تُسلِّطُ زيارةُ الشيخ عمرو بن حبريش، رئيس حلف قبائل حضرموت، إلى الرياض، في أواخر مارس 2025، الضوْءَ على تحرُّكٍ سعوديٍّ مدروسٍ نحْو تعزيز حضورها السياسي والأمني في شرق اليمن، إذ التقى بن حبريش – خلال الزيارة – بعددٍ من كبار المسؤولين، كان أبرزهم وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، وقائد القوات المشتركة الفريق الركن فهد بن حمد السلمان، في لقاءاتٍ، وصفت بأنها إستراتيجية، ناقشت مستقبل الشراكة مع الحلف، وبحثت سُبُل تثبيت الأمن وتعزيز التنمية في محافظة حضرموت، كما عكست هذه اللقاءات استعدادًا سعوديًّا للتعامُل مع القوى المحلية الصاعدة خارج أُطُر السلطة الرسمية، وفي مقدمتها حلف القبائل بقيادة بن حبريش.
وتُشير المعطيات المتوفرة إلى أن زيارة بن حبريش هدفت إلى فرْض الحلف كطرفٍ مهمٍ في المعادلة اليمنية، وكسْر الجُمُود مع السلطة المركزية ممثلة بمجلس القيادة الرئاسي، كما نتج عن هذه الزيارة تفاهمات معلنة، أبرزها إنشاء محطة كهرباء بقدرة 500 ميجاوات بتمويلٍ سعوديٍّ مباشر،[1] كاستجابةٍ لمطالب حضرمية مزمنة تتعلق بالبنية التحتِيَّة.
جاء هذا التحرُّك في توقيتٍ بالغ الحساسية؛ حيث تتزايد حِدَّة التنافس السياسي والعسكري على محافظة حضرموت بين المجلس الانتقالي الجنوبي من جهة، ومجلس القيادة الرئاسي من جهة أخرى، في ظلِّ أزمةٍ مؤسسيةٍ ملحوظةٍ وتضارُبٍ في مشاريع الحُكْم والتمثيل السياسي، بينما يسعى حلف قبائل حضرموت إلى ترسيخ نفسه كقوة محلية مستقلة تطرح مشروعًا للحُكْم الذاتي، وتعمل على تأسيس ذراعٍ عسكرية تحت مُسمَّى “قوات حماية حضرموت”، في مشهدٍ يعكس تعقيدات الواقع اليمني وتفتُّت سلطاته المركزية.
السياق السياسي والقبلي لحضرموت
في فهْم تحرُّكات الحلف ووزن حضرموت، لا يمكن فصْل الأبعاد الجغرافية والاجتماعية عن السياق السياسي الأوسع؛ حيث تُعدُّ محافظة حضرموت من أكثر المناطق تأثيرًا في المشهد اليمني، ليس فقط لمساحتها الجغرافية التي تتجاوز ثلث مساحة البلاد، ولا لما تختزنه من ثروات نفطية ومعدنية هائلة، بل أيضًا لموقعها الإستراتيجي على بحر العرب، الذي يجعلها همزة وصْلٍ بين اليمن ودول الخليج، ويمنحها بُعْدًا إقليميًّا بالغ الحساسية، كما أن تركيبتها القبلية شديدة التداخُل مع الدولة المركزية، ومع الأطراف الإقليمية الفاعلة؛ ما يجعلها نموذجًا مُصغَّرًا لصراع الإرادات والنفوذ داخل اليمن
وفي ظلِّ هذا الواقع المُعقَّد، برز حلف قبائل حضرموت الذي تمَّ تأسيسه، في يوليو عام 2013، ككيانٍ “اجتماعي – سياسي” استطاع أن يتحوَّل من إطارٍ قبليٍّ تقليديٍّ إلى فاعلٍ سياسيٍّ يطمح إلى إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع المحلي، وقد لعبت شخصية بن حبريش دورًا محوريًّا في هذا التحوُّل، مستندًا إلى شرعيةٍ قبليةٍ عريقةٍ، وموقعٍ إداريٍّ مؤثرٍ، وقدرةٍ على بناء تحالُفاتٍ إقليميةٍ، وعلى رأسها الشراكة مع السعودية.
