المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > تقدير موقف > إعلانُ أوجلان: التحولاتُ المحتملةُ في المشهدِ التركيِ-الكرديِ
إعلانُ أوجلان: التحولاتُ المحتملةُ في المشهدِ التركيِ-الكرديِ
- مارس 3, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات تقدير موقف وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات

إعداد: أماني السروجي
باحث مساعد في برنامج دراسات الدول التركية
شهدتْ الساحةُ السياسيةُ التركيةُ تطورًا لافتًا مع إصدار عبد الله أوجلان، زعيمِ حزبِ العمالِ الكردستاني المسجون في تركيا، بيانًا دعا فيه إلى حلِّ الحزب وإلقاء السلاح، في خطوةٍ غير مسبوقةٍ قد تُعيدُ تشكيلَ المشهد السياسي والأمني في تركيا والمنطقة، ويأتي هذا الإعلان بعد عقود من الصراع بين الحزب والدولة التركية، والذي أسفر عن آلاف الضحايا وأسهم في تعقيد العلاقات التركية-الكردية.
أثارت هذه الدعوة جدلًا واسعًا؛ إذ رحبت بها الحكومة التركية وقطاعات من الرأي العام التركي، بينما قوبلت بحذرٍ من بعض الأوساط الكردية التي شككت في جدواها وإمكانية تنفيذها على أرض الواقع، ويطرحُ هذا التطورُ تساؤلاتٍ جوهريةً حول تداعياته المحتملة على تركيا، سواء على المستوى السياسي الداخلي، أو الأمني والعسكري، أو الاقتصادي، فضلًا عن انعكاساته على علاقات أنقرة الإقليمية والدولية.
في هذا التقرير، سيتم تحليل أبعاد هذه الدعوة، واستعراض السيناريوهات المحتملة، مع تسليط الضوء على التحديات التي قد تعيق تنفيذها على أرض الواقع.
أولًا: تحليلُ مضمونِ الخطاب:
السياق العام للخطاب
في 27 فبراير 2025، وجّه عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) ، دعوةً تاريخيةً إلى حزبه لإلقاء السلاح وحلّ نفسه، تم نقل رسالته عبر وفدٍ من حزب “المساواة والديمقراطية” الذي زاره في سجنه بجزيرة إمرالي، وتأتي هذه الدعوة في إطار مبادرة سلام أطلقها دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية وشريك الرئيس رجب طيب أردوغان في الائتلاف الحاكم، في أكتوبر 2024، بهدف إنهاء صراع دام أربعة عقود وأسفر عن مقتل أكثر من 40 ألف شخص.
المحاورُ الأساسيةُ للخطابِ
يعكسُ خطابُ أوجلان تحولًا جوهريًا في رؤيته لدور حزب العمال الكردستاني ومستقبله، حيث أشار إلى نشأةِ الحزبِ في ظلّ حقبةِ القرنِ العشرين التي تميزت بالحروب العالمية والاشتراكية الواقعية والحرب الباردة، مع قمع الحريات وإنكار الهوية الكردية، وتأثر بالاشتراكية الواقعية، وأقرَ بأن التغيراتِ السياسيةَ في تركيا، لا سيَّما بعد التسعينيات، جعلتْ استمرارَ الحزبِ بصيغته المسلحة أمرًا غير ذي جدوى.
ويعزز أوجلان طرحه من خلال استدعاء العلاقة التاريخية بين الأتراك والأكراد، مشيرًا إلى أن الأتراكَ والأكرادَ تعايشوا لأكثر من ألف عام في تحالف طوعي، لكن الحداثة الرأسمالية والتوجهات القومية للجمهورية التركية أدت إلى تفكيكه، بهذا، يحاولُ الخطابُ إعادةَ صياغة العلاقة بين الطرفين في إطارٍ جديدٍ يعتمدُ على الديمقراطية والتعايش السلمي بدلًا من النزاعات المسلحة أو الحلول القومية المتطرفة، مثل الانفصال أو الفيدرالية، وأكد أوجلان على أن أيَّ حلٍ مستدامٍ للقضية الكردية يجبُ أن يقومَ على التوافقِ الديمقراطي وليس على الصراعات المسلحة أو الانفصال.
