المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > أوراق بحثية > إعلان تركيا خالية من الإرهاب: قراءة في التطورات والانعكاسات
إعلان تركيا خالية من الإرهاب: قراءة في التطورات والانعكاسات
- أبريل 9, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: أوراق بحثية تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات

إعداد: أماني السروجي
باحث مساعد في برنامج دراسات الدول التركية
شكّلت التهديداتُ الإرهابيةُ أحدَ أبرزِ التحدياتِ التي واجهت تركيا خلال العقود الماضية، بدءًا من الصراع الطويل مع حزب العمال الكردستاني (PPK)، مرورًا بخطر تنظيم “داعش” الإرهابي، وصولًا إلى التهديداتِ المرتبطةِ بتنظيم “جولن”، وقد تجاوزتْ هذه التهديداتُ حدودَ الداخلِ التركيِ لتؤثرَ على سياسات أنقرة الإقليمية والدولية، ما دفعها إلى تبني نهج أمني صارم وضع مكافحة الإرهاب أولوية قصوى في استراتيجيتها الوطنية والإقليمية، ومع إعلان الرئيس رجب طيب أردوغان مؤخرًا اقتراب تركيا من تحقيق هدفها في أن تكونَ “خاليةً من الإرهاب”، تبرزُ تساؤلاتٌ حول مدى واقعيةِ هذا الطرح ودلالات هذا التحول.
لذا، يستعرضُ هذا التقريرُ أبرزَ التطوراتِ في المشهد الأمني والسياسي في الإقليم، ومدلولات هذا الإعلان، فضلا عن مناقشة انعكاسات هذا الطرح على تركيا سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
أولًا: تطوراتُ المشهدِ الأمنيِ والسياسي في الإقليم:
تسعى تركيا إلى تثبيتِ سرديةٍ جديدةٍ قوامُها “خلو البلاد من الإرهاب”، حيث أعلن أردوغان في فبراير الماضي عن قرب تحقق هدف تركيا خالية من الإرهاب،[1] ثم تَبِعَ ذلك التصريح تأكيدهُ في شهر أبريل الجاري أن المسارَ المتعلقَ بتركيا خالية من الإرهاب يمضي وفقًا لما خطط له، ولا توجدُ أيُ مشكلةٍ بشأنه، وأن التطورات تسير لصالح تركيا والمنطقة يومًا بعد يوم.[2] فيما تستند تركيا في ذلك إلى مجموعة من التحولات الأمنية والعسكرية والسياسية المتسارعة وتتمثل أبرز هذه التحولات في التالي:
سقوطُ نظامِ الأسد:
بعد سقوط ِنظامِ بشار الاسد في ديسمبر 2024، شهدت سوريا تحولًا سياسيًا جذريًا أدى إلى إعادة تشكيل المشهد الأمني الإقليمي، حيث إن تركيا الداعمَ الرئيسيَ للمعارضةِ السوريةِ، باتتْ شريكًا رئيسيًا في إعادة بناء سوريا ما بعد الأسد، ما يعزز موقعها في رسْمِ مستقبلِ الأمن الإقليمي، ويسمحُ لها بإعادةِ صياغةِ التوازناتِ لصالحها بما يضمنُ تقليصَ التهديداتِ الإرهابيةِ.
كما أن سقوط النظام السوري السابق الذي اتُهم – من تركيا – بتوفير دعم سياسي ولوجستي لمجموعات مناوئة لأنقرة، لا سيَّما وحداتُ حمايةِ الشعب الكردية (YPG) المرتبطة بحزب العمال الكردستاني (PKK)، والتي تعتبرها تركيا تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، قد يُضعفُ هذه الجماعات ويُفقدها الغطاءَ السياسيَ الذي كانت تحصل عليه بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشرٍ من النظام السابق أو من القوى الدولية المتداخلة معه.[3]
كما أن تمتّعَ تركيا الآن بعلاقاتٍ إيجابيةٍ مع الإدارة السورية الجديدة، قد يُمهّد لتفاهماتٍ ثنائيةٍ أكثر عمقًا بشأن ضبط الحدود، وتنسيق الجهود لمكافحة الإرهاب، حيث أعربت تركيا عن استعدادها لتقديم الدعم العسكري والتدريبي لتعزيز قدرات الجيش السوري الجديد في مواجهة التنظيمات الإرهابية، ومثل هذا التعاون قد يعززُ جهودَ تركيا في تأمين حدودها الجنوبية.
