المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > الدراسات الأمنية والإرهاب > أوروبا في مواجهة التحديات: من الاعتماد الأمني إلى الاستقلال الاستراتيجي
أوروبا في مواجهة التحديات: من الاعتماد الأمني إلى الاستقلال الاستراتيجي
- مايو 25, 2025
- Posted by: mostafa hussien
- Category: الدراسات الأمنية والإرهاب تقارير وملفات
لا توجد تعليقات

إعداد/ آية أشرف
باحث في برنامج الأمن والإرهاب
شهد الاتحاد الأوروبي في مارس 2025 إطلاق خطة إعادة تسليح شاملة تُعد الأضخم منذ نهاية الحرب الباردة تحت مسمى “خطة إعادة تسليح أوروبا” (ReArm Europe Plan)، تأتي هذه الخطة كرد فعل مباشر على تصاعد التوترات الجيوسياسية والتهديدات الأمنية المتزايدة في أوروبا والعالم، وتمثل هذه الخطة تحوّلاً جوهرياً في سياسة الأمن الأوروبي من الاعتماد على الضمانات الأمنية الخارجية إلى بناء قدرات دفاعية مستقلة ذاتية، تهدف الخطة إلى تعبئة ما يقارب 800 مليار يورو خلال أربع سنوات من خلال زيادة الإنفاق الدفاعي الوطني، وابتكار آليات تمويل جديدة، وتعزيز التعاون الصناعي الدفاعي الأوروبي. تأتي هذه المبادرة في وقت حرج، مع تعليق الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا، مما زاد من ضغوط تحمل أوروبا مسؤولية أكبر تجاه أمنها الإقليمي، وعليه يسلط هذا التقرير الضوء على السياق الاستراتيجي الدافع لهذا التحول وعرض الخطوط العرضية للخطة الأوروبية للتعامل مع مقتضيات هذا السياق.
السياق الاستراتيجي والدوافع الجيوسياسية
يكشف التوجه الأوروبي نحو إعادة تقيم العقيدة الدافعية الحالية عن تحول كبير في بنية الأمن الأوروبي التقليدي؛ فتعتبر خطة إعادة تسليح أوروبا كسرًا حاسمًا لنموذج الأمن الأوروبي بعد الحرب الباردة الذي يركز بشكل أساسي على التكامل الاقتصادي بدلاً من الاستعداد العسكري، فقد فضلت دول أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي التقليل من إنفاقها الدفاعي تدريجيًا معتمدة بشكل كبير على حلف الناتو والضمانات الأمنية الأمريكية للحفاظ على الاستقرار القاري، كان هذا النهج الذي وصفه المحللون بـ “أوروبا ما بعد التاريخ” مبنيًا على الاعتقاد بأن الترابط الاقتصادي سيقلل من التهديدات الأمنية التقليدية ويجعل الصراعات العسكرية الكبرى غير ضرورية، إلا أن هذا الإطار الأمني بدأ يتفكك مع ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 مما دمر التصورات الأوروبية حول استمرارية التعايش السلمي، تفاقهم هذا الموقف بالتزامن مع الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022 الذي كشف عن نقاط الضعف في اعتماد أوروبا على مقدمي الأمن الخارجيين، ثم جاء قرار تعليق المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا تحت إدارة ترامب ليعجل بإدراك أوروبا ضرورة تطوير قدرات دفاعية مستقلة لضمان أمنها الاستراتيجي([1]).
وعليه بدأت أوروبا بقيادة فرنسية في إعادة تقييم التهديدات المعاصرة التي تواجهها القارة بشكل مباشر وغير مباشر في الآونة الأخيرة من خلال خطط استراتيجية اعتمدها الاتحاد الأوروبي لتوفير تقييماً شاملاً للتهديدات الأمنية التي تواجه أوروبا بما يشمل التهديدات العسكرية التقليدية والحروب الهجينة والهجمات الإلكترونية، والإرهاب، واعتبر هذا التقييم روسيا بمثابة التهديد التقليدي الأكثر إلحاحاً، بينما صُنفت الصين كتحدي استراتيجي طويل الأمد لمصالح أوروبا.
