“أوبك” والولايات المتحدة
إعداد : مصطفي أحمد مقلد
فى قرار جديد، سيقوم “أوبك+” بخفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يومياً، بدءاً من نوفمبر 2022 وحتى نهاية 2023، لاستعادة الاستقرار والتوازن في السوق، خاصة بعد تراجع أسعار النفط على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، على أن تتحمل السعودية وروسيا الحصة الأكبر من هذا الخفض، ما سبب “خيبة أمل” أميركية من القرار، ما دفع واشنطن للبحث عن اتخاذ خطوات لتقليل سيطرة أوبك على أسعار الطاقة، فالقرار يزيد من ارتفاع أسعار الخام ما يزيد من سخط الناخب الأمريكى وهو ما يقلق الإدارة الامريكية خاصة مع قرب انتخابات التجديد النصفي للكونغرس.
توقيت القرار له خصوصية على المستوي السياسى والاقتصادى، فبينما يتعامل الاقتصاد العالمي مع التأثير السلبي المستمر لغزو بوتين لأوكرانيا، يمثل فيه الحفاظ على إمدادات الطاقة العالمية أمراً بالغ الأهمية، كما أن للقرار تأثير وصدى فيما يتعلق بالحرب الاوكرانية بما يحققه من مكاسب لأطراف وضغوط على أطراف أخرى.
تحديات سعودية:
واجهت العائلة الملكية السعودية أربع سنوات صعبة، فقد أدى اغتيال الكاتب الصحفي “جمال خاشقجي” إلى النيل من سمعة المملكة بشدة وكذلك الحرب في اليمن حيث تقاتل الرياض ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران، مما أضر بسمعتها كقوة مهيمنة إقليمية.
بجانب ذلك، كان هناك تحديات إقتصادية، ففي عام 2020 تراجعت أسعار النفط خلال جائحة كوفيد 19، مما أثر سلبا على الاقتصاد السعودي، ثم وصل جو بايدن إلى البيت الأبيض في أوائل عام 2021 بوعد قطعه خلال الحملة الانتخابية الرئاسية، بتحويل المملكة إلى دولة “منبوذة”.
طبيعة العلاقة بين السعودية وبايدن:
تقوم العلاقات التقليدية بين السعودية والولايات المتحدة بشكل أساسى على معادلة قوامها توفير الولايات المتحدة الحماية العسكرية مقابل إمدادات موثوقة من النفط، لكن المسؤولون السعوديون يقولون إن طبيعة الشراكة بين واشنطن والرياض تغيرت جذرياً، إذ بات التحالف يفتقر للتوازن، بعد أن ثارت توترات ومزيد من الاختلافات في وجهات النظر بين واشنطن والرياض، مثل محاولة واشنطن لإحياء اتفاق نووي مع إيران، وهي خصم الرياض الإقليمي، دون الأخذ فى الاعتبار مخاوف الرياض ومصالحها.
وجاء موقف أمريكا من حرب السعودية في اليمن على غير ما أرادته السعودية، وهو ما اعتبرته دول الخليج افتقاراً للحماية من واشنطن ضد هجمات الوكلاء المدعومين من إيران.
كذلك تجنّب بايدن التحدث إلى السعوديين بعد تتويجه بالرئاسة الأمريكية، وخاصة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ما أثار حنق السعوديين.
وعلى ذلك، عندما ارتفعت أسعار النفط في أكتوبر ونوفمبر 2021، اختار البيت الأبيض اللجوء إلى الاحتياطي البترولي الاستراتيجي الأمريكي، بدلاً من أن يضغط بايدن شخصياً على السعوديين عبر الاتصالات الهاتفية كالمعتاد، لضخ المزيد من الخام ما أرسل رسائل سلبية وزاد من جمود العلاقات.
يأتى هذا القرار فى لحظة مهمة بالنسبة لتحالف استمر لأكثر من 70 عاماً بين السعودية والولايات المتحدة، حيث جاء خفض الإنتاج بعد أقل من عدة أشهر من زيارة “جو بايدن” للسعودية بحثاً عن مزيد من الإنتاج للمساعدة في خفض الأسعار بعد اشتعال الأسعار بسبب الحرب الاوكرانية والمساعى الأوروبية للحد من واردات النفط الروسى.