في المقابل، لم يكن صعود الحلف معزولًا عن تحوُّلاتٍ أعمق في المزاج العام داخل حضرموت؛ حيث باتت قطاعات واسعة من السكان تميل إلى خيارات الحكم المحلي، باعتبارها الطريق الأنسب لفكِّ الاشتباك مع الصراعات المركزية، والاقتراب من إدارة الشأن اليوميِّ، وفقًا لأولويات السكان، لا أولويات الأطراف المتصارعة، وقد أفرزت تجربة الأزمة اليمنية حالةً من الإحباط العام تجاه الأُطُر الوطنية التقليدية؛ ما جعل من الحلف، ومن علاقته المتقدمة مع الرياض، إطارًا بديلًا يمكن البناء عليه كنموذجٍ شِبْه مستقرٍّ ضمن مشهدٍ وطنيٍّ مُتَشَظٍّ.
ورغم صعود الحلف وتنامِي نفوذه، فإن مشروعه يواجه تحديات داخلية وخارجية؛ إذ تتصاعد الأصوات الناقدة داخل النسيج القبلي، متهمةً بن حبريش بالتفرُّد في القرار والهيْمنة على الحلف وتوجيهه نحو أجندةٍ سياسيةٍ ضيقةٍ، كما يواجه الحلف ضغوطًا متزايدةً من المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يرى في طرْح الحُكْم الذاتي لحضرموت تهديدًا لمشروعه السياسي في الجنوب؛ ما يضع تحرُّكات بن حبريش في اختبارٍ دائمٍ أمام توازُنات دقيقة وتحالفات متقلبة.[3]
ومن هنا، تكتسب زيارته للرياض أهميتها بوصفها اختبارًا لقدرة الحلف على تجاوز الطابع المحلي والقبلي، والدخول في مسار شراكةٍ إقليميةٍ أوسع، تتيح له لعب دور في مستقبل الترتيبات السياسية والأمنية في شرق اليمن، في وقتٍ تتراجع فيه قدرة الدولة المركزية على احتواء المشهد، وتُفتحُ فيه الأبواب أمام كيانات محلية تفرض نفسها على الأرض وتحظى باعترافٍ إقليميٍّ متزايدٍ.
الرؤية السعودية ومسار التمكين الناعم
يمثّل التحرُّك السعودي تجاه حلف قبائل حضرموت امتدادًا لتحوُّل أوسع في الإستراتيجية السعودية تجاه الملف اليمني، والذي بات يُفضِّلُ خفْض الانخراط العسكري المباشر لصالح تمكين قوى محلية قادرة على ضبط الأمن وخلق استقرار وظيفي دون تكلفة سياسية أو ميدانية مرتفعة.
وفي هذا الإطار، تُعدُّ حضرموت خيارًا جذَّابًا، فهي محافظة بعيدة عن خطوط المواجهة، مستقرة نسبيًّا، وتتمتع ببنيةٍ اجتماعيةٍ يمكن التعامل معها، عبر منظوماتٍ قبليةٍ متماسكةٍ تتفادى الفوضى الأمنية التي تعاني منها مناطق أخرى.
كما أن قيادة حضرموت، ممثلة في حلف القبائل وبشخصية بن حبريش، تُقدِّمُ نفسها كشريكٍ محليٍّ يمكن التعويل عليه؛ بفضل شرعيته المجتمعية، وقدرته على طرْح خطاب سياسي متماسك، لا يصطدم بشكلٍ مباشرٍ مع المركز، ولا ينخرط كليًّا في مشاريع الانفصال، وعليه تمنح هذه المعادلة الرياض فرصةً لبناء شراكةٍ مَرِنَةٍ في شرق اليمن، دون أن تُتهم بالتدخُّل أو تشكيل أذرع ميدانية على حساب السلطة الرسمية، خصوصًا أن المملكة تحرص على الإبقاء على توازُن علاقتها مع كافَّة الأطراف اليمنية؛ بما في ذلك مجلس القيادة الرئاسي.