تراجعُ النفوذِ الإيراني:
شَهِدَ النفوذُ الإيرانيُ في المنطقةِ خلال الآونة الأخيرة خاصةً خلال عام ٢٠٢٤ تراجعًا ملحوظًا، وذلك على أثر عدة عوامل وتطورات إقليمية، تتمثلُ أبرزُها في انهيارِ نظام الأسد (الحليف الإستراتيجي لإيران)، مما أدى إلى فقدانها نقطة ارتكاز مهمة في المنطقة، مما أثّرَ سلبا على قدرتها على دعم حلفائها الإقليميين، لاسيَّما حزبُ الله في لبنان، تزامنَ أيضًا مع الضرباتِ الجويةِ الإسرائيليةِ المتكررةِ التي أضعفتْ البِنيةَ العسكريةَ الإيرانيةَ داخل سوريا وفي لبنان.
كما تعرضت الجماعات المسلحة المدعومة من إيران مثل حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن، لضغوطٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ كبيرةٍ حيث أدى اغتيال زعيم حزب الله حسن نصر الله إلى إضعاف التنظيم بشكل كبير، وفي اليمن تزايدت الضربات الجوية الأمريكية على مواقع الحوثيين، مما دفع إيران إلى تقليص دعمها لهم خشية تصعيد عسكري أكبر.[4]
ويُعد هذا التراجعُ بمثابةِ عنصرٍ مساعدٍ لتقليصِ التهديداتِ الأمنيةِ الموجّهةِ ضد تركيا، خاصةً إذا ما أخذنا في الاعتبار أن العديدَ من الميليشيات والمجموعات المسلحة التي كانت تُستخدم كورقة ضغط إيرانية على الساحة الإقليمية، لطالما ارتبطتْ بأنشطةِ زعزعةِ الاستقرار في مناطق قريبة من الحدود التركية، مثل شمالي سوريا والعراق، كما أن تقليص قدرة إيران على التأثير في ملفات قوات سوريا الديمقراطية “قسد” أو حزب العمال الكردستاني، سيحد من قدرتها على المناورة ضد المصالح التركية، ويُسهم في بيئة إقليمية أقل توترًا.
دعوةُ عبد الله أوجلان حلّ حزب العمال الكردستاني:
في 27 فبراير 2025، دعا عبد الله أوجلان، زعيمُ حزبِ العمالِ الكردستانيِ (PKK)، إلى حل الحزب وإلقاء السلاح، وقد جاءت هذه الدعوة بعد حوار وتفاهم مع الحكومة التركية، وهو ما شكّل تطورًا مفاجئًا في مسارِ الصراع المسلح بين الحزب والدولة التركية، واستجابةًً لهذه الدعوة، أعلنَ الحزبُ وقْفَ إطلاقِ النار مع تركيا، معتبرًا أن تنفيذَ محتوى دعوة أوجلان بشكل ناجح “يعدُّ أمرًا في غاية الأهمية”، وهو ما يُعدُ نقطةَ تحولٍ مهمةٍ، إذ إن الحزبَ كان على مدار عقودِ التهديد الأكبر للأمن القومي التركي، سواء من خلال عملياته العسكرية داخل البلاد أو عبر نشاطه في شمال العراق وسوريا.[5]
وسيمنح هذا التطورُ أنقرة فرصةً لإعادةِ ترتيبِ أولوياتها الأمنية بعيدًا عن المواجهة المستمرة مع الحزب، وفتح المجال أمام إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية للقضية الكردية ضمن إطار الدولة، حيث وصف أردوغان رسالة أوجلان بأنها بدايةُ مرحلةٍ جديدةٍ لجهود السلام، وفرصة لاتخاذ خطوة تاريخية نحو هدم جدار الإرهاب.