ونتيجة لذلك، اتهمت الولايات المتحدة الأميركية المملكة العربية السعودية بالانحياز إلى روسيا، بعد أن قادت المملكة تحالف “أوبك+” في اتخاذ قرار بخفض إنتاج النفط الخام، مما يبقي أسعار النفط مرتفعة في وقت يسود فيه القلق العالمي بشأن التضخم.
تفاصيل قرار خفض الإنتاج:
تشير”أوبك” أنه قرار “تقني” يتعلق بالحفاظ على توازن السوق ومعادلة العرض والطلب، ومع أن قرار الخفض كان متوقعاً في ظل الركود الاقتصادي العالمي القادم الذي سيهوي بالطلب بشكل عام، وهو ما جعل أسعار النفط تهبط من قرب 130 دولاراً للبرميل إلى نحو 90 دولاراً للبرميل أو أقل، إلا أن التصعيد الأميركي دفع الإعلام الغربي للحديث عن حرب طاقة مرتبطة بحرب أوكرانيا والعقوبات على روسيا وما ينتظر الدول الغربية، بخاصة في أوروبا وبريطانيا، من شتاء صعب نتيجة افتقار المواطنين لإمدادات الطاقة بسبب ارتفاع أسعارها وعدم قدرتهم على تحمل كلفتها، وبالتالى اتهام “أوبك” ودول الخليج بالوقوف في صف روسيا بقرار الخفض.
قال وزير الطاقة السعودي إن “أوبك بلس” تتصرف وسط مؤشرات على تباطؤ الاقتصاد العالمي قد يتسبب في ضعف الطلب على النفط وانخفاض الأسعار، كما قدّر أن الخفض الفعلي للإنتاج سيكون ما بين مليون إلى 1.1 مليون برميل يومياً، في إشارة إلى أن بعض دول التحالف لا تُنتج على أرض الواقع بما يوازي حصتها المتفق عليها.
شكوك غربية حول قرار أوبك:
يرى تحقيق “فايننشال تايمز” أن “الصدام” بين “أوبك” والمستهلكين في الغرب كان متوقعاً منذ سنوات، فسياسة الغرب في شأن أمن الطاقة بالتحول بعيداً من النفط ونحو مصادر أقل انبعاثاً للكربون لمواجهة التغير المناخي جعلت المنتجين يعتقدون ذلك حرب على مصدر دخلهم الرئيس ومحاولة لتقليص نفوذهم على مجال الطاقة والنفط، ثم اعتماد مبدأ “التحول نحو الطاقة النظيفة” كأحد مرتكزات البرنامج الرئاسى لبايدن، بجانب انتقاداته للسعودية بشكل عام، تم تفسير ذلك على أن هناك معركة حول التحكم في سوق الطاقة العالمية.
كما أن تدخل إدارة بايدن في السوق بالإفراج عن عشرات ملايين البراميل من النفط من المخزون الاستراتيجي الأميركي لإغراق السوق لأسباب سياسية داخلية، جعل أمريكا ترى قرار “أوبك بلس”غير المنسجم مع تطلعاتها، مناكفة متعمدة لها ودعم صريح لروسيا فى حربها.
ارتباط قرار أوبك بلس بالحرب الاوكرانية:
واعتبر وزير الطاقة السعودى أن السياسة التي تقودها الولايات المتحدة لفرض سقف سعر على النفط الروسي “أدت إلى اضطراب شديد في السوق”، في ظل شكوك حول الاقتصاد العالمي ككل، وهو ما أدى إلى قرار “أوبك +” خفض الإنتاج.
وتدفع الولايات المتحدة منذ فترة إلى فرض سقف سعر على النفط الروسي، للحفاظ على استمرار الصادرات الروسية كي لا ينخفض العرض بما يرفع الأسعار، وفي الوقت نفسه حرمان موسكو من عائدات صادراتها ضمن العقوبات عليها بسبب الحرب في أوكرانيا، لكن تلك السياسة ستجعل الخدمات اللوجستية لتجارة النفط أكثر صعوبة، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. ويرى محللون أن تلك السياسة تعنى غياب أكثر من ثلاثة ملايين برميل يومياً من النفط الروسي عن السوق العالمية، بالتالى تبرر السعودية قرار “أوبك بلس” أنها سعت لاتخاذ قرار استباقي تحسباً لانهيار العرض فى حال تم تحديد سقف لسعر النفط الروسى.