وتضمّنَ الخطابُ دعوةً مباشرةً لإنهاءِ الكفاح المسلح وحلِّ حزب العمال الكردستاني، متأثرًا بالمناخ السياسي التركي الحالي، خصوصًا دعوة دولت بهتشلي وموقف الرئيس أردوغان، كما عكست الدعوة إدراكًا من أوجلان بأن المسار العسكري أصبح عبئًا سياسيًا أكثر منه ورقة ضغط، في ظل تغيّر أولوياتِ القوى الإقليمية والدولية، كما أن تأكيدَه على الديمقراطية كسبيلٍ وحيدٍ للحل ينسجمُ مع السياقات العالمية الحديثة، حيث باتت الحركات المسلحة التي تفقد مشروعيتها السياسية مضطرة إما للاندماج في العملية السياسية أو التفكك.
أبعادُ الخطابِ ودلالاتهِ
البعدُ السياسي: يتزامنُ الخطابُ مع إشاراتٍ إيجابيةٍ من القيادة السياسية التركية نحو إمكانية فتح مسار جديد للحل السياسي، وهو ما قد يكون مرتبطًا باستعداداتٍ سياسيةٍ داخليةٍ أو تفاهماتٍ إقليميةٍ، ومن خلال دعوته لحل حزب العمال الكردستاني وإلقاء السلاح، يسعى أوجلان إلى تأكيد دوره كفاعل سياسي رئيسي ومؤثر، رغم وجوده في السجن منذ عام 1999، وهو ما يعكس رغبته في إعادة تشكيل مستقبل العلاقات التركية-الكردية عبر السبل السلمية والسياسية.
البعدُ الأيديولوجُي: يعكسُ الخطابُ تحولًا ملحوظًا في الأيديولوجية التي يتبناها حزب العمال الكردستاني، فبعد أن تأسسَ الحزبُ على أسسِ الماركسية اللينينية في سبعينيات القرن الماضي، يشير الخطاب إلى تبنّي مقاربةٍ أكثر ديمقراطية ومدنية، وهذا التحول يمكن تفسيره في ضوء التغيرات السياسية الإقليمية والدولية، حيث أصبحتْ الحلولُ السياسيةُ والديمقراطيةُ أكثرَ فعاليةً وجدوى مقارنة بالكفاح المسلح، كما يتماشى هذا التوجه مع مفهوم “الأمة الديمقراطية” الذي طرحه أوجلان، والذي يهدف إلى تعزيز التعددية والتعايش السلمي بين مختلف المكونات الثقافية داخل إطار ديمقراطي لا مركزي.
البعدُ الإستراتيجيُ: يضع أوجلان المسؤولية على حزب العمال الكردستاني لاتخاذ قرار الحل الذاتي، مما يفتح الباب أمام احتمالات متعددة داخل الحزب، قد يؤدي هذا إلى انقسامات بين مؤيدين للحل السلمي ومعارضين له، خاصة بين القيادات الميدانية المتمركزة في جبال قنديل، التي قد لا تكونُ متحمسةً لحلّ التنظيمِ والتخلّي عن الكفاح المسلح، مما سيجعلها تواجهُ ضغوطًا متزايدةً للانخراط في العملية السياسية، مما قد يُعيدُ تشكيلَ هيكليةِ الحزبِ واستراتيجيته المستقبلية، بالإضافة إلى ذلك، قد يشكّل الخطاب ضغطًا على الحكومة التركية للاستجابة بشكلٍ إيجابيٍ لهذه المبادرة، وفتْحَ قنواتِ حوارٍ جادةٍ تسهم في تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.
ثانيًا: أبرزُ ردودِ الفعل الداخلية والخارجية:
ردودُ الفعلِ المحليةِ في تركيا:
-
الرئيس التركي اردوغان: أكد أن تركيا دخلت “مرحلةً جديدةً في جهود إخلاء البلاد من الإرهاب”، مشيرًا إلى أن إزالة ضغط الإرهاب والسلاح سيوسّعُ من مساحة السياسة الديمقراطية في البلاد، كما حذر من أي “استفزازات” قد تُعرقلُ عمليةَ السلامِ، مؤكدًا أن الحكومة ستراقب عن كثب لضمان نجاح المحادثات وإنهاء التمرد.