ويُلاحظ أيضًا، أن الرؤية السعودية في حضرموت ليست مُجرَّد استجابة لحالة محلية طارئة، بل تندرج ضمن توجُّهٍ إقليميٍّ أوسع قائمٍ على تمكين النماذج القابلة للإدارة، بعيدًا عن منطق إعادة إنتاج المركزية الفاشلة، كما تعكس هذه المقاربة حِرْصًا على استباق الفراغات الأمنية التي قد تنشأ مع أي تسوية سياسية غير شاملة، من خلال دعْم قُوى محلية مأمونة وذات قاعدة اجتماعية.
وفي هذا السياق، تبدو حضرموت بالنسبة للرياض بمثابة ركيزة توازنٍ، يمكن عبْرها تحقيق معادلة “الاستقرار بلا انغماس”، وهو ما قد يتحوَّلُ إلى صيغةٍ مستدامةٍ لإدارة المرحلة الانتقالية في اليمن.
ومن هذا المنظور، فإن الدعم السعودي لحلف قبائل حضرموت لا يندرج في إطار إعادة تشكيل الخريطة اليمنية، بل يتَّخذُ شكْل “التمكين الناعم”، الذي يقوم على دعْم القوى المحلية القادرة على توفير الاستقرار، دون تجاوز الخطوط الحمراء المتعلقة بوحدة اليمن، أو فرْض ترتيبات أُحادية الجانب، ويعكس هذا النَّهْج السعودي الحفاظ على توازنٍ محسوبٍ في علاقاتها مع شركاء إقليميِّين آخرين دون الدخول في مزاحمات مباشرة.
مشروع الحكم الذاتي: بين التصوُّر الواقعي والقيود البنيوية
بالرغم من الخطاب المتماسك الذي يقدِّمُه حلف قبائل حضرموت بشأن مشروع الحُكْم الذاتي، والدعم الشعبي الذي يحظى به في أوساطٍ واسعةٍ من المجتمع الحضرمي، إلَّا أن المشروع لا يزال يصطدم بجملةٍ من العوائق البنيوية والسياسية التي تقف حائلًا دون تحوُّلِه إلى واقعٍ فِعْلِيٍّ؛ حيث يستند الحلف في طرْحه إلى واقعٍ تاريخيٍّ من التهميش الإداري والسياسي الذي عانت منه حضرموت، كما يعوِّلُ على الاستقرارِ النِّسْبِيِّ في المحافظة، والبِنْية الاجتماعية المتماسكة؛ لطرْح صيغة حُكْمٍ محليٍّ مُوسَّعٍ تُمكِّنُ الحضارم من إدارة شؤونهم بمعزلٍ عن المركز، دون الخروج على الدولة.
إلَّا أن هذا الطموح يصطدم بمحدودية داخلية تتعلق بغياب التوافُق بين مُكوِّنات الحلف، والانقسام الجغرافي والسياسي بين مناطق الساحل والوادي، فضْلًا عن تمايُز في الأولويات بين القوى المحلية؛ ما يُضعف من قدرة الحلف على تقديم نفسه كممثلٍ جامع لكل أبناء المحافظة، كما يواجه الحلف تحديات تنظيمية واضحة، أهمها ارتكاز القرار على شخصية الشيخ عمرو بن حبريش دون وجود هيكلٍ مؤسسيٍّ فاعلٍ، أو إطارٍ “مدني – سياسي” يمكنه تحويل المطالب إلى مشروعٍ إداريٍّ مستدامٍ.
ويتجلّى ذلك في مشروع “قوات حماية حضرموت”، الذي يفتقر حتى الآن إلى آليات شفَّافة للتجنيد والتوزيع؛ ما يثير مخاوف من تكرار نماذج أمنية مناطقية سابقة، فشلت في تحقيق الاستقرار، وأسهمت في الانقسام الداخلي بدلًا من معالجته.
