أصبح “أوزجور أوزيل” خلال الفترة الأخيرة من أبرز الشخصيات في الساحة السياسية التركية، فبعد توليه رئاسة حزب الشعب الجمهوري (CHP)، أقدم الأحزاب السياسية في تركيا وأكبرها معارضة، تمكن من الابتعاد عن الممارسات والسياسات التقليدية التي رسخها الحزب – خاصة خلال فترة الرئيس الأسبق للحزب كمال كليتشدار أوغلو – في مواجهاته السياسية ضد حكومات حزب العدالة والتنمية الحاكم. حيث دعا “أوزيل” إلى توجهات جديدة مثلت تغييرات وتحولات استراتيجية لمسيرة الحزب، سعياً إلى حقبة جديدة يستطيع من خلالها كسر هيمنة الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية على السلطة منذ عام 2002، وكذلك لمواجهة التحديات السياسية والاجتماعية التي تواجه البلاد.
تتمحور هذه المقاربات الجديدة حول طموح “أوزيل” إلى قيادة حزب الشعب الجمهوري نحو تحقيق نتائج طموحة في الانتخابات العامة المقبلة والحفاظ على مكتسبات الانتخابات المحلية الأخيرة، مما يُمكن الحزب من تقديم بديل حقيقي لحكم حزب العدالة والتنمية. كما يهدف من خلال رؤيته الشاملة إلى فتح صفحة جديدة في تاريخ السياسة التركية، تكون قائمة على أسس تقاربية وغير صدامية للتطلعات المستقبلية لجميع مكونات الشعب التركي.
صعود “أوزيل” الى رئاسة الحزب
تسببت خسارة الرئيس السابق للحزب، كمال كليتشدار أوغلو، للانتخابات الرئاسية الأخيرة، بجانب التداعيات التي نجمت عنها، في تفكك المعارضة وانهيار تحالف الطاولة السداسية. كما شهدت تلك الفترة اتهامات متبادلة بين قادة المعارضة حول أسباب خسارة الانتخابات العامة، وأبرزها توجيه الرئيسة السابقة لحزب الجيد، ميرال أكنشار،[1] اتهاما إلى كلًا من أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول عن حزب الشعب الجمهوري، ومنصور يافاش، رئيس بلدية أنقرة عن حزب الشعب الجمهوري، بفقدان فرصة هزيمة أردوغان وإطاحته من السلطة، بناءً على موقفهما المتمثل في تأييد ترشيح رئيس الحزب كليتشدار أوغلو للانتخابات الرئاسية. وفي ظل تداعيات خسارة الانتخابات، فقد كذلك “كليتشدار أوغلو” منصبه كرئيس للحزب، بعد فترة ولاية دامت لـ ١٣ عامًا، بعدما استطاع “أوزجور أوزيل” من الإطاحة به بعد جولتين من الانتخابات الداخلية في ٥ نوفمبر 2023 حيث حصل على 812 صوتا من أصل 1366.[2]
ونتيجة لذلك أصبح المشهد السياسي في تركيا يشهد تحولات هامة، حيث أن قوى المعارضة أصبحت تتحرك نحو إعادة هيكلة وتنظيم جديد، كما أن فقدان “كليتشدار أوغلو” لرئاسة الحزب لم يكن مجرد خسارة لشخصه، بل يمثل نقطة تحول في سياق الحزب نفسه، مما سيؤدي إلى تحركات ومقاربات جديدة للقيادة الجديدة للحزب، مما يعكس تحولات أعمق في المشهد السياسي التركي.
مرحلة الانتخابات المحلية
في أول اختبار لأوزيل، نجح حزب الشعب الجمهوري في الفوز في الانتخابات المحلية الأخيرة في مارس الماضي، مما يُعتبر مؤشرًا على قدرات “أوزيل” والقيادة الجديدة، بعد قدرته على الحاق خسارة مدوية لحزب العدالة والتنمية الحاكم. حيث حصل حزب الشعب الجمهوري على نسبة تفوق قليلًا على 37% من مجموع أصوات الناخبين في جميع أنحاء البلاد، وهو ما يزيد بما يقارب 2% عن النسبة التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية. وبذلك يصبح الشعب الجمهوري الحزب الأكبر من حيث عدد الأصوات. ويُعد هذا الإنجاز هو الأول من نوعه منذ عام ١٩٧٧، حيث حقق الشعب الجمهوري أكبر حصة من أصوات الناخبين في أي جولة انتخابية. وبشكل آخر، فقد زادت حصة الشعب الجمهوري بما يقارب 7% من الأصوات مقارنة بما حققه في الانتخابات المحلية عام ٢٠١٩.[3]
المقاربات الجديدة
الحقبة الجديدة لقيادة “أوزجور أوزيل” جاءت برؤية جديدة ومقاربات متطورة للحزب ولقاعدته الشعبية، حيث استهدفت هذه الرؤية استغلال زخم المكاسب الأخيرة التي حققها الحزب في الانتخابات المحلية، بجانب تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية. لتحقيق انطلاقة تطويرية تُمكن الحزب من كسر الحكم المستمر لحزب العدالة والتنمية، وتقديم بدائل فعّالة للناخبين، وتعزيز الثقة بالحزب ودعم الشعب التركي له. ومن خلال ذلك، يسعى الحزب إلى تحقيق تقدم وتطور يُعزز موقعه كقوة سياسية رائدة في البلاد.
