبلة سيظل محكومًا بتوازنات معقّدة، حيث من المرجّح استمرارُ الوجودِ العسكري التركي والأمريكي، كلٌٌ وِفقَ مصالحهِ واستراتيجيته الخاصة. وفي المقابل، تسعى الحكومة السورية الانتقالية إلى تبنّي نهْجٍ براجماتيٍ يحافظُ على علاقاتٍ متوازنةٍ مع موسكو، بهدف تحقيق توازن استراتيجي في مواجهة النفوذ الإقليمي والدولي المتداخل في الملف السوري.
وفي سياقٍ متصلٍ، تواصلُ هيئةُ تحريرِ الشام تعزيزَ علاقاتها الوثيقة مع تركيا، وهو تحالفٌ مرشّح لمزيد من التنسيق العسكري والتعاون الاقتصادي، إلى جانب مسارات دبلوماسية من شأنها تكريس نفوذ أنقرة في شمال سوريا، ولكن ضمن إطار لا يتعارضُ مع المصالح الإقليمية والدولية الأخرى. وفي ظل هذا المشهد، يبقى الملف السوري خاضعًا لحسابات القوى الفاعلة، حيث ستسعى كلُ الأطراف إلى إعادةِ صياغةِ التوازنات الداخلية والخارجية وفقًا لأولوياتها الاستراتيجية.
إمكانيةُ وجودِ اتفاقيةٍ دفاعية بين البلدين
في ظلِّ الحراك الدبلوماسي الأخير، جاءت زيارةُ الشرع إلى أنقرة في الرابع من فبراير كجزءٍ من سلسلة التحركات الدبلوماسية بين الحكومة السورية الانتقالية والدول الشقيقة، وقد أثارت هذه الزيارة تكهّناتٍ حول إبرام اتفاقٍ دفاعيٍ مشتركٍ بين الجانبين، حيث أفادت تقارير، من بينها ما نشرته وكالة رويترز، بأن المباحثات شملت تنسيقًا عسكريًا موسّعًا بين أنقرة ودمشق.
وتأتي مصادر تركية لتؤكدَ رغبةَ أنقرة في هيكلة أجهزة الدولة وليس الشقُّ العسكريُ فقط وذلك من خلال خطةٍ متعددةِ المراحل تهدف إلى دعم المؤسسات السورية واستعادة القدرات الدفاعية للدولة، تعتمد هذه الخطة على نهج تدريجي يتضمن تقديم الدعم الفني والسياسي، وتحديد الاحتياجات الدفاعية السورية، وتقديم مقترحات لإعادة بناء الجيش.
في المرحلة الأولى، سيتمُ التركيزُ على استئناف عمل المؤسسات السورية بمختلف قطاعاتها، وليس فقط المجال العسكري. في هذا السياق، تسعى تركيا إلى توفير الخبرات الفنية والدعم السياسي لضمانِ عودةِ الدولةِ إلى وظائفها الأساسية بشكلٍ سريعٍ وفعال، مما يُسهمُ في تحقيق الاستقرار العام.
أما في المرحلة الثانية، فسيقومُ الجانبُ السوريُ بتحديد متطلباته الدفاعية، ومن ثمَّ تقديم طلباته إلى تركيا، التي أبدت استعدادها لتقديم الدعم وفقًا للاحتياجات التي يتم تحديدها، يشمل ذلك مجالات مثل التدريب العسكري، وتقديم الاستشارات، وتوفير المعدات الدفاعية، بهدف تمكين الجيش السوري من استعادة قدراته الدفاعية بشكل مستقل.
في المرحلةِ الأخيرةِ، ستقومُ وزارةُ الدفاع التركية بإعدادِ مقترحاتٍ تلبّي احتياجاتِ الجيش السوري، خاصةً أن الحكومة السورية قد تواجهُ صعوباتٍ في تقييم هذه الاحتياجات بشكلٍ دقيقٍ خلال المراحل الأولى من إعادة الهيكلة، سيتم تقديم هذه المقترحات بناءً على تقييم مشترك مع الجانب السوري، ليتمَّ بعد ذلك الاتفاق على خارطة طريق مشتركة تحدد آليات التنفيذ وسبل التعاون المستقبلية.[5]
وسيحملُ ذلك دلالاتٍ استراتيجيةً واضحةً، أبرزها توجيه رسالة ردع إلى قسد، وبالتالي أي وجود عسكري تركي على الأراضي السورية سيكون جزءًا من مقاربة أمنية تهدف إلى تحجيم النفوذ الكردي وضمان المصالح الاستراتيجية التركية في المنطقة.[6]
الخاتمة
يبدو أن المرحلةَ المقبلةَ ستظلُ رهينةً لتوازناتٍ إقليميةٍ ودولية مختلفة، حيث ستسعى مختلف الأطراف إلى تحقيق مصالحها عبر مقاربات متعددة المستويات، فبالنسبة لتركيا، يظل النهْجُ الأمنيُ والعسكريُ هو الإطارَ الحاكمَ لسياستها تجاه سوريا، سواء من خلال دعم إعادة هيكلة الجيش السوري، أو عبر فرض معادلات ميدانية جديدة تقلّص من نفوذ قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وتحافظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. ومن هذا المنطلق، فإن أيَّ اتفاقٍ دفاعيٍ بين أنقرة ودمشق قد يحملُ في طياتهِ دلالاتٍ بعيدةَ المدى، ليس فقط فيما يتعلق بمستقبل الترتيبات الأمنية، ولكن أيضًا في إعادة رسْمِ المشهد السياسي وفق توازناتٍ تتماشى مع الحسابات التركية.
على المستوى الإقليمي، من المرجّحِ أن تبقى موسكو لاعبًا محوريًا يسعى إلى تحقيقِ توازنٍ استراتيجي بين مختلف الأطراف، في حين تواصل واشنطن إدارةَ المشهد وفقَ اعتباراتٍ تتجاوز البعد السوري، لتشمل توازنات الشرق الأوسط ككل، وفي هذا السياق، ستظل أنقرة تتحرك وفق مقاربة براجماتية تستهدف تعزيز نفوذها من خلال مزيج من الأدوات العسكرية والدبلوماسية، مع الحرص على تفادي أي تصعيد قد يؤدي إلى اصطدام مباشر مع الفاعلين الدوليين.
بناءً على هذه المعطيات، يمكن القول إن مستقبلَ المشهد السوري سيظل خاضعًا لمعادلاتٍ متغيرةٍ تتأثرُ بحساباتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ معقّدةٍ، حيث ستتجه دمشق وأنقرة نحو مزيد من التنسيق الأمني والعسكري، بينما تبقى فرصُ تحقيق تسويةٍ سياسيةٍ مستدامةٍ مرهونةٍ بإمكانية تحقيق توافقات تضمن الحد الأدنى من المصالح المشتركة لجميع الأطراف، دون الإخلال بالتوازنات الاستراتيجية القائمة.
[3] Sinan Ciddi, Trump can’t leave Syria to others, Foundation for Defense of Democracies, January 8, 2025, Trump can’t leave Syria to others, Access February 12,2025.