-
حزبُ العدالةِ والتنمية الحاكم: أعربَ المتحدثُ باسمِ الحزبِ عمر تشيليك، عن ضرورة حل جميع الفصائل المرتبطة بـ PKK، بما في ذلك وحدات حماية الشعب (YPG) وحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) في سوريا. وأشار إلى أن الحكومة لن تدخل في مفاوضات مع PKK، مؤكدًا على الحاجة إلى نزع سلاح جميع الجماعات المرتبطة به.
-
اللجنةُ التنفيذيةُ لحزبِ العمال الكردستاني: أصدرتْ اللجنةُ بياناً أوضحت فيه اتفاقها مع مضمون دعوة أوجلان كما هي، وأكدت التزامها بتنفيذ متطلبات الدعوة، وأعلنتْ وقْفَ إطلاقِ النار اعتبارًا من يوم السبت 1مارس، وأكدت على أنه لكي تنجحَ العمليةُ السياسية “يجب أن تكون السياسات الديمقراطية والأسس القانونية مناسبة أيضًا”.
-
حزبُ الشعبِ الجمهوريِ المعارض (CHP): أكد رئيس الحزب، أوزغور أوزال، على أهميةِ معالجةِ القضيةِ الكردية بشفافيةٍ داخلَ البرلمان التركي، معتبراً أن دعوة أوجلان خطوة مهمة نحو تحقيق هذا الهدف.
-
حزبُ الحركةِ القوميةِ (MHP): أشادَ زعيمُ الحزب، دولت بهجلي، بالدعوة، معتبراً إياها فرصة تاريخية لإنهاء الصراع المستمر منذ عقود.
-
حزبُ الخير (IYI): انتقدَ رئيسُ الحزبِ، موسافات درفيش أوغلو، الدعوة، واصفاً إياها بأنها “مناورةٌ سياسيةٌ” تهدف إلى تحقيق مكاسب معينة.
ردود الفعل الإقليمية:
إقليمُ كردستان العراق: أعربَ رئيس الإقليم، نيجيرفان بارزاني، عن دعمه الكامل للدعوة، مؤكداً استعداد الإقليم لتقديم المساعدة في تسهيل عملية السلام.
قواتُ سوريا الديمقراطية (SDF): رحّبَ قائدُ القواتِ، مظلوم عبدي، بالدعوة، مشيراً إلى أنها تخص حزب العمال الكردستاني فقط وليستْ مرتبطةً بالقوات في سوريا، وقال أنه إذا كان هناك سلامٌ في تركيا فلن يكونَ هناك عذرٌ لمواصلةِ مهاجمتهم في سوريا.
العراق: رحّبتْ وزارةُ الخارجية العراقية بالدعوة، واصفةً إياها بأنها “خطوةٌ بالغةُ الأهميةِ نحو تعزيز الأمن”، مشيرة إلى أن هذه المبادرة ستُسهمُ في استقرار العراق والمنطقة بأسرها.
ردودُ الفعلِ الدوليةِ:
ألمانيا: رحّبتْ المستشارةُ الألمانية، أولاف شولتز، بالدعوة، معتبرةً إياها فرصةً لإنهاءِ الصراعِ وتحقيقِ سلامٍ دائمٍ، مع التأكيد على ضرورة احترام حقوق الأكراد الثقافية والديمقراطية.
المملكةُ المتحدةُ: أشادتْ الحكومةُ البريطانية بالدعوة، داعيةً جميعَ الأطراف إلى الانخراطِ في عمليةٍ سلميةٍ وبناءةٍ تضمن الأمن والاستقرار واحترام سيادة القانون.
الولاياتُ المتحدة الأمريكية: رحبت وزارة الخارجية الأميركية بهذه الدعوة، معتبرة إياها فرصة لإنهاء الصراع المستمر منذ أربعة عقود. ودعتْ جميعَ الأطرافِ إلى الانخراطِ في عمليةٍ سلميةٍ وبناءةٍ تضمنُ الأمنَ والاستقرارَ واحترام سيادة القانون.
كما صرّحَ المتحدثُ الرسمي باسمِ مجلس الأمن القومي الأمريكي، بريان هيوز، بأن “هذا تطورٌ مهمٍ ونأملُ أن يساعدَ في تطمين حلفائنا الأتراك بشأن شركاء الولايات المتحدة في مكافحة تنظيم داعش بشمال شرق سوريا”، وأضاف أن هذه الخطوة “ستساعد في إحلال السلام في هذه المنطقة المضطربة”، في إشارةٍ إلى أهميةِ الاستقرارِ الإقليمي وانعكاساتِه على المصالح الأمريكية.
ثالثًا: أبرزُ الانعكاساتِ المحتملةِ للدعوة على تركيا
1- الانعكاساتُ على المشهدِ السياسيِ والأمنيِ في تركيا
تشكّلُ دعوةُ عبد الله أوجلان لإلقاءِ السلاحِ وحلِّ حزبِ العمالِ الكردستاني تحولًا جذريًا في الصراع الكردي-التركي، ما قد يسهمُ في إعادةِ تشكيلِ المشهد السياسي الداخلي في تركيا، فمن ناحيةٍ، يمكنُ لهذه المبادرة أن تفتحَ المجالَ أمامَ تسويةٍ سياسيةٍ جديدةٍ، حيث قد تجدُ الحكومةُ التركية في هذه الدعوة فرصة لتعزيز استراتيجيتها في إدارة القضية الكردية عبر القنوات السياسية بدلًا من الحلول الأمنية والعسكرية.
يمكنُ للحكومةِ التركيةِ تصوير خطاب أوجلان باعتباره انتصارًا لسياستها الأمنية والعسكرية ضد حزب العمال الكردستاني (PKK)، فالضغط العسكري والسياسي المستمر على الحزب يمكن أن يُسوَّق على أنه السببُ في دفْعِ أوجلان إلى الحديث عن التفاوض أو الحل السلمي، مما يعزز سردية الحكومة بأنها استطاعتْ إضعافَ التنظيمِ من خلال عملياتها العسكرية.
قد تستخدمُ الحكومةُ هذا الخطابَ لوضعِ حزب الشعوب الديمقراطي في موقفٍ سياسيٍ صعبٍ، حيث سيجد نفسه بين تأييد دعوة أوجلان والتعرض لاتهامات بالتقارب مع PKK، أو رفضها وخسارة جزء من القاعدة الكردية، كما أن المعارضة التركية بشكل عام قد تجدُ صعوبةً في تحديدِ موقفٍ واضحٍ، مما قد يُضعفُ قدرتَها على استثمار الملف الكردي لصالحها في الانتخابات المقبلة.
على المستوى الأمني، إذا تمت الاستجابة للدعوة، فمن المحتمل أن يؤديَ ذلك إلى انخفاضِ العملياتِ المسلحةِ داخل تركيا، مما يساهم في تحسين الأمن والاستقرار، خاصة في المناطق الجنوبية والشرقية حيث تركزت الاشتباكات خلال العقود الماضية، ومع ذلك، يظل هذا السيناريو مشروطًا بمدى قبول الفصائل المسلحة داخل حزب العمال الكردستاني لهذه الدعوة، إذ إن أيَّ انقساماتٍ داخل الحزب قد تؤدي إلى استمرار بعض العمليات المسلحة من قبل مجموعات رافضة للحل.
كما أنه في حالِ حدوثِ انقساماتٍ يمكن أن تحاولَ تركيا استغلالَ هذا الانقسام لتقويض نفوذ قيادات قنديل، من خلال فرض مزيد من الضغوط العسكرية على جناح قنديل، مما قد يؤدي إلى تصدعات داخل التنظيم، أو حتى استمالة بعض عناصره إلى مسارات سياسية بديلة.
2- الانعكاساتُ الاقتصاديةُ والاجتماعيةُ
يمكنُ أن تتركَ هذه الدعوة أثرًا إيجابيًا على الاقتصاد التركي، لا سيَّما أن الصراعَ مع حزب العمال الكردستاني كلف تركيا مليارات الدولارات من الإنفاق العسكري والأمني، فضلًا عن تعطيله التنمية في المناطق ذات الأغلبية الكردية، ونجاح هذه المبادرة قد يمهدُ الطريقَ لزيادة الاستثمارات في تلك المناطق، خاصةً في قطاعاتِ البنيةِ التحتيةِ والسياحةِ والتجارةِ، مما يساهم في تقليل معدلات البطالة والفقر، كما أن تحسينَ الأمنِ قد يشجّعُ المستثمرين الأجانب على توجيه رؤوس أموالهم نحو تركيا، مما يعزز مناخ الأعمال والاستقرار الاقتصادي.
على الصعيد الاجتماعي، قد تؤدي هذه الخطوة إلى تقاربٍ أكبر بين الأتراك والأكراد، مما يعززُ التماسكَ الاجتماعيَ داخل البلاد، إلا أن هذا السيناريو يتطلبُ إجراءاتٍ سياسيةً و اقتصاديةٍ مصاحبة، مثل الاعتراف بالحقوق الثقافية والسياسية للأكراد، وإطلاق مشاريع تنموية مستدامة تعزز من اندماجهم في النسيج الاجتماعي والسياسي التركي.
3- الانعكاساتُ على العلاقاتِ الإقليميةِ والدوليةِ
إقليمياً، قد تسهمُ هذه الدعوةُ في تقليل التوتر بين تركيا وإقليم كردستان العراق، حيث ظلت أنقرة على خلاف دائم مع الحزب بسبب وجود معاقله في جبال قنديل داخل الإقليم، نجاح المبادرة قد يؤدي إلى تعزيز التعاون الأمني والاقتصادي بين تركيا وحكومة إقليم كردستان، وهو ما قد ينعكسُ إيجابيًا على الوضعِ الأمنيِ والتجاريِ بين الطرفين.
أما على مستوى العلاقات مع القوى الكردية في سوريا، فإن نجاحَ هذه المبادرة قد يؤثرُ على موقفِ تركيا تجاه قوات سوريا الديمقراطية (SDF)، حيث لطالما اعتبرت أنقرة هذه القوات امتدادًا لحزبِ العمالِ الكردستانيِ، إذا التزم الحزب بقرار الحل، فقد تجدُ تركيا مبررًا لإعادةِ النظرِ في سياستها تجاه الأكراد في سوريا، لا سيَّما أن واشنطن طالما دعت أنقرة إلى تبنّي نهجٍ أكثر تصالحًا مع المكون الكردي هناك.
دوليًا، قد تعزز هذه الدعوة من صورة تركيا كدولةٍ تسعى إلى إنهاءِ النزاعاتِ الداخليةِ عبر الحوار، مما قد يسهم في تحسين علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فقد ظلّ ملفُ القضية الكردية واحدًا من العوامل التي تؤثر سلبًا على المفاوضات التركية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، كما أن إنهاءَ الصراعِ المسلح قد يمنح تركيا مساحة أكبر للتعاون الأمني مع واشنطن والعواصم الأوروبية في ملفات مكافحة الإرهاب والاستقرار الإقليمي.
رابعًا: أبرزُ التحدياتِ التي قد تعيقُ تنفيذ الدعوة
رغم الدلالات الإيجابية لهذه المبادرة، فإن تنفيذها على أرضِ الواقعِ يواجهُ تحدياتٍ معقّدةً، أول هذه التحديات هو موقف القيادات الميدانية لحزب العمال الكردستاني، خاصة العناصر الموجودة في جبال قنديل، حيث من غير المؤكد أن تتوافق هذه القيادات مع دعوة أوجلان للحل السلمي، فالعديد من الفصائل داخل الحزب لديها مصالحُ مرتبطةٌ باستمرارِ النزاع، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، مما قد يدفعها إلى مقاومة هذه المبادرة.
التحدي الثاني يتمثلُ في موقفِ الحكومةِ التركيةِ نفسها، فحتى مع ترحيبها العلني بهذه الدعوة، فإن مدى استعدادها لتقديمِ تنازلاتٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ يبقى موضعَ تساؤلٍ، فإذا لم تواكبْ هذه المبادرة بإجراءاتٍ ملموسة، مثل تحسين الحقوق الثقافية والسياسية للأكراد، فقد تفقد هذه الدعوة زخمها بسرعة.
كما أن البيئةَ الإقليميةَ قد تعيقُ نجاحَ هذه المبادرة، خاصة أن القضية الكردية تمتدُ إلى دولٍ أخرى مثل العراق وسوريا وإيران، حيث تمتلكُ بعض القوى الإقليمية مصلحة في استمرار حالة عدم الاستقرار في تركيا، أي مبادرة سلام قد تتعرضُ لضغوطٍ من أطرافٍ إقليميةٍ تسعى للحفاظ على نفوذها في المنطقة، مما قد يعرقل تنفيذها.
خامسًا: السيناريوهاتُ المستقبليةُ
السيناريو الأول: تعثّرُ المبادرةِ على أثر انقسامات داخل الحزب واستمرارِ القتالِ المسلح:
يُعد هذا السيناريو الأكثرَ تعقيدًا والأكثر احتمالًا على المدى القريب، نظرًا لطبيعة حزب العمال الكردستاني (PKK) كتنظيمٍ متعددِ الفصائل والأجنحة، فمنذ تأسيسُه، لم يكنْ كيانًا موحدًا بالكامل، بل ضمَّ تياراتٍ مختلفةً تتراوحُ بين المعتدلين الذين يميلون إلى العمل السياسي، والمتشددين الذين يرون في العمل المسلح الخيار الوحيد، ولفهم هذا السيناريو يجب الإشارة أولاً إلى طبيعة الحزب.
وفي هذا السياق من غير المرجّح أن تتخلى جميع فصائل حزب العمال الكردستاني (PKK) عن السلاح لمجردِ دعوةِ عبد الله أوجلان، وقد يؤدي هذا الإعلانُ إلى انقسامٍ داخليٍ حاد داخل الحزب، وتتمثل أحد أبرز الدلائل على الانقسام، في الموقف الكردي في سوريا، حيث أعلنت قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تشكّل وحداتِ حماية الشعب (YPG) عمودها الفقري، رفضها الواضح لربط مصيرها بخطاب أوجلان، وهذا على الرغم من إعلان حزب العمال الكردستاني الالتزام بدعوة أوجلان.
وهو ما يعكسُ وجودَ هويةٍ مستقلةٍ نسبيًا لقسد عن PKK، لكنها في الوقت نفسه لا تزالُ تتأثرُ بمواقف الحزب الأم، لذلك، من المتوقع أن يستمر الجناح العسكري في سوريا في العمل على تعزيز نفوذه في شمال وشرق سوريا، حتى لو أدى ذلك إلى تصعيد التوتر مع تركيا.
ومن المتوقع أن يرفضَ الجناحُ العسكريُ المتشددُ في جبال قنديل، أيَّ محاولةٍ لتفكيكِ الحزب، وقد يتجه إلى تصعيد الهجمات ضد تركيا، معتبرًا أن إنهاء التنظيم بمثابة استسلام غير مقبول، ومن المحتمل أيضًا أن أن تلجأ بعض العناصر المتشددة داخل PKK إلى إعادة إحياء حزب صقور حرية كردستان TAK كوسيلة للضغط على الدولة التركية، خاصة إذا تصاعدت الانقسامات داخل الحزب الأم، كما قد تظهر عناصر مسلحة تلتحق بتنظيمات أخرى في سوريا والعراق، مما يعقّدُ الوضع الأمني أكثر، وقد يتحولُ الصراعُ إلى اقتتالٍ داخليٍ كردي بين الفصائل المؤيدة لأوجلان وتلك الرافضة لحل الحزب، خاصة في شمال العراق وسوريا.
بالنظر إلى هذا السيناريو، فإن تركيا قد تتعامل مع هذا الانقسام عبر استراتيجيتين رئيسيتين، فمن الناحية العسكرية، من المرجّحِ أن تكثّفَ أنقرة العمليات الجوية والبرية ضد معاقل التنظيم في شمال العراق وسوريا، مستغلة حالة الضعف والانقسام الداخلي، كما ستعمل الاستخبارات التركية (MIT) على استهداف قادة الجناح المتشدد في الحزب، سواء من خلال عملياتِ اغتيالٍ دقيقةٍ أو عبر الضغط على الدول المجاورة لتسليم العناصر القيادية.
وفي الوقت نفسه، ستحاولُ أنقرة توظيفَ الورقةِ السياسية، من خلال تعزيز العلاقات مع العشائر الكردية في جنوب شرق تركيا، وتقديم حوافز اقتصادية لتنفير المجتمعات المحلية من دعم أي فصائل مسلحة، كما قد تقوم بالضغط على حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، وهو الحزب السياسي الكردي الأبرز في تركيا، لإجباره على اتخاذ موقف أكثر وضوحًا تجاه التنظيمات المسلحة
السيناريو الثاني: نجاحُ المبادرةِ واستيعابُ القوى الكردية في المشهد السياسي، أو إعادة تشكيل الحزب تحت مسمى جديد:
إذا التزمت الفصائل الرئيسية داخل حزب العمال الكردستاني بدعوة أوجلان، فقد يؤدي ذلك إلى إطلاقِ عمليةٍ سياسيةٍ جديدة بين الدولة التركية والأكراد، حيث قد يتمُّ استيعابُ القياداتِ المعتدلةِ في الحياة السياسية، سواء من خلال حزب الشعوب الديمقراطي أو من خلالِ تشكيلِ كيانٍ سياسيٍ جديدٍ، وهذا السيناريو يتطلب خطوات جدية من الدولة التركية، مثل سنِّ إصلاحاتٍ قانونيةٍ تعززُ حقوقَ الأكراد، والسماح بتمثيل سياسي أوسع لهم داخل مؤسسات الدولة.
قد يشهد هذا السيناريو اندماجَ بعضِ المقاتلين السابقين في الحياة المدنية، وربما يتمُ إطلاقُ برامج تأهيل لهم، على غرار ما حدث في تجارب مماثلة حول العالم، كما أن تحسّنَ الوضعِ الأمنيِ سيتيحُ للحكومة التركية التركيز على قضايا أخرى، مثل الاقتصاد والعلاقات الخارجية، بعيدًا عن ضغوط الصراع المسلح.
على الصعيد الإقليمي، قد تدفع هذه الخطوة بعض القوى الكردية في العراق وسوريا إلى إعادة التفكير في استراتيجياتها، فقد يؤدي نجاحُ المصالحةِ في تركيا إلى خلْقِ ضغوطٍ على القوى الكردية في سوريا، مثل قوات سوريا الديمقراطية، للتوصل إلى تفاهمات مع تركيا لتجنب تصعيد عسكري محتمل.
والتجربة السابقة لعملية السلام التركية – الكردية بين عامي 2013 و2015 تقدمُ دليلًا على صعوبةِ استكمال هذا السيناريو، حيث شهدتْ تلك الفترة وقفًا لإطلاقِ النار وإجراءاتٍ إصلاحيةً مثل السماح بتعليم اللغة الكردية في المدارس الخاصة وتوسيع بعض الحقوق الثقافية، إلا أن انهيارَ المحادثاتِ وتجددَ العنفِ أظهر مدى هشاشة هذا الحل، خاصة في ظل عدم الثقة المتبادلة بين الطرفين.
وإما عن احتمالية إعادة تشكيل الحزب، ففي هذا الإطار بدلًا من أن يحلَ الحزبُ نفسه نهائيًا، قد يلجأُ إلى إستراتيجيةِ تجديدِ الهويةِ عبر الإعلان عن تفكيك هيكله التنظيمي رسميًا، لكنه في الواقع يعيدُ تنظيمَ نفسه تحت مسمىً جديدٍ، هذا التكتيك ليس جديدًا، إذ سبق أن استخدمه الحزب في الماضي، حيث أعاد تشكيل نفسه تحت أسماء مثل “المؤتمر الشعبي الكردستاني” (KADEK) عام 2002، ثم تحول إلى “اتحاد المجتمعات الكردستانية” (KCK) عام 2005، كما دعمت الحركة أحزابًا سياسية قانونية مثل حزب الشعوب الديمقراطي (HDP)، الذي يعتبره البعض المظلة السياسية غير الرسمية للحزب.
وفي هذا السياق ستراقب تركيا أيّ تحولٍ مماثل بحذر شديد، إذ ستسعى للتأكد من أن الحزب الجديد لا يحملُ نفسَ الأهدافِ السابقة تحت غطاء مختلف، من المتوقع أن تسمحَ أنقرة بانخراطِ الأكرادِ في العملية السياسية ضمن حدودٍ معينةٍ، لكنها في الوقت ذاته ستفرض قيودًا صارمة على أي كيان تشتبه في ارتباطه بـ PKK. على الصعيد الدولي، قد يواجه الحزب الجديد تحديات قانونية، خاصة أن العديد من الدول الغربية تصنف PKK كمنظمةٍ إرهابيةٍ، مما يجعل من الصعب عليه التحرك بحرية حتى لو حاول إعادة تشكيل نفسه كحزب سياسي مدني.
السيناريو الثالث: تأجيلُ تنفيذِ الدعوةِ واستمرارُ المراوحةِ بين الحل العسكري والسياسي:
في هذا السيناريو، قد تظلُ دعوةُ أوجلان مجردَ خطوةٍ رمزيةٍ لا تُترجمُ إلى تغييراتٍ ميدانيةٍ فورية، حيث قد تطلب الدولة التركية ضمانات أمنية إضافية قبل تقديم أي تنازلات سياسية، بينما قد تتردد بعض الفصائل الكردية في اتخاذ خطوات نهائية دون وجود التزامات واضحة من أنقرة، مما قد يؤدي إلى استمرار التوترات الأمنية لفترة أطول، مع احتمال بروز فترات متقطعة من التصعيد والتهدئة.
الخاتمة
رغم أهمية دعوة أوجلان، فإن تنفيذَها يظل مرهونًا بموقف الفصائل المسلحة داخل الحزب، ومدى استعداد الحكومة التركية لتقديمِ تنازلاتٍ تضمنُ استدامةَ السلام، كما أن العواملَ الإقليميةَ والدوليةَ قد تلعبُ دورًا حاسمًا في تحديد مصير هذه المبادرة، مما يجعل المشهد مفتوحًا على عدة احتمالات، تتراوح بين إنهاء الصراع بشكلٍ نهائيٍ، أو استمرارهٍ بصيغٍ جديدةٍ تتكيف مع التحولات السياسية والعسكرية في المنطقة.
المراجع
-
Reaction to jailed Kurdish leader’s call for end to conflict with Turkey, Reuters, February 27, 2025. https://linksshortcut.com/JnPNU
-
Turkey seeks dissolution of PKK-linked groups in Syria and Iraq, following leader’s peace plea, Associated Press, February 28, 2025. https://linksshortcut.com/RIpad
-
David Pollock, Turkey Can Ally with Syria’s Kurds Someday, The Washington Institute, Jul 18, 2017. https://linksshortcut.com/byIDs
-
الأمين العام يرحب بدعوة زعيم حزب العمال الكردستاني لمقاتليه بإلقاء أسلحتهم وحل الحزب، أخبار الأمم المتحدة، ٢٧ فبراير ٢٠٢٥. https://news.un.org/ar/story/2025/02/1139446
-
إردوغان: دعوة أوجلان إلى إلقاء السلاح وحل حزب العمال الكردستاني نفسه تشكل فرصة تاريخية، النشرة الدولية، ٢٨ فبراير ٢٠٢٥. https://linksshortcut.com/WkVec
-
زيد اسليم، تسلسل زمني.. محطات الصراع بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني، موقع الجزيرة، ٢٨ فبراير ٢٠٢٥. https://linksshortcut.com/AKOJf
-
أوزغي غينج، المسألة الكردية وطريق تركيا المعقدّ نحو السلام، مجلس الشرق الأوسط للشئون الدولية، 26 نوفمبر، 2024. https://linksshortcut.com/PPdBd