(١) اللافتات العربية:
بعد سنوات من الموقف الصارم والمتشدد لحزب الشعب الجمهوري لوجود اللافتات المكتوبة باللغة العربية، والتي يشنها باستمرار رؤساء بلديات الحزب، قدم “أوزيل” مقاربة جديدة تجاه هذه السياسة، حيث أوضح أن احترام اللغة العربية يعود إلى قيمها الدينية والثقافية كلغة مقدسة نزل بها القرآن الكريم، ومن خلال إشارته إلى وجود قانون ينظم حجم اللافتات المكتوبة باللغات الأجنبية، والتي يجب أن لا تتجاوز 25 بالمئة من حجم اللافتات التركية، أظهر “أوزيل” الرغبة في تطبيق هذا القانون بشكل عادل ومتساوٍ على جميع اللغات، دون تمييز، كما أشار الى أنه إذا كانت هذه اللافتات تقدم خدمات للناس بطريقة أكثر فاعلية، فإنه يمكن التسامح مع وجودها. هذا الموقف والمقاربة الجديدة يمكن اعتبارها محاولة من “أوزيل” لتحقيق التوازن بين الاحترام للثقافات الأخرى والمحافظة على هوية الدولة التركية، وبين تلبية احتياجات وتطلعات المواطنين، لكن موقفه بشكل عام أعتبر مقاربة غير مسبوقة في حزب الشعب الجمهوري.[4]
(٢) وضع اللاجئين السوريين:
أصبحت قضية اللاجئين السوريين محورًا للخلافات بين المعارضة والحكومة خاصة خلال مراحل الاستحقاقات الانتخابية الماضية، حيث تركزت مطالب المعارضة على طرد جميع اللاجئين من البلاد دون اعتبار للتداعيات المحتملة على حياتهم وظروفهم، خاصة بالنسبة للاجئين السوريين عند عودتهم إلى سوريا. لكن “أوزيل” اعتمد مؤخرًا موقفًا يربط بين عودة اللاجئين بتوفير أماكن آمنة للعيش فيها، وأنه لا يمكن إعادتهم إلى وطنهم قبل توفير هذه الظروف، وأكد على أهمية التفاوض مع بشار الأسد حول هذا الأمر. كما أشار إلى ضرورة توفير حياة طبيعية للسوريين تتضمن المأوى والعمل والطعام، بدلاً من توفير مساكن خرسانية في مناطق غير صالحة للسكن وترحيلهم إليها. هذه المقاربة استطاع من خلالها “أوزيل” الى التوافق مع رغبات المتعاطفين مع اللاجئين في ضمان مستقبلهم عند عودتهم، وتضامنًا مع المطالبين بخروجهم من الأراضي التركية.[5]
(٣) التمييز ضد العرب:
في الآونة الأخيرة، انتشرت سلسلة من الهجمات العنصرية التي شنها مؤيدو جماعات اليمين المتطرف ضد الأجانب، وبخاصة العرب في تركيا. استنكر “أوزيل” بشدة تلك الهجمات، وندد باستخدام البعض لكلمة “عربي” باعتبارها “سُبة”، مشيرًا إلى أن هناك أكثر من ستة ملايين مواطن تركي، لغتُهم الأم هي اللغة العربية، وعليه يجب احترامهم. لأن مثل هذه التصرفات غير المسؤولة، تسبّب لهم الأذى النفسي، وحذر من خطورة الانزلاق نحو استخدام خطاب تمييز ضد العرب، نظرًا للانعكاسات السلبية التي يمكن أن تطال الأتراك من أصول عربية، والتي قد تمثل تهديدًا للسلم الاجتماعيّ.[6]
(4) التعاون مع أردوغان:
“أوزيل” قدم مقاربة جديدة أيضًا حول العلاقة بين المعارضة والحكومة، بإعلانه عن استعداده للتعامل المباشر مع رئيسَي حزبي الائتلاف الحاكم، الرئيس أردوغان ودولت بهتشلي، حيث أعرب عن رغبته في إجراء حوار يستند إلى المنطق والعقلانية معهما، لمناقشة سياسات الحكومة وتعاطيها مع العديد من الملفات المتعلقة بالأمن والاقتصاد والسياسة الخارجية، بالإضافة إلى مسألة إعداد دستور جديد للبلاد. وأثار هذا الإعلان ردود فعل متباينة، حتى أنّ كمال كليتشدار أوغلو، الرئيس السابق للحزب، أدلى بتصريح شديد اللهجة، معتبرًا أن القصر الرئاسي يجب أن يُحارب، ولا يجب التفاوض معه. لكن “أوزيل” عقد اللقاء الذي يعدّ الأول منذ 8 سنوات بين الرئيس وزعيم المعارضة، بمقر حزب العدالة والتنمية الحاكم في أنقرة، وحملت أجندة اللقاء 8 بنود رئيسية[7]، هي: ارتفاع تكاليف المعيشة والأزمة الاقتصادية بالبلاد، وزيادة رواتب المتقاعدين، وزيادة الحد الأدنى للأجور، ومشكلة تعيين آلاف المعلمين، وإلغاء المقابلات الشخصية قبل التعيين في الوظائف الحكومية، وزيادة موارد الدخل للبلديات التي تعاني مشاكل بسبب ديونها، والمشروعات الحيوية للبلديات التي تنتظر موافقة الحكومة المركزية، إلى جانب ملف معتقلي أحداث «غيزي بارك» والمشاكل التي يعانيها القضاء التركي.