على المستوى الإقليمي والدولي، لا يحظى مشروع الحُكْم الذاتي بدعمٍ مُعْلَنٍ، بل يواجه قدْرًا من التحفُّظ؛ خشية أن يُشكِّلَ سابقةً قد تُكرَّر في محافظات أخرى، مثل “المهرة أو شبوة”، ما يُعقِّدُ مهمة الحفاظ على وحْدة اليمن، وتبدو الأمم المتحدة متمسكةً – تمامًا – بالمرجعيات الدولية، وعلى رأسها القرار 2216، الذي يضع أيَّ ترتيباتٍ سياسيةٍ ضمن إطارٍ وطنيٍّ شاملٍ.
أمَّا السعودية، ورغم انفتاحها على الحلف، فإنها تتبنَّى مقاربةً أكثر براغماتية، تقوم على تعزيز الحضور المحلي في حضرموت دون المساس بالصيغة الوطنية، ويندرج هذا النَّهْج ضمن ما يمكن وصفه بـ”التمكين الناعم”؛ حيث تُفضِّلُ الرياض دعْم قُوى محلية قادرة على إدارة شؤونها وتوفير الأمن، دون فرْض ترتيبات أُحادية أو تقديم نفسها كراعٍ لانفصالٍ غير مُعْلَنٍ؛ ما يتيح لها الحفاظ على استقرار المنطقة وتوازن علاقتها مع مختلف الفاعلين اليمنيِّين.
آفاق مستقبلية
وهكذا، تُشير زيارة الشيخ عمرو بن حبريش إلى الرياض إلى ما هو أبعد من مجرَّد محطةٍ بروتوكولية؛ إذ جاءت ضمن مسارٍ مدروسٍ لإعادة ترتيب موازين القوى في شرق اليمن، في سياقٍ تتقاطع فيه الديناميات المحلية مع مقاربات إقليمية تسعى إلى دعْم نماذج حُكْمٍ أكثر استقرارًا ومرونةً.
وفي هذا الإطار، تبرز محافظة حضرموت بوصفها مساحة اختبارٍ أولية لمدى قدرة الفاعلين المحليِّين على الانتقال من موقع الاحتجاج والمطالبة إلى موقع الشراكة وصياغة البدائل السياسية.
وفي ظلِّ الانكماش المتزايد لدور الدولة المركزية، يواصل حلف قبائل حضرموت تعزيز حضوره كأحد أبرز الفاعلين المحليِّين، مستندًا إلى توازنٍ دقيقٍ بين شرعية اجتماعية صلبة وطموحات سياسية متصاعدة، إلَّا أن مسار الحلف لا يبدو مفروشًا بالضمانات؛ إذ تتداخل في تجربته عناصر القوة والقصور، كما تتقاطع مصالحه مع حسابات إقليمية أخرى لا تقلُّ تعقيدًا عن الوضع الداخلي.
على المدى القريب، يسعى حلف قبائل حضرموت إلى توسيع حضوره الميداني، عبْر بناء مؤسسات أمنية وخدمية تُكرِّسُ واقعًا إداريًّا جديدًا، مستفيدًا من الانفتاح الإقليمي، لا سيما مع السعودية، أمَّا على المدى المتوسط، فقد يسعى إلى ترسيخ مكانته في أيِّ تسوية سياسية مرتقبة كممثلٍ لمشروع حُكْمٍ محليٍّ قابلٍ للتكرار في بيئات مشابهة، ومع تراجع قدرة المركز على فرْض رؤيته وتزايد الاعتماد على الفاعلين المحليين، قد تُشكِّلُ حضرموت مساحةً عمليةً لتفعيل نماذج لا مركزية مرنة.
غير أن هذا السيناريو يظلُّ مشروطًا بثلاثة عوامل حاسمة: قدرة الحلف على تجاوز تناقضاته الداخلية، واستمرارية الانفتاح السعودي ضمن إطارٍ وطنيٍّ لا يصطدم مع شركاء آخرين، وتطور موقف المجتمع الدولي من صيغ الإدارة المحلية في اليمن، وما بين هذه الاعتبارات، تبقى حضرموت ساحةً مفتوحةً لإعادة تشكيل معادلات النفوذ، ليس فقط في الشرق اليمني، بل في كامل البنية السياسية للدولة اليمنية في المستقبل.