اتفاقُ “قسد” مع الإدارةِ السوريةِ الجديدةِ:
في 10 مارس الماضي، تمَّ التوصلُ إلى اتفاقٍ بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والنظام السوري لدمْجِ الوحداتِ الكرديةِ المسلحةِ ضمن قوات النظام، وينصُ الاتفاقُ على دمْجِ كافةِ المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز، ودعم الدولة السورية في كافة التهديدات التي تهدد وحدتها.[6]
وعلى الرغم من أن تركيا أبدتْ حذراً تجاهَ هذا الاتفاق، إلا أن تنفيذَه سيُعدُ انتصارًا غير مباشر لتركيا، فمن الممكن أن يُنهيَ الطموحَ الكرديَ في إنشاءِ كيانٍ مستقلٍ شمال سوريا، وهو الأمرُ الذي اعتبرته أنقرة خطًا أحمر منذ بداية الأزمة السورية، حيث خاضت لسنوات عمليات عسكرية كبرى مثل “غصن الزيتون” و”نبع السلام” في سوريا لإضعاف سيطرة قسد.
تشكيلُ تركيا تحالفٌ إقليميٌ لمكافحة الإرهاب:
في إطار تعزيز الجهود المشتركة لمكافحة الإرهاب، اتفقتْ كلٌ من تركيا والأردن والعراق وسوريا، في فبراير الماضي، على آليةٍ للتعاونِ المشتركِ ضد تنظيم داعش، يتمُ من خلالها التنسيقُ الوثيقُ بين وزارات الخارجية والدفاع وأجهزة المخابرات في مجالات أمن الحدود وتبادل المعلومات الاستخبارية والقيام بالعمليات المشتركة، كأمر حيوي لمنع ظهور التنظيم في المنطقة مجدداً[7].
وفي إطارِ هذا التحالفِ اجتمعتْ كلٌ من تركيا والأردن وسوريا والعراق ولبنان في 9 مارس، في العاصمة الأردنية، واتفقت الدول المشاركة على ضرورة تكثيف تبادل المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز عمليات المراقبة الأمنية، خصوصًا في المناطق الحدودية، لمنْعِِ تسللِِ العناصرِ الإرهابيةِ ووقْفِ تمويلِ هذه الجماعات عبر قنوات غير شرعية، فضلاً عن مناقشة قضايا محورية أخرى لا سيما ضبط الحدود ومنع تدفق الأسلحة والمخدرات.[8]
ويعززُ هذا التحالفَ الإقليميَ مقاربةُ “الملكية الإقليمية للأمن”، وهو الإطارُ الذي تُروجُ له تركيا كبديلٍ عن المعادلاتِ الأمنيةِ التقليديةِ، ما يمنح تركيا فرصة لإدارة التهديدات الأمنية عبر شبكات تعاون متماسك، خاصة في ظل انسحاب نسبي للقوى الدولية من ملفات المنطقة.
انحسارُ حركة “الخدمة”:
على المستوى الداخلي، فإن ضعْفَ نفوذِ حركةِ الخدمة (المعروفة بالكيان الموازي) بقيادةِ فتح الله جولن، كان تطورًا جوهريًا في استعادة تركيا لسيطرتها الأمنية، فمنذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، عملت الحكومة التركية على تفكيك شبكات الحركة داخل مؤسسات الدولة، وخارج الدولة لا سيما في إفريقيا وآسيا، وبدأت ملاحقـــات قضائية ضد نحو700 ألف شـــخص ُوحكم على 3000 بينهم متهمـــون بالاضطلاع بدورٍ فـــي الانقلابِ الفاشـــلِ، وفقا للسلطات التركية، فضلاً عن تنفيذِ عمليةِ تطهيرٍ واسعةِ النطاق فـــي صفـــوف الإدارة والجيش.[9]