كذلك تخشى الدول المنتجة للنفط من استخدام أميركا سلاح “سقف سعر للصادرات” ضدها في أي وقت، لذا يمثل القرار رسالة تحذيرية مفادها أن المنتجين والمصدرين لن يقبلوا بأي محاولة من جانب المستهلكين لخفض الأسعار.
وعلى الرغم من ذلك، ضغط المسؤولون الأميركيون لإقناع الرياض والأعضاء الآخرين في التحالف النفطي لتعديل مسار خفض الإنتاج، ورأوا فى القرار حرب طاقة بين روسيا والغرب، وأن السعودية تعتزم دعم فلاديمير بوتين وتجاهل جو بايدن، حيث اعتبرت “كارين جان بيير” المتحدثة باسم البيت الأبيض، في تصريحات للصحفيين، أنه “بات جلياً من خلال إعلان اليوم أن “أوبك+” متحالف مع روسيا”، في المقابل، أكّد مسؤولون سعوديون أن قرار الخفض جاء مدفوعاً بالقلق حيال تباطؤ الاقتصاد العالمي.
يبدو أن المسؤولين في الخليج يحاولون موازنة علاقاتهم مع كل من الولايات المتحدة وروسيا، التي تلعب دوراً مهماً ليس في أسواق الطاقة فحسب، بل أيضاً في النزاعات الإقليمية من سوريا إلى ليبيا، كما تشارك في المفاوضات الدولية الجارية مع إيران.
الضغوط الامريكية:
سبق اجتماع “أوبك بلس” ضغوط أميركية كي لا يخفض التحالف إنتاج النفط، حيث تسعى إدارة بايدن لنزع فتيل مشكلة داخلية، فانتخابات التجديد النصفي في الكونغرس بمجلسيه الشهر المقبل، وأي احتمال لارتفاع أسعار الوقود في محطات البنزين تزيد من فرص خسارة الحزب الديمقراطي المتراجع أصلاً في استطلاعات الرأي أمام الحزب الجمهوري، وهكذا ترى الإدارة الأميركية أن محاولتها إقناع السعودية بعدم خفض الإنتاج فشلت، وبالتالى اتهمت السعودية بالتحالف مع روسيا.
وعلى هذا، دعا الديمقراطيون الغاضبون في الكونغرس، لمعاقبة الرياض وحكومتها التي يُنظر إليها على أنها حليف غير موثوق بشكل متزايد، مع ذلك، ليس لدى بايدن وفريقه خيارات جيدة للرد على خطوة” أوبك+”، وهم لا يرون أن هناك فائدة تذكر من نزاع ممتد يسلط الضوء على عجز الرئيس عن التأثير على التحالف النفطي، كما أن المحللين لا يتوقعون سوى ارتفاع متواضع للأسعار في محطات بيع البنزين.
فى السياق ذاته، أشار البيت الأبيض إلى إمكانية أن يغير من توجهه ويؤيد تشريعاً مطروحاً على الكونغرس، باسم “نوبك” يستهدف المقاضاة القانونية لـ “أوبك” باعتبارها تنتهك حرية السوق والأسعار، لتقليل سيطرة أوبك على أسعار الطاقة، ومن شأن مشروع القانون المقدم من الحزبين أن يبطل الحصانة السيادية التي تحمي “أوبك” من الدعاوى القضائية، وسيكون بمقدور المدعي العام الأميركي مقاضاة منظمة “أوبك” أو منتجين آخرين متحالفين مع “أوبك” أمام محكمة اتحادية، ويقول مؤيدوه إن المشروع قد يرى النور هذا العام، بسبب أفعال روسيا التي كانت تنتج أخيراً نحو 10 في المئة من نفط العالم.
لكن مشروع القانون ظل حبيس المناقشة دون إقراره لعقدين من الزمان وحتى في حال إقراره، ستدفع دول “أوبك” بالمحامين لنفي أي ضرر مقصود نتيجة قراراتها، لذا يمثل إقرار لجنة في مجلس الشيوخ لمشروع قانون نوبك “مناورة سياسية” تهدف إلى تهدئة الأوضاع في الشارع الأميركي بسبب الزيادة الكبيرة في أسعار الطاقة.