وكشف التقييم عن أن أوروبا لم تعد تستطيع الاعتماد فقط على البنية الأمنية عبر الأطلسي التي دعمت الاستقرار منذ 1945، إن تلاقي العوامل التاريخية والضغوط الجيوسياسية المعاصرة والقيود الاقتصادية المتغيرة خلق ضرورة لتحقيق الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، هذا الإدراك دفع صانعي السياسات الأوروبيين إلى الاعتراف بضرورة تطوير قدرات دفاعية محلية لحماية مصالح وقيم القارة في نظام أمني عالمي متزايد الانقسام.
رؤية جديدة لإعادة التسلُح والدفاع
استجابة للتحديات المتزايدة أطلقت المفوضية الأوروبية مبادرة “إعادة تسليح أوروبا” 2023م، جاءت هذه الخطة في صورة متكاملة من حيث جوانبها المالية والسياسية والتقنية، تسعى الخطة بشكل عام إلى تحقيق استقلال أمني أوروبي من خلال تطوير قاعدة صناعية دفاعية قوية تعتمد على الابتكار والتكنولوجيا وإعطاء أولوية كبيرة لمجالات البنية التحتية الأوروبية لضمان استجابة أوسع في الأزمات، وذلك من خلال آليات وخطط فرعية تتمثل في:
استراتيجية تعبئة 800 مليار يورو
اعتمد خطة إعادة التسليح على هيكل مالي وآليات تمويل معقده يهدف من خلالها الاتحاد إلى تعبئة 800 مليار يورو للدفاع الأوروبي خلال أربع سنوات وهو ما يعد أكبر زيادة في الإنفاق الدفاعي الأوروبي منذ الحرب الباردة على أن يتم تمويل الخطة عبر قنوات متعددة يعتمد الجزء الأكبر منها على زيادة إنفاق الدول الأعضاء نفسها، فتقترح الخطة زيادة الإنفاق الدفاعي للدول الأعضاء بمعدل 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يمكن أن يخلق مساحة مالية بحوالي 650 مليار يورو خلال أربع سنوات، وعليه يعتمد هذا النهج على القدرات الوطنية الحالية مع تشجيع استراتيجيات استثمار منسقة عبر الاتحاد الأوروبي([2])، أما الـ 150 مليار يورو المتبقية فد استحدث لها الاتحاد أداة مالية جديدة مخصصة لتمويل المشتريات الدفاعية وتطوير القدرات تمثلت في “مبادرة العمل الأمني من أجل أوروبا” (SAFE) وهي أداة مالية جديدة للاتحاد الأوروبي تقدم قروضًا تصل إلى 150 مليار يورو مدعومة بميزانية الاتحاد مخصصة لتعزيز القدرات الدفاعية عبر برامج شراء مشتركة، تعمل (SAFE) بنظام اختيار المشاركة (opt-in) متجاوزة معارضة بعض الدول لآليات الاقتراض المشتركة على مستوى الاتحاد، وعليه تم تصميم القروض في صيغة استثمارات دفاعية مستهدفة بدلاً من منح مما يعالج مخاوف الدول المحافظة مالياً مثل ألمانيا وهولندا، يشبه هذا النهج آلية الدعم المؤقتة لتخفيف مخاطر البطالة (SURE) التي استخدمت خلال جائحة كوفيد-19 مما يظهر قدرة الاتحاد على تكييف آليات مالية ناجحة مع تحديات أمنية جديدة، تُخصص هذه الأموال لمجالات القدرات الأوروبية المشتركة مثل أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي، وأنظمة المدفعية، والصواريخ والذخيرة، والطائرات بدون طيار وأنظمة مكافحة الطائرات بدون طيار، والدفاع السيبراني([3]).
تعديل قواعد المالية العامة وإنفاق الدفاع
جزء أساسي من استراتيجية التمويل هو تعديل القواعد المالية العامة للاتحاد الأوروبي للسماح بزيادة الإنفاق الدفاعي، تقترح الخطة تخفيف القواعد التي تلزم الدول بالحفاظ على عجز عام أقل من 3% من الناتج المحلي الإجمالي لتتيح زيادة الإنفاق الدفاعي، تمثل هذه المرونة المالية تحولًا كبيرًا عن التقاليد المالية الأوروبية وتعكس الأولوية الأمنية في البيئة الجيوسياسية الحالية، ستسمح التعديلات للدول بإنفاق 1.5% إضافية من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع خلال أربع سنوات دون مخالفة قواعد الاتحاد، يعترف هذا النهج بأن القواعد المالية التقليدية المصممة لإدارة الاقتصاد في أوقات السلم قد لا تكون كافية لمواجهة التحديات الأمنية العاجلة، تضمن هذه المرونة استجابة سريعة للتهديدات دون المساس بالتزامات عضوية الاتحاد أو التعرض لعقوبات مالية.
