في تحوُّلٍ لافتٍ في سياساتها الحدودية، أعلنت موريتانيا في 23 مايو 2025، إغلاق منطقة “البريكة” الحدودية مع الجزائر، معلنةً تحويلها إلى “منطقة عسكرية مغلقة” بموجب قرار رسمي، ولم يأْتِ هذا الإجراء كخطوة أمنية معزولة، بل عبْر عن تحوُّلٍ استراتيجي أوسع في رؤية نواكشوط لإدارة حدودها الشرقية، ودورها في المعادلة الإقليمية المُعقَّدة التي تشمل الجزائر والمغرب وجبهة البوليساريو، وقد فتح هذا القرار الباب أمام سلسلةٍ من التأويلات السياسية والأمنية، وأثار تساؤلات متعددة حول دوافعه العميقة، ومدى تأثيره المحتمل على توازنات القوى في منطقة الصحراء الكبرى والساحل.
منطقة البريكة: بين الجغرافيا والتحديات الأمنية:
تقع منطقة “البريكة” في شمال شرق موريتانيا، قُرْب الحدود الجزائرية، وخصوصًا بجوار معسكرات “تندوف”، التي تمثل مركز قيادة جبهة البوليساريو، ولسنوات عديدة، كانت هذه المنطقة تعتبر مسارًا مهمًا لنشاط اقتصادي غير رسمي يرتكز على تهريب السلع عبر الحدود، بما في ذلك الوقود والغذاء والمواد الأساسية وأحيانًا البشر؛ حيث تتداخل شبكات التهريب المعاشي مع الجريمة المنظمة، وقد ترتبط أحيانًا بحركات مسلحة مرتبطة بالصراعات القائمة أو الكامنة هناك؛ إذ لم يكن هذا النشاط بمعزلٍ عن النزاع المُستمر في الصحراء الغربية الذي تستفيد منه بشكل غير مباشر بعض الجماعات المرتبطة بالبوليساريو.[1]
من جانبها؛ دأبت موريتانيا خلال السنوات الأخيرة على تكثيف جهودها لبسْط سيادتها الكاملة على هذه المنطقة الحسَّاسة، وكان من أبرز هذه الخطوات إعلانها في عام 2017، تحويل منطقة “البريكة” إلى منطقة عسكرية مغلقة، محظورة على المدنيين وممنوعة على مختلف الأنشطة، ورغم هذه الإجراءات المتكررة، لا يزال يُسجِّلُ وجودًا نِسْبِيًّا لعناصر مرتبطة بجبهة البوليساريو في بعض المناطق المتاخمة، مثل “بئر مغرين، والزويرات”، مستفيدةً من امتدادات قبلية في هذه المناطق الحدودية؛ بما يعكس تعقيد المشهد الأمني والاجتماعي في هذه الرُّقْعة الجغرافية.[2]
وفي سياقٍ متصلٍ، رصدت السلطات الموريتانية زيادةً ملحوظةً في الأنشطة المشبوهة وغير القانونية، واعتبرت أن استمرار الفوضى بهذه المنطقة قد يُشكِّلُ تهديدًا للأمن الوطني ويتعارض مع سيادتها؛ بناءً عليه، أعلنت السلطات الموريتانية في 23 مايو الماضي، إغلاق منطقة “البريكة”، واعتبارها منطقة عسكرية مغلقة يُمنع على المدنيين دخولها، مُبيِّنَةً ضرورة “تأمين الحدود ومكافحة التهريب والجريمة المنظمة”، ومع ذلك، تشير الأدلة إلى أن تلك الخطوة تجاوزت مجرد الجانب الأمني لتضُمَّ اعتبارات سياسية واستراتيجية أوسع نطاقًا.[3]
وقد أثار هذا القرار سحابة توتُّرٍ دبلوماسيٍّ وأمنيٍّ بين الأطراف المعنِيَّة، خاصَّةً البوليساريو، التي اعتبرت الإجراء تصعيدًا، من شأنه تفاقم ما تُطلق عليه “الحصار الجغرافي” المفروض عليها؛ لذا قامت بإرسال وفد رفيع المستوى برئاسة رئيس برلمانها “حمة سلامة” إلى نواكشوط بتاريخ 30 مايو الماضي؛ بهدف تخفيف حدة الأزمة وإقناع الحكومة الموريتانية، بإعادة فتْح الطريق، لكن نواكشوط ردَّت بوضوح، معتبرةً الطلب مرفوضًا؛ لأسباب أمنية واستراتيجية، مؤكدةً على موقفها الثابت بضرورة إبقاء المنطقة مغلقة.[4]
دوافع القرار الموريتاني:
جاء قرار إغلاق “البريكة” نتيجة لتداخُل عدة أبعاد أمنية وسيادية واقتصادية، ويمكن تلخيصها فيما يأتي:
الجانب الأمني: فنتيجة أن التهريب عبر “البريكة” يُمثِّلُ مصدر تمويل وخط إمداد افتراضي لجبهة البوليساريو في معسكرات “تندوف”، جاء التحرُّك الموريتاني كتعبيرٍ عن رفْض نواكشوط للنفوذ غير الرسمي للجبهة داخل أراضيها، من خلال شبكات التهريب والأنشطة المسلحة في إطار جهودها لتعزيز الانضباط على الحدود؛ بهدف الحدِّ من أيِّ تحرُّكات مسلحة أو دعم لوجستي وإرهابي، خاصَّةً مع تزايُد الضغط الدولي على الفصائل غير النظامية في منطقة الساحل والحاجة إلى فرْض الانضباط الأمني على الحدود، في ظِلِّ هشاشة الأوضاع الإقليمية.[5]
الجوانب السيادية: ما يلفت النظر في هذه الخطوة ليس فقط أبعادها الأمنية المباشرة، بل توقيتها وسياقها الإقليمي الذي يتزامن مع مساعي دول المنطقة لإعادة ترتيب مواقفها وتحالفاتها، في ظِلِّ التحوُّلات الجيوسياسية المتسارعة.
