المقالات
إقليم قناة السويس: رهان مصر للتموضع على خريطة سلاسل الإمداد العالمية
- مايو 23, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط

إعداد:مصطفى مقلد
باحث فى العلوم السياسية
مقدمة:
في ضوء التحولات المتسارعة في سلاسل الإمداد العالمية، والتي أعادت رسم خرائط الإنتاج والتوزيع بفعل التوترات الجيوسياسية والتقلبات الاقتصادية، تبرز الحاجة إلى إعادة تموضع الدول ذات الموقع الجغرافي الاستراتيجي لتعظيم فرصها في المرحلة المقبلة. وتمثل منطقة قناة السويس أحد أهم المعابر العالمية التي يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في هذه التغيرات، ليس فقط كممر ملاحي، بل كمركز لوجستي وصناعي متكامل عبر تعزيز الاستثمارات الأمريكية أو متعددة الجنسيات.
تهدف هذه المقاربة إلى تعزيز دور مصر كمركز توازن جيوسياسي ذكي في المنطقة، وتحقيق التنوع في مصادر التمويل والتكنولوجيا، وهذا التوجه المتكامل يضمن تحقيق مكاسب استراتيجية أكبر لمصر.
التوجه الحكومي:
كان قد صرح رئيس مجلس الوزراء د.مصطفى مدبولي، أنه في إطار اجتذاب استثمارات خارجية وأجنبية مباشرة لمصر، سيتم تنظيم منتدى اقتصادي مصري – أمريكي يومي 25 و26 مايو الجاري.[1] وسيوفر المنتدى منصة حوار مثمرة بين كبار المسؤولين المصريين وأكثر من 50 شركة أمريكية كبرى. وستُناقش فرص الاستثمار في مختلف القطاعات، بما في ذلك المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، بهدف دعم الأهداف التنموية والاستثمارية للدولة.[2]
كما استقبل وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، مؤخرا، مسعد بولس، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للشؤون العربية والشرق الأوسط والمستشار رفيع المستوي للشؤون الإفريقية، وتناولا سبل تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بين البلدين، ونوه الوزير المصري، عن فرص الاستثمار الواعدة في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وأهمية اغتنام الشركات الأمريكية ما توفره المنطقة الاقتصادية من فرص واعدة، خاصة في مجالات اللوجستيات والطاقة والتصنيع. كما تناول اللقاء الترتيبات الجارية لاستضافة القاهرة لفعاليات المنتدى الاقتصادي بين البلدين، بمشاركة كبرى الشركات الأمريكية بالتنسيق مع غرفة التجارة الأمريكية في واشنطن.[3]
دلالات تنظيم المنتدى الاستثماري المصري–الأميركي: مناورة استراتيجية في لحظة تحول عالمي
يأتي تنظيم مصر للمنتدى الاستثماري المشترك مع الولايات المتحدة في توقيت شديد الحساسية سياسيًا واقتصاديًا، بما يعكس رغبة مصرية واضحة في إعادة التموضع ضمن خريطة الاستثمارات الدولية، لا سيما مع تسارع التحولات في سلاسل الإمداد العالمية. ويمكن فهم هذا التحرك في ضوء ثلاثة مستويات مترابطة:
أولًا: إعادة التوازن في الشراكات الاستراتيجية
تُشكل هذه المبادرة إشارة إلى سعي القاهرة لتحقيق توازن أوضح في علاقاتها الاقتصادية الدولية، بعد سنوات من تعميق الشراكات مع الصين وروسيا. فبالتقارب مع الولايات المتحدة، تؤكد مصر انفتاحها على شراكات غربية عالية القيمة، وتقدم نفسها كموقع بديل أو مكمل للتمركز الصناعي الأميركي خارج آسيا.
ثانيًا: تعزيز فرص الربط بسلاسل التوريد الغربية
يُبرز المنتدى سعي مصر للارتباط البنيوي بسلاسل القيمة الأميركية، ليس فقط لجذب استثمارات مالية، بل لاكتساب مكانة صناعية ولوجستية ضمن النظام التجاري الغربي.
ثالثًا: توظيف الجغرافيا السياسية لصالح التنمية
يحمل المنتدى دلالات سياسية–أمنية، خصوصًا في ظل التوترات الإقليمية في غزة والسودان والبحر الأحمر، حيث تسعى مصر لتأكيد مكانتها كـ”مرتكز للاستقرار” يمكن البناء عليه اقتصاديًا.
رابعا: مناورة دبلوماسية في سياق توتر سياسي
يأتي المنتدى بعد وقت قد شهدت فيه العلاقات المصرية–الأميركية توترًا خلف الكواليس، خصوصًا بعد الضغوط الأميركية على القاهرة بخصوص استقبال الفلسطينيين من غزة كجزء من ترتيبات إنهاء الحرب. وعليه، فإن المنتدى يمثل رسالة مزدوجة: فمن جهة يؤكد استعداد مصر للتعاون الاستثماري مع واشنطن، ومن جهة أخرى يُظهر أن هذا التعاون مشروط باحترام المصالح والسيادة المصرية، وليس على حساب الأمن القومي أو الثوابت الإقليمية.
طموحات واقعية:
تتمتع مصر بموقع جغرافي استثنائي يربط بين ثلاث قارات، لكن لا تزال أدوارها الاقتصادية في سلاسل التجارة العالمية تتركّز في كونها “دولة عبور” – تمر عبرها السلع دون أن تُنتج
أو تُوزّع من داخلها بشكل مؤثر.
والتحول إلى مركز لوجستي–صناعي قيادي يُعزز:
-
النفوذ الإقليمي لمصر في إدارة التدفقات التجارية عبر البحرين المتوسط والأحمر.
-
الموقع التفاوضي مع القوى الكبرى (الولايات المتحدة، الصين، الاتحاد الأوروبي).
-
الاستقرار الاستثماري الداخلي عبر جذب شراكات طويلة الأجل.
منطقة تصنيع لوجستي متعددة الجنسيات وبمشاركة شركات أميركية
إن إنشاء منطقة صناعية ولوجستية أمريكية متكاملة في إقليم قناة السويس، سيعزز دمج مصر في سلاسل التوريد العالمية، مستفيدًا من موقعها الجغرافي الفريد وتحولات الاقتصاد الدولي نحو إعادة توطين الإنتاج. وهو ما يتطلب توفير شروط مسبقة تضمن نجاح المشروع واستدامته. مثل تقديم ضمانات سيادية قوية للشركات الأميركية، تشمل حماية الاستثمارات، تسهيل تحويل الأرباح، وتوفير آليات تحكيم دولي فعّالة. إلى جانب ذلك، ينبغي منح حزمة حوافز استثنائية تتضمن إعفاءات ضريبية وجمركية، فضلًا عن دعم لوجستي.
وهذا التوجه يسير بالتوازي مع تنمية حجم الاستثمارات الصينية في إقليم القناة والتي وصلت إلى 220 شركة عاملة في إقليم القناة وتستهدف مصر الوصول لـ 1000 شركة صينية بحلول 2030 [4].
أمريكا أقرب للتعاون:
حتى نهاية عام 2024، بلغ إجمالي الاستثمارات الأمريكية في مصر حوالي 8 مليارات دولار، وفقًا لتصريحات رئيس جهاز التمثيل التجاري المصري، يحيى الواثق بالله، خلال زيارته إلى واشنطن للمشاركة في الدورة السادسة من مفاوضات اتفاقية الإطار للتجارة والاستثمار بين البلدين.[5] وتشمل هذه الاستثمارات قطاعات متنوعة، أبرزها الصناعات غير البترولية، حيث بلغ حجم رأس المال الأمريكي المستثمر في هذا القطاع نحو 2.4 مليار دولار موزعة على 1,824 شركة تعمل في مصر.[6]
بالإضافة إلى ذلك، قدمت الولايات المتحدة دعمًا ماليًا لمصر بلغ 129 مليون دولار في عام 2024، بهدف تعزيز القطاع الخاص، وتطوير التعليم العام، وتحسين خدمات الصحة العامة، ودعم برامج الحوكمة.[7]
تُظهر هذه الأرقام وجود علاقة اقتصادية قوية بين مصر والولايات المتحدة، مع إمكانيات كبيرة لتعزيز التعاون في مجالات جديدة مثل التكنولوجيا، والخدمات اللوجستية، والصناعات المتقدمة، خاصة في ظل التوجه العالمي نحو تنويع سلاسل التوريد وتقريبها جغرافيًا من الأسواق المستهدفة.
كما تأتي مصر ضمن الدول التي تعتبر مناسبة لتحقيق أهداف استراتيجية مثل “الصداقة في التوريد” (friendshoring)[8]، حيث يمكن نقل بعض سلاسل التوريد بعيدًا عن آسيا، لا سيما في القطاعات التي تعتمد على العمالة كثيفة اليد العاملة. وبفضل موقع قناة السويس الفريد، تصبح مصر منصة ممتازة لإعادة تصدير البضائع الأميركية، مما يدعم توجه الولايات المتحدة لتقليل اعتمادها على سلاسل التوريد الآسيوية وزيادة تنوع مصادرها.
أما من حيث التنفيذ، فإن هذا المقترح لا يتطلب قرارًا حكوميًا أميركيًا مباشرًا، بل يمكن تحقيقه عبر تسهيل مشاركة شركات أميركية.
في حال تعثر التعاون:
يُؤخذ في الاعتبار احتمال رفض الجانب الأميركي للمقترح لأسباب متعددة، منها حساسية التوازنات الإقليمية، وضعف الاهتمام الأميركي الحالي بضخ استثمارات صناعية كبيرة في مصر، إضافة إلى تحديات تتعلق ببيئة التصنيع المصرية من حيث كفاءة الإنتاج وتكامل سلاسل التوريد.
وفي هذه الحالة، يمكن تطوير مناطق تصنيع ولوجستية متعددة الجنسيات لا تتسم بهوية أميركية مباشرة، بل تضم شركات من الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج معًا، ما يخلق توازنًا استثماريًا دون استفزاز أي طرف دولي. كذلك يمكن استهداف شركات أميركية في مجالات أقل حساسية سياسيًا، أو بحث فرص إنشاء «منطقة صناعية أوروبية موحّدة» داخل المنطقة الاقتصاديّة لقناة السويس على غرار المنطقة الصينيّة (TEDA) أو المنطقة الصناعيّة الروسيّة.
مع الأخذ في الاعتبار أن إشراك شركة شحن دولية كطرف فاعل داخل التحالف الاستثماري لا يعني فقط توفير خدمات الشحن المعتادة، بل يمثل عنصرًا حيويًا في التخطيط والتكامل الاستراتيجي للمنطقة الصناعية اللوجستية، ويضمن التزامًا طويل الأمد واستثمارًا مباشرًا في تطوير البنية التحتية، مما يعزز كفاءة العمليات ويوفر حلولًا متقدمة مثل أنظمة التتبع الذكية ومراكز التبريد المتطورة. كما يقلل من المخاطر التشغيلية التي قد تواجه المستثمرين، بالإضافة إلى ذلك، تساهم شركة الشحن كشريك فاعل في تعزيز التسويق والترويج للمنطقة ضمن شبكاتها العالمية، مما يزيد من جاذبية المنطقة الاستثمارية ويضمن تحقيق التكامل الأمثل بين الأنشطة الصناعية واللوجستية، وهو ما يصعب تحقيقه في حال اعتماد خدمات الشحن بشكل منفصل دون دمجها في التحالف.
توصية:
بالنظر إلى التشابك المعقّد بين الديناميكيات الاقتصادية والجيوسياسية في إقليم قناة السويس، فإن اختيار الشريك الدولي الأمثل لجذب الاستثمار ينبغي أن يُبنى على مقاربة متكاملة تجمع بين الفعالية الاقتصادية والوزن الاستراتيجي. وفي هذا الإطار، تُظهر المقارنة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن كلاً منهما يقدم مزايا مختلفة لمصر، ويُفضل عدم الاقتصار على خيار دون الآخر.
من الناحية الاقتصادية والتنفيذية، يُعد الاتحاد الأوروبي الشريك الأكثر جاهزية وواقعية على المدى القريب. فالاتحاد يتمتع بعلاقات تجارية متينة مع مصر، كما أن حضوره الاستثماري واسع ومتنوع، ويغطي قطاعات حيوية من الطاقة إلى الصناعة والخدمات اللوجستية. هذا بالإضافة إلى قربه الجغرافي، وارتباطه باتفاقيات تسهّل النفاذ إلى الأسواق وتيسير حركة البضائع والاستثمارات. كما أن أدوات التمويل الأوروبية كالبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD) وبنك الاستثمار الأوروبي (EIB) تشكّل رافعة مالية قوية لتنفيذ مشروعات لوجستية وصناعية في الإقليم بسرعة وكفاءة.[9]
لكن في المقابل، تظل الولايات المتحدة شريكًا استراتيجيًا لا غنى عنه، نظرًا لما تملكه من نفوذ عالمي في مجالات التكنولوجيا والأمن وسلاسل التوريد العابرة للقارات، بالتالي فإن إشراك شركات أميركية كبرى في مشروع صناعي–لوجستي في إقليم قناة السويس لا يعزز فقط مكانة مصر الاقتصادية، بل يرسّخ موقعها في الخريطة الجيوسياسية للولايات المتحدة، ويفتح أمامها آفاقًا للاندماج في مبادرات توريد استراتيجية كتلك المرتبطة بإعادة توزيع الصناعات بعيدًا عن الصين. ورغم أن الشركات الأميركية تتسم بالحذر وتتحرك ببطء، إلا أن تأمين بيئة حوافز مستقرة وضمانات سيادية واضحة يمكن أن يدفعها للدخول في شراكات حيوية مع مصر.
من ثم، فإن التوصية الأكثر وجاهة وفعالية تتمثل في تبني نموذج استثماري متعدد الجنسيات، يجمع بين الشركاء الأميركيين والأوروبيين والخليجيين، وهذا النموذج من شأنه أن يوفّر التوازن اللازم بين سرعة التنفيذ الأوروبية، والثقل الجيوسياسي الأميركي، والدعم المالي الخليجي.
ختاما، تكشف التحولات الهيكلية في سلاسل الإمداد العالمية عن فرصة نادرة أمام مصر لتعزيز مكانتها كفاعل لوجستي وصناعي، وليس فقط كدولة عبور. فمع ظهور الحاجة الملحة إلى تنويع مواقع الإنتاج والربط، تزداد أهمية الممرات الآمنة والمواقع القريبة من الأسواق، وهو ما تمتلكه قناة السويس بامتياز.
لكن تحويل هذا الموقع الجغرافي إلى ميزة تنافسية حقيقية يتطلب صياغة سياسات وتشريعات محفزة، وتطوير بنية تحتية مرنة وموثوقة، إلى جانب بناء شراكات استراتيجية مع الشركات والمؤسسات الأمريكية بما يخدم مصالح الطرفين.
المصادر:
[1] رئيس الوزراء: إقامة منتدى مصري أمريكي نهاية مايو الحالي لجذب الاستثمارات الأجنبية.. https://linksshortcut.com/fKzEt
[2] المنتدى الاقتصادي المصري الأمريكي: فرص استثمارية واعدة على أرض الكنانة.. https://linksshortcut.com/OgZJP
[3] مصر تعرض على أمريكا فرص استثمار واعدة في منطقة قناة السويس.. https://linksshortcut.com/QlbKA
[4] «اقتصادية قناة السويس».. رهان رابح للصادرات الصينية نحو أوروبا وأفريقيا.. https://www.alborsaanews.com/2025/05/20/1889474
[5] American investments in Egypt currently amount to about $8 billion | ECS.. https://linksshortcut.com/TVJcQ
[6] Egypt-U.S. Business Relations.. https://linksshortcut.com/FrxSC
[7] UNITED STATES ANNOUNCES $129 MILLION INVESTMENT IN EGYPT’S DEVELOPMENT DURING U.S.-EGYPT STRATEGIC DIALOGUE.. https://linksshortcut.com/GOkGR
[8] كيف تؤثر سياسة “دعم الأصدقاء” في الاقتصاد العالمي؟.. https://linksshortcut.com/tpCTf
[9] البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD) والبنك الأوروبي للاستثمار (EIB) والاتحاد من أجل المتوسط (UfM) بدعم سياسي من المفوضية الأوروبية بصدد إقامة شراكة البحر الأبيض المتوسط الزرقاء الجديدة .. https://linksshortcut.com/rJNCz