التنمية الصناعية والتكنولوجية
تولي الخطة أولوية لتطوير قاعدة صناعية دفاعية أوروبية قوية ومبتكرة قادرة على توفير الأسلحة والعتاد على نطاق واسع دون الاعتماد على أطراف ثالثة، يعكس هذا الهدف الإدراك الأوروبي لأهمية الاستقلال الصناعي الدفاعي لضمان الأمن طويل الأمد، تركز الخطة على التعاون المشترك لتلبية الاحتياجات المادية من خلال عمليات شراء مشتركة تحقق وفورات الحجم وتقليل التكاليف وبالتالي معالجة نقاط الضعف في القدرات الدفاعية الأوروبية عبر برامج تطوير صناعية منسقة تركز على مجالات مثل أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي، والذخائر الموجهة بدقة، وتقنيات المراقبة المتقدمة، يهدف التركيز على المشتريات المشتركة إلى تجاوز التجزئة التي ميزت أسواق الدفاع الأوروبية حيث غالبًا ما كانت التفضيلات الوطنية تعيق تحقيق وفورات الحجم ([4]).
التنقل العسكري وتطوير البنية التحتية
جزء أساسي من استراتيجية الصناعة الدفاعية هو تعزيز قدرات التنقل العسكري لضمان نشر القوات والمعدات بسرعة عبر الأراضي الأوروبية في حالات الأزمة، تشمل الخطة تحسين البنية التحتية للنقل وتبسيط الإجراءات الإدارية للحركات العسكرية ووضع بروتوكولات للتعاون العسكري عبر الحدود، وعليه تهدف هذه الإجراءات إلى ضمان قدرة القدرات الدفاعية الأوروبية على الانتشار الفعال عند الحاجة.
الابتكار والتقدم التكنولوجي
يمثل الابتكار التكنولوجي حجر الزاوية في استراتيجية إعادة التسليح الأوروبية مع تركيز خاص على تطوير قدرات متقدمة توفر ميزة تنافسية في سيناريوهات الصراع المستقبلية، تشمل الاستثمارات تقنيات ناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، وأنظمة الفضاء، والمنصات الذاتية التشغيل، تهدف هذه الاستثمارات إلى ضمان تنافسية القدرات الدفاعية الأوروبية مع نظرائها من المنافسين والخصوم المحتملين، تشمل الاستراتيجية أيضًا تقنيات ذات استخدام مزدوج تخدم التطبيقات المدنية والعسكرية، مما يزيد من العائد الاقتصادي على الاستثمارات الدفاعية ويعزز التنافسية التكنولوجية الأوروبية، يعكس هذا النهج التداخل المتزايد بين التكنولوجيا المدنية والعسكرية في بيئة أمنية معاصرة حيث غالبًا ما يكون للابتكارات التجارية تطبيقات دفاعية مهمة ([5]).
التنفيذ الاستراتيجي والتنسيق
يتطلب تنفيذ خطة إعادة تسليح أوروبا آليات تنسيق مؤسسية متطورة لضمان الاستخدام الفعال للموارد وتوجيه استراتيجي متماسك، توفر البوصلة الاستراتيجية الحالية التي تعتمدها دول القارة إطارًا شاملاً للتعاون الدفاعي الأوروبي من خلال تحديد أهداف واضحة ووسائل تحقيق وجداول زمنية لقياس التقدم من خلال بنية مؤسسية تهدف إلى تعزيز التماسك والهدف المشترك في الإجراءات الأمنية والدفاعية الجارية داخل الاتحاد، تشمل هذه البنية مستويات متعددة من التنسيق بدايةً من التوجيه السياسي رفيع المستوى عبر المجلس الأوروبي وصولًا إلى التنسيق التشغيلي من خلال آليات الدفاع القائمة في الاتحاد، ويوفر الكتاب الأبيض حول الاستعداد الدفاعي الأوروبي 2030 مقترحات قانونية ومالية مفصلة لتنفيذ الأهداف الاستراتيجية مما يضمن ترجمة الالتزامات السياسية إلى قدرات ملموسة وتحسينات أمنية ([6]).