ما الذي يسعى إليه “أوزيل”؟
يسعى “أوزيل” من خلال استراتيجيات جديدة ورؤية متجددة إلى تحقيق عدة أهداف، منها تعزيز فرص نجاح الحزب في الانتخابات العامة القادمة المقرر إجراؤها في عام 2028 وتعزيز مكانته في الساحة السياسية التركية، كما يهدف أيضًا إلى كسر الهيمنة السياسية لحزب العدالة والتنمية وتقديم بدائل جذابة للناخبين، خاصة بين الأوساط المحافظة التي أصبحت تستنكر سياسات الحزب الحاكم، خاصة فيما يتعلق بملفات السياسة الخارجية.
بالإضافة إلى ذلك، يسعى “أوزيل” إلى حل الأزمة السورية بشكل مستدام، من خلال تقديم حلول شاملة تسهم في عودة السوريين بأمان وتوفير الظروف الكريمة لحياتهم في بلادهم. وفي هذه المقاربة، يحاول “أوزيل” معالجة أحد أهم قصور أحزاب المعارضة التركية، والتي فشلت في تقديم مقاربات طموحة على صعيد السياسة الخارجية وكيفية التعامل مع أزماتها.
كذلك، سعى “أوزيل” إلى تخفيف التوترات الاجتماعية ومكافحة التمييز والعنصرية في المجتمع التركي، نتيجة للسياسات التي رسخها أنصار اليمين المتطرف، كما أظهر استنكاره الشديد للهجمات العنصرية ضد الأجانب، وخاصة العرب في تركيا، مما عكس التزامه بقيم العدالة وحقوق الإنسان، والتي رسمت أبعاد شخصية قيادية طموحة لكافة أطياف المجتمع التركي.
تهدف تلك الاستراتيجيات الجديدة إلى إظهار تحولًا جذريًا عن سياسات الحزب القديمة، وتقديم مسارات بديلة لها، مع التركيز على القطيعة مع الفترة التي قادها كليتشدار أوغلو. كما مثلت تلك الرؤى الجديدة أيضًا تهديدًا لطموحات أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول وأحد القادة البارزين في حزب الشعب الجمهوري، الذي يطمح للترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، باستخدام نفس تكتيكات القيادة السابقة للحزب.
وختامًا:
أصبح “أوزجور أوزيل” يُعد رمزًا للتجديد والتغيير داخل حزب الشعب الجمهوري بشكل خاص والمعارضة بشكل عام، فمن خلال مقارباته المبتكرة ورؤاه الجديدة، نجح “أوزيل” في تحفيز وتنشيط الحزب والمعارضة، وذلك بشكل عكس تمسكه بتلبية تطلعات الشعب التركي ومواجهة التحديات السياسية والاجتماعية بكفاءة وفعالية. كما نجح “أوزيل” في استقطاب الانتباه، مما يبرز أهمية اتجاهاته وتطلعاته في الميدان السياسي.
في هذا السياق، تُعتَبَر المقاربات الجديدة التي يُمثلها “أوزيل” داخل حزب الشعب الجمهوري خطوة مهمة نحو تعزيز الاستقرار والتنمية في تركيا، ومع تعهده بالمزيد من الابتكار والتطوير داخل صفوف حزبه، يمكن توقع مستقبل واعد لحزب الشعب الجمهوري وللمشهد السياسي التركي بشكل عام.
المصادر:
[1] أكشنار تفتح النار على المعارضة التركية.. هل أغلقت أبواب التحالف بالانتخابات البلدية؟، عربي ٢١، ٢٨/٨/٢٠٢٣، متاح على: https://2u.pw/6Nhtu9Tq.
[2] أوزغور أوزيل.. الرئيس الثامن لحزب الشعب الجمهوري التركي، الجزيرة نت، ٩/١٢/٢٠٢٣، متاح على: https://2u.pw/LtFHd597.
[3] المحليات التركية: مكاسب جديدة للمعارضة من الاضطراب المتواصل للائتلاف الحاكم، مركز الجزيرة للدراسات، ٣/٤/٢٠٢٤، متاح على: https://2u.pw/g3tMm6sL.
[4] اللافتات العربية في تركيا.. لماذا تغير خطاب المعارضة بشأن اللاجئين؟، الشرق للأخبار، 18/5/2024، متاح على: https://2u.pw/x9YM9Eqo.