والآن، أصبح التيار ضعيف وبات نفوذه شبه معدوم داخل تركيا، فيما فقدت تأثيرها حتى على المستوى الخارجي حيث أغلقت الكثير من المدراس التابعة للحركة في أفريقيا وآسيا الوسطى على أثر بناءِ أردوغان علاقاتٍ جديدةٍ مع هذه الدول، فضلاً عن تراجعِ الدعمِ الغربيِ لها وذلك وفقًا لادعاءات تركيا، وتفكيك هذه الشبكة جعل الدولة أكثر استقرارًا، وأزال أحد أكبر مصادر التهديد الأمني الداخلي، حيث لم تعد هناك مخاوف كبرى من اختراق الأجهزة الأمنية والعسكرية أو تنفيذ عمليات تخريبية تستهدف استقرار النظام السياسي
تراجعُ نفوذِ التنظيمات في دول الجوار (العراق وسوريا):
عززَ تحسّنُ الأوضاعِ الأمنيةِ في العراق وسوريا من شعور تركيا بالأمان، فقد شكّلت الفوضى في هاتين الدولتين بيئةً مثاليةً لانتشارِ التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة التي استخدمت حدودهما لشنِّ هجماتٍ داخل الأراضي التركية، فمع تحسّنِ الوضعِ الأمنيِ والسياسي نسبيًا في العراق وسوريا تراجعت قدرةُ هذه الجماعات على استخدامِ تلك الأراضي كملذات آمنة، وساهم في تقليل التهديدات الإرهابية ومخاطر الهجمات العابرة للحدود، كما أن تحسنَ العلاقاتِ بين الحكومة التركية والحكومات الجديدة في بغداد ودمشق سيعزز من التنسيق الأمني والاستخباراتي، وقد يساهم في تقليل أي خطر مستقبلي محتمل.
ثانيًا: مدلولاتُ طرح “تركيا خالية من الإرهاب”:
يحملُ إعلانُ أردوغان عن قربِ تحققِ هدفِ «تركيا خالية من الإرهاب» جملة من الرسائل السياسية والاستراتيجية الموجهة إلى الداخل والخارج، ولا يمكن قراءته كإعلانٍ أمنيٍ فحسب، بل كخطوةٍ تفتحُ البابَ أمام تحولات محتملة في المشهدين التركي والإقليمي، وتتمثل أبرز مدلولات هذا الإعلان في التالي:
أولًا: المدلولاتُ السياسيةُ الداخليةُ:
-
تحولٌ في الخطابِ السياسي الرسمي: يشيرُ التصريحُ إلى تحوّلٍ نوعيٍ في لهجةِ الدولة، من خطاب أمني تحذيري إلى خطاب انتصاري متفائل، ويعكس هذا رغبة في نقل تركيا من مرحلة “مكافحة الإرهاب” إلى “ما بعد الإرهاب”، وهي نقلة استراتيجية في البناء السياسي والاجتماعي.
-
تعزيزُ شرعيةِ السلطة الحاكمة: يُوظَّف التصريحُ لتقويةِ موقعِ حزبِ العدالةِ والتنميةِ في الداخل عبر تسويق سردية “النجاح الكامل في القضاء على الإرهاب”، بما يعزز ثقة الجمهور ويعيد التماسك حول القيادة، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
-
تهيئةٌ لمصالحةٍ داخليةٍ محتملةٍ: استخدام مفردات مثل “هدم جدار الإرهاب بين أبناء الوطن” يدلُ على محاولةٍ ناعمةٍ لإعادةِ بناء الجسور مع الفئات الكردية، وخَلْقِ مُناخٍ تمهيديٍ لاحتمال استئناف مسار تفاوضي سياسي جديد، وإن لم يُعلن رسميًا حتى الآن.
-
إعادةُ ترتيبِ التحالفات: في ظل إشاراتٍ متعددةٍ إلى إمكانية إجراء انتخاباتٍ مبكرةٍ، قد يكون التصريح جزءًا من استراتيجية تمهيدية تُمكّن الحزب الحاكم من دخول الاستحقاق الانتخابي من موقع المنتصر، سواء عبر استقطاب الناخب الكردي أو تثبيت القاعدة القومية المحافظة.
ثانيًا: المدلولاتُ العسكريةُ والأمنيةُ:
-
تتويجٌ للعملياتِ الاستخباراتيةِ والعسكرية: يعكسُ التصريحُ تتويجًا لمرحلةٍ من العمليات النوعية التي نفذتها الاستخبارات التركية (MIT) والقوات المسلحة ضد شبكات PKK داخل تركيا وخارجها، خاصة في شمال العراق وسوريا، ويُقدَّم الخطاب كرواية رسمية لحصد النتائج السياسية لهذه النجاحات.