مكاسب سعودية:
بالنسبة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، فإن القرار يشير إلى تعزيز ثقته مدعومة بقوة النفط، حيث يسير اقتصاد المملكة ليصبح أحد أسرع الاقتصادات نمواً ضمن دول مجموعة العشرين، ويرى السعوديون أن قرار “أوبك+” يُشير إلى تطور الشراكات الخارجية للرياض، بجانب توفر مساحة تسمح للسعودية بالمناورة فيما يخص علاقاتها بالولايات المتحدة، حيث في حين سعى بعض كبار المسؤولين الأميركيين إلى إصلاح العلاقات، لم يكن ذلك كافياً لرأب التصدعات التي تسبب فيها الرئيس الأميركي شخصياً إلى حدٍّ ما نتيجة الوعد الذي أطلقه بايدن أثناء حملته الانتخابية بجعل المملكة السعودية دولة “منبوذة”، والذى انهار تماماً في اللحظة التي قفزت فيها أسعار النفط نحو 100 دولار للبرميل.
وفقاً للاتجاهات الحالية، ستحقق المملكة مكاسب بقيمة 375 مليار دولار من ضخ النفط خلال 2022، وهذا سيمثل ثاني أعلى إيرادات على الإطلاق للمملكة، كما أن أزمة الطاقة تعيد المنطقة إلى بؤرة اهتمام الأسواق العالمية.
النفط ليس المجال الوحيد الذي حققت فيه السعودية مكاسب، فاليمن مجال آخر أيضاً، ففي الأسابيع الأخيرة، سلّط دبلوماسيون أمريكيون الضوء على كيفية دعم الرياض لجهود الأمم المتحدة لإنهاء الحرب، في حين ألقوا باللوم على الحوثيين في شن هجمات جديدة، وتأتى تلك الجهود الأمريكية فى إطار سعيها لاستقطاب السعودية لزيادة كمية النفط فى السوق العالمية لخفض أسعاره.
يعتبر نجاح منظمة “أوبك+” في تجاوز الضغوط الأميركية على الرغم من محاولات التأثير بشكل مباشر من خلال جولة الرئيس بايدن وعقده قمة مع زعماء الخليج، نجاحا سعوديا فالسعودية تعتبر رئيساً لتحالف “أوبك+”، ونتيجة لذلك الوضع الذى منح السعودية موقف قوى يجعلها غير خاضعة لرغبات الولايات المتحدة، فإن الولايات المتحدة ستفضل اللجوء إلى التفاوض والتفاهم مع الأعضاء المؤثرين في منظمة (أوبك) والذين لديها معهم علاقات دبلوماسية وثقافية واقتصادية تصب في صالح الاقتصاد الأميركي وليس التهديد.
لذا فإن وقف مبيعات الأسلحة الأميركية إلى المملكة العربية السعودية، أو الحد منها – وهي نقطة التأثير الرئيسية للإدارة الأميركية على المملكة- يبقى احتمالاً مستبعداً، حيث اشترت الرياض أسلحة أميركية بمليارات الدولارات، ولديها التزامات شراء بمليارات أخرى، ما يعزز حربها ضد المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن.
مع ذلك؛ كانت هناك إشارة واحدة رفض بايدن إرسالها إلى المملكة العربية السعودية، وهي التحدث مباشرة إلى الأمير محمد بن سلمان، وهو ما أخفق بايدن فى تحقيقه، من خلال زيارته للسعودية وعقد قمة جدة بحضور وترأس بن سلمان للقمة، وضمت أهداف الزيارة دعوة السعودية للعب دور أكبر فى خفض سعر النفط عالميا.
ختاما، فقد ألقى قرار “أوبك بلس” بخفض إنتاج النفط الضوء على النفوذ المتزايد المتحقق للمملكة السعودية خاصة في خضم الحرب الأوكرانية وتداعياتها على سوق الطاقة عالميا، وهو ما تحاول السعودية استثماره لخدمة مصلحتها القومية فى ضوء الأخطار التى تتهددها وتعظيم مكاسبها فى وقت يمر فيه العالم بمتغيرات هامة تؤثر على بنية توزيع القوة فيه، ويتزامن ذلك مع محاولة استقطاب الدول الكبري النفوذ السعودى.