رسمتْ التحولاتُ الجيوسياسيةُ التي شهدها النسقُ الدولي على مدار العقود الماضية مساراً معقداً ومغايراً للسياسة الخارجية للدول، ففرضت على الدول التعامل مع فواعلِ غير دولتية تم العمل على إعادة استحداثها بشكل ممنهج في البيئة الدولية بغض النظر عن الانعكاساتِ المترتبةِ على هذا المسار الخطير من مسارات السياسة الدولية، وتأتي الجمهوريةُ الإسلاميةُ الإيرانيةُ في مقدمة الدول الأكثر خبرة في إدارة هذا النوع من العلاقات مكونة بذلك شبكة من التحالفات تتجاوز التصنيفات التقليدية وهو ما انعكسَ بشكلٍ مباشر على معادلة الأمن الشرق الأوسطي المقٌعدة بالفعل.
وفي الآونةِ الأخيرة ظهرَ عددٌ من التقارير التي تُنذرُ بوجود نقاط التقاءٍ وتفاهمٍ ما بين الجمهورية الإيرانية وبين تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وأخذت هذه التفاهمات تتبلورُ بشدةٍ في ظلِّ التغيرات المحورية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وصولاً للمرحلة الأكثر اشتعالاً تزامناً مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والذي صاحبه ارتداداتٌ عكسيةٌ على النفوذ الإيراني في المنطقة لا سيَّما بعد إضعاف محور المقاومة وعلى رأسه حزبُ الله اللبناني ونظام الأسد في سوريا، وعليه أثارَ هذا الملفُ جدلاً واسعاً في الأوساط الأمنية الإقليمية والدولية وصاحَبَ هذا الجدلَ عددٌ من التساؤلاتِ أبرزها هل من الممكن للجمهورية الإيرانية تجاوز خلافاتها المذهبية مع تنظيم “الدولة” لتحقيق مصالح حيوية في المنطقة، وهو ما يتناولهُ هذا التقرير من خلال عرض وتحليل وجهات النظر المختلفة في هذا السياق مع التركيز على الوصول لرؤيةٍ مستقبليةٍ حول شكل وحقيقة هذه التفاهمات ومدى واقعيتها.
إيرانُ و داعش: مصالحُ مشتركة
منذ 2023م ظهرت العديد من التحقيقات والتقارير الصادرة عن المرصد السوري لحقوق الإنسان تكشفُ عن وجود تعاونٍ سريٍ بين تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام والحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني على الأراضي السوريةِ وأخذتْ هذه التقارير تتصاعدُ مع تَصاعدِ الأحداث في الشرق الأوسط بشكلٍ عام والواقع السوري بشكل خاص حتى وصلت ذروتُها مع انهيار نظام الأسد وتولّي “أحمد الشرع” رئيساً للمرحلة الانتقالية للجمهورية السورية ، وكشفت هذه التحقيقات عن أن المستوياتِ الرفيعةَ والدقيقةَ من التنسيق بين تنظيم الدولة وأذرعِ إيران المباشرة وغير المباشرة تقومُ على أساسِ منفعةٍ متبادلةٍ بين كلا الطرفين. ([1])
وقد كشفت هذه التقارير إيضاً عن أن هذه التفاهمات بدأت تأخذ منحىً واقعياً منذ أبريل 2021 م حيث أرسلَ الحرسُ الثوري الإيراني برقيةً رسميةً للقيادة الخاصة للقوات الإيرانية في سوريا والمليشيات التابعة لها تطالبهم بالتركيز على فتْحِ خطوط تواصل مع “داعش” عن طريق القبائل السورية التي تقفُ على مسافاتٍ متساوية بين الأذرع الإيرانية والتنظيم والعمل توحيد الرؤى في سبيل مواجهةِ النفوذِ الغربي المتصاعد في المنطقة، وقد جرى تنفيذ هذا التصور من خلالِ عددٍ من الاجتماعات بدأت تعقد منذ مايو من ذات العام ومازالت مستمرةً قادها “أحمد العموري” أحدُ قادةِ قبائل “حماة” في منطقة محايدة بالنسبة للطرفين تُعرفُ (بكباجب)، وقد أسفرَتْ هذه الاجتماعات عن تراجعِ عملياتِ التنظيم ضد الأهداف الإيرانية، وعقْد عددٍ من الاتفاقات لتبَادل الأسرى بين الطرفين فضلاً عن التسهيلات التي يقدمها الحرسُ الثوريُ للتنظيم للمرور والتحرك بحرية عبر الأراضي الإيرانية علاوةً على ذلك التنسيق الدقيق لعملياتٍ مشتركةٍ من الطرفين كان أولُها وأخطرُها عمليةَ سجن “غويران” 2022م الذي يضمُ عدداً من القادةِ والعناصرِ البارزةِ في التنظيم والذي يقع تحت إدارة وإشراف القوات الكردية في منطقة “الحسكة” وذلك بعد توفير الحرس الثوري لكافةِ المعلوماتِ اللازمةِ لتنفيذ العملية إضافةً إلى تأمين ملاجئ وطرق إخلاء لعناصر التنظيم بعد تنفيذ العملية.