-
الاحتفاظُ بجاهزيةِ الدولةِ: رغم النبرةِ التفاؤليةِ، لم يخلُ التصريحُ من التحذيرِ من “الاستفزازات المحتملة”، في إشارةٍ إلى بقاءِ الدولةِ على أهبةِ الاستعداد، تحسبًا لأي محاولات لزعزعة الاستقرار في المرحلة الانتقالية.
-
إشارةٌ إلى انتهاءِ مرحلةِ التهديد الداخلي: يُفهَمُ من التصريحِ أن الدولةَ لم تَعدْ ترى في PKK خطرًا داخليًا مُلحًا، ما يفسح المجال لإعادة ترتيب أولويات الأمن القومي، ونقل التركيز إلى التهديدات الإقليمية العابرة للحدود.
-
توسيعُ شرعيةِ العملياتِ الخارجيةِ ضد امتدادات PKK: تدركُ أنقرة أن أي “نصر داخلي” غير مضمون الاستمرار إذا ظل التنظيم يحتفظ بهياكل قتالية في محيطها، وبالتالي من منظور استراتيجي، فإن تجفيف منابع الحزب لضمان استدامة الأمن الداخلي.
لذا يمكن أن يمثّلَ الإعلانُ عن إنهاءِ التهديدِ الداخلي تمهيدًا لشرعنةِ الاستمرارِ في العمليات العسكرية الخارجية، خاصةً في شمال سوريا والعراق، إذ يمكن لأنقرة أن تُبرر تصعيد عملياتها ضد امتدادات PKK و”قسد” باعتباره استكمالًا لمسارِ الانتصارِ الداخلي، وليس تصعيدًا جديدًا، وهذا التحول يُعيدُ تعريفَ التدخلاتِ التركيةِ كـ «هجومٍ وقائيٍ استراتيجي» وليس فقط رد فعل دفاعي، ويمنحها هامشًا أوسع في المناورة أمام القوى الإقليمية والدولية.
وفي سياق تشكيل التحالف الأمني الخماسي (تركيا، سوريا، العراق، الأردن، لبنان)، فإن استمرارَ العملياتِ التركيةِ يُمكن أن يُعادَ تأطيرُه كجزءٍ من منظومة أمنٍ جماعيٍ إقليميٍ، تستهدفُ “التنظيمات الانفصالية” و”التهديدات العابرة للحدود”، مما يضفي شرعية إقليمية أكبر على الدور التركي.
ثالثًا: المدلولاتُ الإقليميةُ والدوليةُ:
يُقدَّم التصريحُ كإثباتٍ على أن تركيا باتت “قوة استقرار خالية من التهديدات الداخلية”، كما يعزز من صورة تركيا كدولةٍ قادرةٍ على تصديرِ استراتيجياتٍ ناجحةٍ في مكافحةِ الإرهاب، وهو ما يُعزز دورها في التحالفات الإقليمية الجديدة، وعلى رأسها التحالف الأمني الخماسي مع العراق وسوريا ولبنان والأردن، في إطار ما يُعرف بـ”الملكية الإقليمية للأمن”.
وبالنسبة للقوى الغربية، لا سيَّما الاتحادُ الأوروبي والولايات المتحدة، فإن هذا الطرحَ يمثّلُ رسالةً بأن تركيا لم تَعدْ بؤرةَ تهديدٍ أمنيٍ بسبب الإرهاب، وهو ما يمكن أن يدعم مطالبها المستمرة بتسهيل مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو تحسين علاقاتها مع واشنطن التي لطالما كانت متوترة بسبب قضايا الإرهاب والجماعات الكردية المسلحة.