التكامل مع الأُطُر الأمنية القائمة
تم تصميم خطة إعادة تسليح الأوروبية بعناية لتتكامل وليس لتتنافس مع الترتيبات الأمنية القائمة لا سيما “حلف الناتو”؛ فتهدف هذه المبادرة إلى تعزيز مساهمات أوروبا في الأمن عبر الأطلسي مع تطوير قدرات مستقلة يمكنها العمل بشكل مستقل عند الضرورة، ويعكس هذا النهج اعتراف أوروبا بأن تعزيز القدرات المحلية يعزز التحالفات بدلاً من إضعافها عن طريق تقليل الاعتماد على مقدمي الأمن الخارجيين، كما تشدد الخطة أيضًا على التنسيق مع الأمم المتحدة وشركاء دوليين آخرين لتحقيق أهداف أمنية مشتركة، يعكس هذا النهج متعدد الأطراف التزام أوروبا بالنظام الدولي القائم على القواعد، مع الاعتراف بأن توفير الأمن الفعال يتطلب قدرات يمكن نشرها بمرونة عبر أُطُر مؤسسية وسياقات تشغيلية مختلفة ([7]).
الجدول الزمني والمعالم
تحدد الخطة أهدافًا ومعالم واضحة لقياس التقدم نحو تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية، فيعكس الجدول الزمني حتى 2030 الإلحاح في تطوير القدرات المستقلة مع توفير الوقت الكافي لتطوير القدرات وتعزيز القاعدة الصناعية، وتحدد الخطة نتائج ملموسة في مجالات القدرات المختلفة لضمان المساءلة والتقدم القابل للقياس، ينقسم الجدول الزمني إلى أهداف فورية ومتوسطة وطويلة الأجل مع الاعتراف بأن تطوير القدرات المختلفة يتطلب فترات زمنية متفاوتة، تركز الأهداف الفورية على تعزيز القدرات الحالية وسد الفجوات الحرجة بينما تشمل الأهداف المتوسطة تطوير الصناعة والتكنولوجيا في حين تهدف الأهداف طويلة الأجل إلى تحقيق استقلالية دفاعية شاملة في جميع المجالات الرئيسية.
التداعيات الإقليمية والعالمية
تحمل التوجهات الأوروبية الجديدة نحو استراتيجية دفاعية وعسكرية جديدة تداعيات وانعكاسات على مختلف الأصعدة نستعرضها كالآتي:
-
على مستوى العلاقات عبر الأطلسي وديناميكيات الناتو
تحمل مبادرة إعادة التسليح الأوروبية تداعيات كبيرة على العلاقات عبر الأطلسي ومستقبل حلف الناتو كمؤسسة أمنية، فيمكن للقدرات الدفاعية الأوروبية المعززة أن تقلل من مخاوف الولايات المتحدة بشأن تقاسم الأعباء مع تمكين علاقات تحالف أكثر توازناً مبنية على مساهمات القدرات المتبادلة بدلاً من الاعتماد، كما يمكن أن يعزز هذا التطور الروابط عبر الأطلسي من خلال إظهار التزام أوروبا بالأمن الجماعي وتوفير مرونة أكبر في مواجهة التحديات الإقليمية.
وعلى الرغم من ذلك، قد تثير المبادرة توترات إذا تطورت القدرات الأوروبية في اتجاهات تختلف عن التفضيلات الاستراتيجية الأمريكية أو مناهج العمليات. سيكون التنسيق الدقيق بين تطوير القدرات الأوروبية ومتطلبات التوحيد القياسي للناتو ضروريًا لضمان التشغيل البيني والحفاظ على تماسك التحالف. سيعتمد نجاح إعادة التسليح الأوروبية في تعزيز التعاون الأمني عبر الأطلسي بدلاً من تفتيته بشكل كبير على إدارة هذه التحديات التنسيقية.
-
على مستوى البنية الأمنية العالمية