من الصراعِ الإيديولوجيِ إلى التوافقِ الإستراتيجي
وتاريخياً، ترتبطُ العلاقةُ بين الجمهورية الإيرانية وتنظيم الدولة بفترة ما بعد الغزو الأمريكي للعراق 2003م، حيث تزامن ذلك مع صعود تنظيم “القاعدة” العالمي في العراق ومن ثم انفراط عقْده لينبثق منه تنظيم الدولة، تزامنَ هذا الظهور من رؤيةٍ إيديولوجيةٍ بطموحات جيوسياسيةٍ للجمهورية الإيرانية عملت من خلالها على تأمين موطئِ قدمٍ لها في الداخل العراقي وعليه بدأت في شنِّ حربٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ على التنظيمات والجماعات السُنية في العراق بما فيها تنظيم “الدولة الإسلامية” وعزز من ذلك المجازر التي ارتكبها ومازال يرتكبها التنظيمُ ضد الشيعة سواء في الداخل العراقي أو خارجه وصولاً لقلب المدن الإيرانية وعلى رأسها العاصمة “طهران”([2]).
وعلى الرغم من الطابَعِ العدائي المعلن للعلاقات بين الطرفين فإن مؤشراتٍ عدة بدأت تتصاعد حول تحييدها للعوامل الأيدلوجية الفكرية في سبيل عدد من نقاط الالتقاء، خاصة أن الحرسَ الثوريَ الإيراني يرجح ويدعم بشدة هذا التوجه من منطلق أن الخلافَ العقائديَ لا يجب أن يكونَ مبرراً لاستمرار حالة العداء هذه بالشكل الذي يجعلها سبباً في عرقلةِ المصالح الاستراتيجية لكلا الطرفين في المنطقة، والجدير بالذكر أن الجمهوريةَ الإيرانية لا تجدُ حرجاً في تجاوز الخلافات المذهبية والإيديولوجية لتحقيق مصالحها الجيوسياسية في المنطقة ولعل أبرزَ ما يؤكد ذلك تقاربها الواضح مع تنظيم “القاعدة” خاصةً فرع جزيرة العرب وهو الأمرُ الذي ظهر بشكلٍ مباشر من خلال النظام الإيراني الذي يقدمُ الملجأَ والحماية “لسيف العدل” مسؤول التنظيم في الجزيرة العربية أو بشكل غير مباشر من خلالِ تقارباتٍ وثيقةٍ جداً بين “قاعدة” شبه الجزيرة وقاعدة الصومال متمثلةً في حركة ” الشباب” من جهة و”أنصار الله الحوثي” من جهةٍ أخرى، فضلاً عن التعاون والعلاقات الاستراتيجية مع التنظيم ككل منذ فترة “بن لادن” و “الظواهري” ([3])، والشاهد أن إيران لديها خبرةٌ واسعةٌ في توظيف الأداة البراجماتية لدعم نفوذها الإقليمي، فضلاً عن أنها لا تتردد في الاستخدام المباشر وغير المباشر للقوةِ في المنطقة بما يمثّلُ تهديداً خطيراً للأطراف الأخرى مادام يدور في فلك تصورها الجيوسياسي للشرق الأوسط.
إيران وداعش: كيف توحدت الرؤى؟
وعليه فإننا بصددِ واحدةٍ من أخطر وأعقد أشكال التحالفات في المنطقة، فإيران التي شاركت بفاعليةٍ في التحالف الدولي ضد “داعش” وقدمت كافة سبل الدعم لميليشياتها وأذرعِ محاورِها المنتشرة بشكلٍ استراتيجيٍ في المنطقة لمحاربة التنظيم تقفُ الآن في مسافة تكاد تكونُ هي الأقربَ على مدار سجل العلاقات فيما بينهما، وعلى الرغم من الضبابية الشديدة التي تشوبُ المشهدَ ما بين إيران والتنظيم يمكن تفسيرُ هذه التحركات من خلال عددٍ من الدوافع التي أفرزها الواقعُ الأمنيُ والسياسيُ والاقتصادي والفكري في الشرق الأوسط والتي أدتْ بشكلٍ غير مباشر لخلْقِ مساحات لأهداف جيواستراتيجية مشتركة جمعت الطرفين بشكل غير متوقع إلا أنه حدث ([4])، ويمكن تحليل هذه الدوافع كالآتي:
دوافع إقليمية:الواقع الإقليمي الذي أفرز عدد من الملفات التي اتحدت فيها اهداف التنظيم مع الجمهورية الإيرانية في مقدمتها العداء الواضح من الطرفين تجاه الوضع الجديد في سوريا بعد الأسد، فضلاً عن النفوذ الغربي الواسع في المنطقة وهو ما يرفضه التنظيم وإيران على حد السواء ولكن لأسباب مختلفة.
دوافع دولية: الواقع الدولي المعادي لكل من التحركات الإيرانية المدفوعة برؤية أحادية لمستقبل المنطقة، فضلاً عن النشاط الإرهابي للتنظيم الذي كان ومازل من أخطر التحديات الأمنية تواجهها المنطقة،
دوافع مشتركة: يوفر هذا التعاون شراكة استراتيجية لكلا الطرفين فإيران تضمن به تخفيف هجمات التنظيم ضد مصالحها ونفوذها الذي أصبح متأرجح في الآونة الأخيرة بشكل كبير، فضلا عن أنها ستضمن وجود طرف يخوض حروبها بالوكالة لا سيما في سوريا والعراق، ومن طرفه فإن الجمهورية الإيرانية توفر للتنظيم دعماً لوجستياً وعسكرياً ومعلوماتياً واسعاً خاصة في ظل تراجع نفوذ العسكري للتنظيم بالتزامن جهود المكافحة التي تشنها الأجهزة المعنية محلياً ودولياً وعلى رأسها التحالف الدولي.
إيران وداعش: هدنة مؤقته أم تحالف طويل الأمد؟
في الوقت الذي تسعى فيه الجمهورية الإيرانية لتحقيق مصالحها في المنطقة وأهمها حالياً أستعادة وترميم محورها المتهالك تحاول رسم خط دقيق بين هذه الطموحات وبين عدم الإنخراط والتورط بشكل علني في فخ التعاون مع تنظيم الدولة لذلك فإن الحرس الثوري الإيراني يعمل على إدارة هذه الشبكة الدقيقة من العلاقات بشكل غير مباشر من خلال حزب الله اللبناني وعدد من المليشيات الشيعة المتتشرة في كل من لبنان وسوريا والعراق وهو ما أكده تقرير المرصد السوري في عدد من تسريبات قادة وأعضاء في حزب الله، ومن المتوقع بشكل كبير أن تشهد هذه التفاهمات مستويات أعمق وأدق خاصة في ظل تقاطع الأهداف وفي ظل وضع إقليمي ودولي محفز لهذا التوجه، ومع ذلك فإنه بالرغم من هذا التقارب سيظل الحذر عامل حاسم بالنسبة لكلا الطرفين خاصة وأن كليهما يدرك أنه التقارب مدفوع برؤية مصالحيه بحته وبواقع إقليمي أجبرهم على توحيد الروئ لتحقيق أهداف تبدو في ظاهرة مشتركة لكنها تنطلق من خلفيات ودوافع هي الأكثر تناقضاَ وتباعداً.
وبالرغم من صعوبة التنبؤ بمستقبل العلاقات بين إيران وتنظيم الدولة، نظراً للتطورات المتسارعة في المنطقة، والتغيرات في موازين القوى الدولية إلا أنه يمكن القول أن العلاقة بين الطرفين ستظل محكومة بالمصالح المتبادلة، وستتأرجح بين العداء والتعاون وفق ما تفضي إليه مقتضيات الواقع الدولي والإقليمي والحسابات الجيوسياسية لكلا الطرفين، ففي الوقت الذي ستواصل فيه إيران محاربة التنظيم علناً، فإنها قد تلجأ إلى التعاون معه بشكل غير مباشر في بعض المناطق والأمر ذاته بالنسبة للتنظيم الذي يرى في التراجع الإيراني الحالي فرصة مناسبه لتعويض خسائره في العراق والشام، وبنظرة استشرافية لما يمكن أن تؤل إلية مستجدات هذه التفاهمات يمكن تصور أن الطرح الأكثر واقعية فيما يتعلق بهذا الملف يتمثل في استمرار حالة العداء العلني والتعاون الخفي سواء في الشرق الأسط أو في مناطق أخرى كالقارة الأفريقية، خاصة في ظل انتهاج كلا الطرفين نهج يقوم على فتح مجالات ومناطق للنفوذ خارج الشرق الأوسط لا سيما في أفريقيا التي أصبحت الآن ساحة التنافس الأبرز وظهر فيها كل من إيران والتنظيم بقوة، لذلك من المتوقع أن ينعكس هذا التعاون على توسع الطرفين في القارة الأفريقية وبالتالي استبعاد الطرح الذي يدور حول امكانية التأسيس لتحالف طويل الأمد بين كلا الطرفين في ظل تعارض الخلفيات الايدلوجية المؤسسة لعقيدة كل طرف، بل أن وجود تحالف طويل الامد هو بمثابة التخلي بشكل ضمني عن هذه الأيدولوجيات وبالتالي وقوف الطرفين أمام عدد من التساؤلات التي سوف تطرح في الإساس من قِبل أنصار كل منهما عن جدوى الحروب والخسائر على مدار عقود إذ كنا أمام عقائد وأيدولوجيات قابلة للتماهي لصالح التفاهمات السياسة، وعليه فإن كلا الطرفين لن يخاطر للدرجة التي قد تعرض أيدولوجيته الخاصة للمراجعة والنقد وذلك في ظل معرفة ويقين تام لدى الطرفين بأن وضع كهذا سوف ينذر بنهاية حتمية لكليهما، وعليه فإن هذه التفاهمات هي أقرب إلى أن تكون مجرد هدنة مؤقته أو تعاون مُحكم من خلال سياسيات دقيقة للغاية.
إجمالًا:
يمكن القول أن العلاقة بين إيران وتنظيم الدولة هي علاقة معقدة ومتشابكة، تتسم بالديناميكية والتطور المستمر، تتأثر بالعديد من العوامل، بما في ذلك التطورات في المنطقة، والتغيرات في موازين القوى الدولية. وفهم هذه العلاقة أمر بالغ الأهمية لفهم التطورات في الشرق الأوسط، والتنبؤ بمستقبل المنطقة، ولعل أخطر ما يترتب على وجود مثل هذه التفاهمات هو استخدام إيران لهذه الجماعات والمليشيات كأوراق ضغط محورية في معادلة الأمن الإقليمي، علاوة على ذلك فإن حدوث أدنى خلل في هذا التفاهمات قد ينتج عنه عودة أكثر حدة وعنف في المنقطة سوف يتحمل تداعياتها بشكل أساسي ومباشر المدنيين في دول الصراع، خاصة وأن كلا الطرفين في هذه الحالة لا سيما تنظيم الدولة سوف يكون قد عمل على إعادة ترتيب وتقويه صفوفه بشكل غير مسبوق.
المصادر:
[1] ( المرصد السوري يكشف بالوثائق والدلائل تفاصيل التعاون السري بين حزب الله والحرس الثوري وتنظيم “الدولة الإسلامية”، المرصد السوري لحقول الإنسان، 17 يوليو 2023، متوفر على: https://www.syriahr.com
[2]) أبرز الهجمات التي شهدتها إيران في السنوات الأخيرة، BBC NEWS عربية، متوفر على: https://www.bbc.com