ثالثًا: أبرزُ الإنعاكاسات المحتملةِ لإعلان تركيا خالية من الإرهاب:
يشكّل إعلانُ أردوغان عن اقتراب بلاده من “القضاء التام على الإرهاب” نقطةَ تحولٍ بارزةٍ في مقاربة الدولة التركية لقضية طالما مثّلت تحديًا مزمنًا على المستويين الداخلي والخارجي، وتتنوع الانعكاسات المحتملة لهذا الإعلان على النحو التالي:
أولًا: الانعكاساتُ على الصعيد الداخلي:
-
دعمُ حكومةِ حزب العدالةِ والتنمية وقيادة أردوغان:
يُمثل هذا الإعلانُ مكسبًا سياسيًا للحكومةِ التركية، لا سيَّما في ظلِ اعتمادِها المتواصلِ على خطاب مكافحة الإرهاب كإحدى ركائز سياساتها الأمنية، وفي حال تحقق الاستقرار الأمني فعليًا، فإن ذلك قد يُسهم في تعزيز صورة حزب العدالة والتنمية كقوة سياسية قادرة على تحقيق الاستقرار، الأمر الذي قد ينعكس على المشهد الانتخابي، سواء في حال عقد انتخابات مبكرة أو في إطار الاستحقاقات القادمة.
كما يُحتمل أن يُسهمَ هذا التطورُ في توحيدِ صفوفِ التحالف الحاكم، لا سيَّما مع حزب الحركة القومية، نظرًا لتقاطع أولوياته الأمنية والقومية مع سياسات الحكومة، حيث يعتمدُ بشكلٍ أساسيٍ على الخطاب الأمني والقومي، وفي الوقت ذاته، قد يؤدي تراجع التهديدات الأمنية إلى تقييدِ قدرةِ المعارضةِ على انتقادِ الأداء الحكومي في هذا الملف، مما يمنح أردوغان مساحة أكبر للمناورة داخليًا، ويعزز فرصه السياسية لتمديد حكمة إلى ما بعد عام 2028، حيث إن إنهاءَ الإرهاب الذي وصفه بأنه “أحدُ آخر العوائق التي تعترضُ سبيلَ تحقيقِ هدف تركيا العظيمة والقوية “، سوف يمثل إنجازًا كبيرًا لأردوغان.
وإلى جانب ذلك فأن إشارة أردوغان في الإعلان إلى أن الحكومة تنفذ برنامجًا صارمًا لحل المشاكل الاقتصادية قد يخدم الحزب الحاكم على نحو أكبر، حيث يُظهر أن التنمية الاقتصادية تمثّلُ أحدَ أبرزِ أولوياتِ السياسةِ التركية في الفترة القادمة، كما يتيح هذا الطرح للحكومة فرصةً لتقديمِ نفسها كقوةٍ قادرةٍ على ضمان الأمن، وتحسين مستوى المعيشة، لا سيما في ظل رصيد انجازات الحكومة في السنوات السابقة.
-
دعمُ الاقتصادِ التركي وإعادة توجيه الموارد نحو التنمية الاقتصادية:
يُعدُ الاستقرارُ الأمنيُ عاملًا رئيسيًا في جذْبِ الاستثمارات الأجنبية وتعزيز النشاط الاقتصادي، ووفي ظل الإشارة إلى تراجع التهديدات الإرهابية، يتوقع أن ينعكس ذلك على تتحسن بيئة الاستثمار، ويشجع تدفق رؤوس الأموال الأجنبية ويعزز قطاعي السياحة والتجارة، كما أن انخفاض الحاجة إلى الإنفاق العسكري على العمليات الأمنية سيتيحُ للحكومة إعادةَ توجيهِ المواردِ نحو مشروعات البنية التحتية والتنمية الاقتصادي، ذلك فضلاً عن أن الاستقرار الداخلي يمنحُ الليرةَ التركيةَ دعمًا إضافيًا، حيث تقل المخاطر المرتبطة بالاضطرابات الأمنية، مما يُسهمُ في تحسينِ الثقة بالاقتصاد التركي على المستويين المحلي والدولي.