وفي هذا الإطار، سعت موريتانيا من خلال القرار إلى تأكيد استقلاليتها الاستراتيجية، عبْر توجيه رسالة سياسية غير مباشرة إلى جبهة البوليساريو، التي تتخذ من مُخيَّمات “تندوف” معْقَلًا لها، وربما أيضًا إلى السلطات الجزائرية، مفادها: أن نواكشوط لن تسمح بأن تتحول أراضيها إلى ساحة خلفية لأيِّ مشاريع توسعية أو اختراقات انطلاقًا من معسكرات “تندوف”
وفي الوقت ذاته، حرصت موريتانيا على تفادي الانزلاق نحو الاصطفاف العلني مع المغرب، رغم ما تبديه الرباط من ارتياح ضمني لإغلاق ممرٍّ حيويٍّ بالنسبة للبوليساريو، خاصَّةً في ظلِّ تنامي التعاون الأمني بين نواكشوط والرباط خلال الفترة الأخيرة، وما يعكسه ذلك من توافُقٍ سياسيٍّ متزايدٍ بين الجانبين، حول قضايا الاستقرار الإقليمي[6].
الجانب الاقتصادي: يحمل القرار بُعْدًا اقتصاديًّا محليًّا؛ إذ يستهدف تقليص الهيْمنة التي يمارسها الاقتصاد الموازي، والذي يحرم الدولة من عائدات جمركية وضريبية مهمة، في وقتٍ تتزايد فيه الحاجة لتعظيم الموارد المالية الرسمية لمواجهة الأعباء الاقتصادية، كما يسعى القرار ربما إلى دمْج هذه المناطق بشكلٍ تدريجيٍّ في الدورة الاقتصادية الوطنية، من خلال توجيه الأنشطة التجارية نحْو المعابر القانونية الخاضعة للرقابة الجمركية.
وبهذا المعنى، فإن القرار يُعبِّرُ عن توجُّهٍ استراتيجي نحو فرْض منطق الدولة الحديثة على حساب الأعراف التقليدية والاقتصاد غير الرسمي، في إطار مشروع طويل الأمد لتعزيز سلطة المركز على الأطراف، وتحقيق تماسُك السيادة الوطنية، خاصَّةً في ظلِّ هشاشة السياق الإقليمي المحيط وتزايُد مخاطر عدم الاستقرار في منطقة الساحل والصحراء.
تداعيات القرار على الأمن والاستقرار الإقليمي في المنطقة:
عُدَّ إغلاق موريتانيا لمنطقة “البريكة” الحدودية مع الجزائر خطوةً تحمل أبعادًا استراتيجية تؤثر في الأمن والاستقرار الإقليمي من عدة جوانب؛ نظرًا لحساسية الموقع الذي يقع في المثلث الحدودي بين موريتانيا والجزائر والصحراء الغربية، وترابطه الوثيق بأنشطة التهريب والجماعات المسلحة العابرة للحدود، ويمكن استعراض آثار هذه الخطوة كما يأتي:
تقييد قدرات التهريب والبوليساريو: بشكلٍ أساسيٍّ، سيساهم هذا القرار في تقليص قُدْرة شبكات التهريب على العمل بحرية، وخاصَّةً تلك المعنِيَّة بجبهة البوليساريو الموجودة في معسكرات “تندوف”؛ ما ينعكس سلبًا على القدرات التمويلية واللوجستية للجبهة في هذه المنطقة، ويحدُّ من احتمالات استغلال الممرَّات غير الرسمية لتوريد الوقود أو المؤن أو حتى الأسلحة.
بالتالي؛ سيتمُّ تضييق الخناق على تحرُّكات البوليساريو في الجناح الجنوبي للصحراء الغربية؛ مما يقلل فُرَص تنفيذ عمليات عسكرية مفاجئة ضد المغرب انطلاقًا من هذه النقاط.
تعزيز أمن الحدود الشرقية لموريتانيا: بالإضافة إلى ذلك، يعزز هذا القرار قدرة موريتانيا على مراقبة حدودها الشرقية، التي كانت تُعتبر لعقود مناطق رخوة أمنيًّا؛ مما يحدُّ من خطر تسلُّل الجماعات المتطرفة النَّشِطَة في منطقة الساحل، خاصَّةً في ظل التدهور المتواصل للأوضاع الأمنية في “مالي والنيجر وبوركينا فاسو”.
وهكذا؛ يتضاءل احتمال دخول هذه الجماعات عبر الأراضي الموريتانية؛ بغرض تنفيذ هجمات أو إنشاء خلايا نائمة داخل البلاد.
احتمالات توتر العلاقات مع الجزائر:قد يؤثر القرار الموريتاني سلْبًا على مسار العلاقات مع الجزائر؛ نظرًا للاعتمادية الحسَّاسة بين القضايا الحدودية والأمنية في المنطقة، فمن المعروف أن الجزائر تلعب دورًا محوريًّا في قضية الصحراء الغربية، وهي تراقب عن كَثَبٍ كل ما يستهدف التوازنات الإقليمية المتعلقة بهذه المسألة، ومن ثَمَّ قد يؤدي هذا القرار إلى تفاقُم التوتُّرات مع الجزائر التي قد تعتبره تهديدًا لدورها في دعْم البوليساريو، وربما يُعتبر أيضًا بمثابة خطوةٍ نحو تقارُبٍ موريتانيٍّ مع الرباط أو حتى باريس وواشنطن؛ فيما يتعلق بقضايا الأمن الإقليمي.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يتسبَّبَ القرار في ضغط على المجتمعات المحلية والقبائل البدوية بالمنطقة؛ مما قد يثير حالة من الاستياء الشعبي، خاصَّةً إذا لم تقدم السلطات الموريتانية بدائل اقتصادية أو تجارية رسمية؛ لتعويض خسائر الاقتصاد غير الرسمي، الذي كان لعقود طويلة مصدر دخْلٍ أساسي لسُكَّان تلك المناطق.
خلاصة القول:
في نهاية المطاف، يبدو أن موريتانيا قد حسمت أمرها في اختيار موقع الفاعل المبادِر لا المُراقِب المُنْفِعل في التعامُل مع محيطها الحدودي الهشِّ، خاصَّةً في منطقة تُعَدُّ من بين أكثر بؤر العالم قابلية للاختراق والاضطراب الأمني، فقرار إغلاق منطقة “البريكة” لم يكن مجرد خطوةٍ عسكرية ظرفية، بل يُمثِّلُ إعلانًا واضحًا عن انخراط نواكشوط في معركة إعادة رسْم الجغرافيا الأمنية الوطنية، وفْق رؤية استراتيجية تتجاوز الاستجابة العاجلة للتهديدات الظرفية؛ لتؤسس لمعادلة ضبْط حدودية مستدامة تخدم مشروع الدولة الحديثة القادرة على فرْض القانون والسيادة.
غير أن هذا التحرُّك، رغم وجاهته الأمنية، يضع موريتانيا أمام تحديات دقيقة على صعيد توازناتها الإقليمية، خاصَّةً مع الجزائر وجبهة البوليساريو، فضْلًا عن انعكاساته المحتملة على سكان المناطق الحدودية، الذين لطالما ارتبطت معيشتهم بأنشطة التهريب والاقتصاد الموازي، كما لا يغيب عن المشهد مراقبة القوى الدولية، وعلى رأسها: فرنسا وشركاء نواكشوط الغربيِّين، الذين يروْن في استقرار موريتانيا حجر زاويةٍ في أمْن الساحل والصحراء.
وعليه؛ فإن الأسابيع والشهور المُقْبِلة، ستكشف إلى أيِّ حدٍّ سينجح هذا القرار في تثبيت موقع موريتانيا كدولةٍ قادرةٍ على إدارة حدودها بكفاءة واستقلال، دون السقوط في فِخَاخِ الاستقطاب الإقليمي أو التوتُّر مع الجوار، وستظلُّ كافَّة الخيارات مفتوحةً بين ثلاثة مسارات: “تثبيت القرار كخطوة نحو تعزيز السيادة، أو التراجع المحدود بفعل الضغوط، أو الانزلاق غير المقصود نحو صدام دبلوماسي أو ميداني مع أطراف إقليمية كبرى”، وفي كل الأحوال، فإن قرار “البريكة” يُمثِّلُ نقطة تحوُّلٍ فاصلةٍ في سياسة موريتانيا الحدودية، وقد يُعيد رسْم دورها في معادلات الساحل الكُبْرَى لعقْدٍ قادمٍ على الأقلِّ.
المصادر:
[1] موريتانيا تغلق “لبريكة” قرب تندوف.. خبير: نهاية استباحة البوليساريو للمنطقة، صوت المغرب، مايو 2025.
[5] عزيز سدري، موريتانيا تُغلق منطقة “لبريكة” الحدودية مع الجزائر: خطوة أمنية جريئة لصدّ التهريب وتهديدات الساحل.. ورسالة سياسية مشفّرة إلى البوليساريو وراعيها الجزائري، موقع بناصا، مايو 2025.