كما يرتبط هذا الإعلانُ أيضًا بالخطةِ التنمويةِ التي أعلنتها الحكومة التركية في ديسمبر 2024، بقيمة 14 مليار دولار لتطوير المناطق الجنوبية الشرقية ذات الأغلبية الكردية، والتي تهدف إلى تقليص الفجوة الاقتصادية بين هذه المناطق وبقية أنحاء البلاد من خلال تنفيذ 198 مشروعًا بحلول عام 2028، والاستقرار الأمني الناتج عن القضاء على الإرهاب يُعتبر عاملاً أساسيًا لنجاح هذه الخطة التنموية.[10]
بالإضافة إلى ذلك تعملُ تركيا على مشروع تطوير حقول النفط والغاز غير التقليدية في حوض ديار بكر، والذي طرح لأول مرة في فبراير 2024، وتم توقيع الاتفاقية بين شركة البترول التركية (TPAO) وشركتي «كونتيننتال ريسورسيز» و«ترانس أتلانتيك بتروليوم» الأمريكيتين في 12 مارس 2025،[11] ونظراً لأنه من المتوقّعِ أن تبدأَ المراحلُ التحضيريةُ للمشروع قريبا، فإن إعلانَ أردوغان سيخلقُ بيئةً مواتيةً لتطويرِ مشاريع الطاقة في ديار بكر عبر تعزيز الاستقرار، وجذب الاستثمارات، وتوفيرِ الظروفِ الملائمة لتكنولوجيا الاستخراج، مما يسهم في تحويل المنطقة إلى مركز استراتيجي لإنتاج الطاقة في تركيا.
-
تعزيزُ التماسك المجتمعي داخل تركيا:
لطالما كان الإرهابُ عاملًا مسببًا للانقسامات داخل المجتمع التركي، خاصة في ظل التوترات المستمرة بين الحكومة وبعضِ شرائحِ المجتمعِ الكردي، ومع استخدام هذه اللهجة في الخطابِ السياسي، يمكن أن تتاح فرصة جديدة للحكومة لتبني سياسات تهدفُ إلى تحقيقِ مصالحةٍ وطنيةٍ، سواء عبر إصلاحاتٍ سياسيةٍ أو مبادراتٍ تنمويةٍ في المناطق ذات الأغلبية الكردية، كما أن غياب العمليات الإرهابية سيجعل هناك مجال أكبر لتعزيز التعايش السلمي وإعادة بناء الثقة بين مختلف المكونات الاجتماعية، وسيسهم في تقليل الاستقطاب السياسي والعرقي، مما قد يؤدي إلى تحسين العلاقات بين مختلف الفئات داخل المجتمع التركي.
-
تحقيقُ الأمن الداخلي والاستقرار:
تترجمُ الإشارةُ إلى عدم وجود مشاكل في مسار تركيا قرب القضاء على الإرهاب إلى تحسن كبير في مستوى الأمن الداخلي، وانخفاض مخاطر الهجمات الإرهابية التي كانت تستهدفُ المدنَ التركيةَ والمناطقَ الحدوديةَ، وهو ما سينعكسُ بدوره على الشعورِ بالأمان وتعزيزِ ثقةِ المواطنين بالحكومة، وتقليل الانتقادات الموجه للحكومة على أثر سياستها الأمنية، كما يتيح للأجهزة الأمنية إعادة تركيز جهودها على القضايا الأمنية الأخرى مثل مكافحة الجريمة المنظمة وحماية الحدود والهجرة غير الشرعية، والتهديدات السيبرانية، مما يسهم في تعزيز فعالية المؤسسات الأمنية وترسيخ دولة القانون، وبالتالي سيعزز الاستقرار على المدى الطويل.
ثانيًا: الانعكاساتُ على الصعيد الخارجي:
-
تعزيزُ النفوذ الإقليمي وتوسيع الدور الأمني التركي:
يمثّلُ إعلان اقتراب تركيا من القضاء التام على الإرهاب نقطة تحوّلٍ قد تُعيد رسم دورها في محيطها الإقليمي، فمع انخفاضِ التهديداتِ الإرهابية الداخلية، ستتوفر لأنقرة مساحةً أوسعَ لتوجيه سياساتها الخارجية نحو ملفاتِ الأمنِ الإقليمي، دون الانشغال بالجبهات الداخلية بشكل أساسي، وهو ما يعززُ قدرتهَا على لَعِبِ دورٍ فاعلٍ في بناءِ التحالفاتِ الأمنيةِ الإقليميةِ في الشرق الأوسط والقوقاز وإفريقيا.
كما أن غيابَ التهديداتِ الإرهابية يمنحُ تركيا فرصةً أكبر لتقديمِ نفسِها كوسيطٍ أكثر حياديةً وموثوقيةً في النزاعات الإقليمية، مما قد يعزز من نفوذها الدبلوماسي وقدرتها على التأثير في موازين القوى، وهذا ينسجمُ مع الطروحاتِ التركية الحديثة، مثل مفهوم “الملكية الإقليمية للأمن”، التي تسعى لتوطيد الأمن من خلال شراكات إقليمية، وهو ما يؤكدُ عليه فيدان منذ فترة، بالدفاع عن أطروحة مفادها أن دول المنطقة يجب أن تأخذ المشاكل في جغرافيتها على عاتقها وتعمل على حلها، وبالتالي منع الجهات الفاعلة من خارج المنطقة من التدخل في مشاكلها.[12]
-
زيادةُ فرصِ انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي:
يُعد الانضمامُ إلى الاتحاد الأوروبي هدفاً استراتيجياً تسعى إليه تركيا منذ عقود، وقد أكد أردوغان مؤخرًا في مؤتمرٍ صحفيٍ أن العضويةَ الكاملةَ في الاتحاد الأوروبي لا تزال أولوية لأنقرة، وأكد أن الاتحاد الأوروبي لن يتمكنَ من منْعِ أو عكْسِ خسارته للنفوذ والسلطة إلا من خلال عضوية أنقرة،[13]وفي هذا السياق، يمكن القول إن الإعلان عن قرب تحقيق “تركيا خالية من الإرهاب” خطوةٌ تعززُ موقفَ بلاده في هذا الملف، إذ أن نجاح أنقرة في القضاء على الإرهاب سيساعد في تحسين صورتها أمام بروكسل، ويعززُ من صورتهِا كشريكٍ أمنيٍ موثوقٍ في قضايا تمسُّ الأمنَ الأوروبيَ، مثل مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية والجريمة المنظمة.
إلى جانب ذلك، تحقيق الاستقرار الأمني الداخلي سيجعل تركيا أكثر جذبًا للاستثمارات الأوروبية، مما يعززُ فرصَها في تحديثِ اتفاقية الاتحاد الجمركي، وهو ملف ذو أهمية كبرى في علاقاتها الاقتصادية مع أوروبا، وبهذا، يمكن أن تسهم هذه التطورات في تقوية موقف تركيا في مفاوضات العضوية، لا سيما إذا استطاعت تقديم نفسها كدولة مستقرة تلعب دورًا فاعلًا في الأمن الأوروبي.
-
تعزيزُ النفوذ الاقتصادي العالمي لتركيا:
يُعدُ الإرهابُ أحدَ العوامل التي تعرقلِ صعودِ تركيا كلاعب اقتصادي عالمي، حيث يحد من قدرتها على جذْبِ الاستثماراتِ الأجنبية طويلة الأمد ويؤثر على تصنيفها الائتماني، ودخول أنقرة في مرحلة ما بعد القضاء على التهديدات الإرهابية، سيؤدي إلى تعزيز مكانتها كمركز مالي واستثماري موثوق، مما يجعلها وجهة رئيسية لرؤوس الأموال الدولية، ويحسن من تصنيفها الائتماني، كما حدث عقب خروجها من “القائمة الرمادية” لمجموعة العمل المالي (FATF) في منتصف 2024.[14]
إضافة إلى ذلك، فإن تقليص الإنفاق الأمني على الجبهات الداخلية سيمكن الحكومة من إعادة توجيه الموارد نحو تعزيز صناعاتها الاستراتيجية، لا سيما تطوير الصناعات الدفاعية والتكنولوجية، مما سيمنحها ميزة تنافسية تركيا في الأسواق العالمية، ويمنحها أدوات جديدة لتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي، خاصةً في الدول التي تعتمد على التكنولوجيا الدفاعية التركية.
-
تعزيز الدور التركي في مكافحة الإرهاب عالميًا: