شهدت السَّاحةُ الأوروبيةُ في الفترة الماضية تفاعُلًا واضحًا من قِبَلِ الملياردير الأمريكي إيلون ماسك مع المشهد السياسي هناك؛ حيث لم يقتصر تدخُّله على مُجرَّد تصريحات أو تعليقات عابرة، بل تجاوز ذلك إلى تقديم دعْم مباشر لتيارات سياسية بعيْنها على حساب الحكومات القائمة في بعض الدول الأوروبية، وتجدر الإشارة أن دعم ماسك الواضح لحملة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان بمثابة إشارة واضحة لموجة تفاعلات مستقبلية تتعلق بالقارة الأوروبية، بعد أن تحقّق حملة ترامب أهدافها، وهو الأمر الذي أثار جدَلًا واسعًا على الصعيد السياسي الأوروبي؛ حيث قُوبل هذا الدور -وتحديدًا منذ فوز ترامب – بردود فعلٍ متباينةٍ؛ حيث اعتبرته التيارات الليبرالية واليسارية تدخُّلًا غير مقبول في شؤون القارة، من شأنه أن يهدد ديمقراطيتها واستقرارها، بينما رأت التيارات المحافظة في دعْم ماسك خطوة إيجابية تعزز من قوتها وتساعدها على استعادة موقعها في صدارة المشهد السياسي.
في هذا السياق، يمكن تناول أبعاد تفاعل ماسك مع السياسة الأوروبية، وأسباب دعمه لليمين، وكيفية تعامل الحكومات الأوروبية مع تدخُّله في الشؤون الداخلية، فضلًا عن تأثير علاقته بإدارة ترامب على توجُّهاته السياسية تجاه القارة الأوروبية.
تفاعلات ملموسة
أولًا: تحالف وثيق مع ميلوني
إن ثمَّةَ تفاهمًا متزايدًا وعلاقةً وثيقةً بين إيلون ماسك ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، تشبه إلى حدٍّ ما العلاقة القوية بين ماسك والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كما هو حادث في الحالة الأمريكية، ورغم الانتقادات التي تواجه هذا التحالف داخل إيطاليا، وبالتحديد من قِبَلِ الأحزاب اليسارية، فإنه لم يتأثر بهذه الهجمات وبقي صامدًا، ولا يقتصر تحالف ماسك وميلوني على تقارب رؤاهما الأيديولوجية اليمينية في التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية فحسب، بل يمتد ليشمل شراكات عملية ومشروعات مشتركة، فبصفته رجل أعمال بارز لديه العديد من الشركات التكنولوجية الرائدة، وبصفتها زعيمة سياسية تمتلك القدرة على تهيئة المناخ المناسب لإنجاز مشاريع ماسك، والتغلب على العقبات البيروقراطية التي قد تعرقل تنفيذها، يمكن فهم طبيعة أعمق لهذا التعاون، ويعد التعاون المرتقب بين شركة “ستارلينك” التابعة لماسك والحكومة الإيطالية أحد أبرز تجليات هذا التحالف[1]، وقد دافعت ميلوني بشدة عن هذا المشروع، مؤكدةً التزامها بتوفير الأطر التنظيمية اللازمة لإنجاحه؛ بما يعكس متانة العلاقة بين الطرفين، ورغبة كل منهما في تعزيز هذا التعاون.
ثانيًا: دعم حزب البديل من أجل ألمانيا
مع اقتراب الانتخابات الألمانية المقبلة، بات إيلون ماسك لاعبًا نشطًا في السَّاحة السياسية الألمانية؛ حيث أبدى دعمه العلني لحزب “البديل من أجل ألمانيا”، معتبرًا إياه الحزب الأكثر أهلية لقيادة البلاد؛ نظرًا لتوجُّهه اليميني، ولم يقتصر دعْم ماسك على التصريحات العلنية، بل امتدَّ إلى المشاركة في فعاليات الحزب الانتخابية وإجراء مقابلات مع رئيسته، في حين أشارت بعض التحليلات إلى احتمال تقديمه دعمًا ماليًّا للحزب، على غرار ما فعله مع حملة ترامب الأخيرة، رغم عدم وجود أدلة رسمية تؤكد ذلك حتى الآن.
من ناحية أخرى، شهدت الفترة الماضية تصاعُدًا في التوتر بين ماسك والمستشار الألماني أولاف شولتس؛ حيث لم تلتزم انتقادات ماسك بالحدود الدبلوماسية المعتادة، ووصلت إلى مستوى وصفه لشولتس “بالحماقة” ولقرارته بغير المنطقية، وهو ما أثار استياء المستشار الألماني الذي بدوره وجَّه انتقادات حادَّة لماسك[2].
وفي ظل هذا المشهد، يثار تساؤل حول مدى قدرة ماسك على التأثير في نتائج الانتخابات الألمانية المقبلة، ورغم عدم وجود أدلة ملموسة على ذلك، أظهرت بعض استطلاعات الرأْي، من بينها استطلاع أجراه معهد Civey”” اعتمد على بضعة آلاف من المواطنين الألمان، أن نحو ٤٢% من المستطلعين، يرون أن دعم ماسك لحزب “البديل من أجل ألمانيا” قد يؤثر على الانتخابات عبر وسائل مختلفة، مثل الدعم المالي، أو تعزيز حضور الحزب دعائيًّا وتقنيًّا، أو حتى من خلال خوارزميات منصَّة “إكس” التي يمتلكها[3].
ثالثًا: انتقاد صارم لستارمر
تشهد التوترات الكلامية بين إيلون ماسك وبريطانيا تصاعُدًا ملحوظًا بطريقة يمكن من خلالها القول: إن القاعدة التي تحكم انتقادات ماسك لرئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر هي انتماؤه لحزب العمال وليس لأيِّ سببٍ آخر.
ففي بداية يناير الماضي، شنَّ ماسك هجومًا عنيفًا على ستارمر، مستخدمًا كعادته في انتقاد خصومه السياسيِّين غير اليمينيِّين مصطلحات قاسية؛ حيث طالب علنًا بضرورة “حبس” رئيس الوزراء البريطاني على خلفية قضية تتعلق باستغلال الأطفال جنسيًّا، وهي قضية قديمة عمل ماسك على إحيائها مجددًا، خصوصًا أن رئيس الوزراء البريطاني الحالي كان آنذاك مدعيًا عامًّا.
وفي ردِّ فعلٍ سريعٍ، شنَّ كير ستارمر هجومًا مضادًا، مشيرًا إلى أن دفاع ماسك الظاهري عن قضايا استغلال الأطفال لا ينبع من حرصه الحقيقي على الضحايا، بل من مصلحة شخصية، تتمثل في تشويه صورة الحكومة، التي لا تتوافق توجُّهاتها مع قناعات ماسك السياسية[4].
بشكلٍ عامٍ، تتمحور تدخُّلات ماسك السياسية في أوروبا ما بين انتقادات صارمة من ناحية ودعم صارم من ناحية أخرى، ففي الوقت الذي تنظر بعض الدول إلى دوره باعتباره تدخُّلًا غير مُبرَّرٍ في الشؤون الداخلية لدول القارة، نجد أن في الدول التي تتزعمها أحزاب يمينية، وجود تحالف واضح بين ماسك وقادتها؛ مما يعكس حالة الانقسام الحادّ التي تشهدها أوروبا بشأن دوره وتأثيره السياسي.
دوافع ماسك بدعم اليمين الأوروبي
إن ثمَّة تشابهًا بين المنهجية التي يتعامل بها ترامب مع مختلف القضايا التي تواجه الولايات المتحدة، والتي تعتمد في الغالب على “سياسة الصفقات”، وبين المنهجية التي يتعامل بها إيلون ماسك في دعمه الحكومات اليمينية، والتي تعتمد في الغالب أيضًا على سياسة الصفقات والمنفعة المتبادلة.
وبالنظر إلى الجدوى من دعْم ماسك لليمين الأوروبي، فإننا بصدد مجموعة الدوافع الأيديولوجية والاقتصادية، كلاهما مُكمِّلَان لبعضهما، ويؤديان في نهاية المطاف إلى تعزيز مصالح ماسك التجارية.
فمن الناحية الأيدلوجية يرى ماسك، أن دعمه لصعود الأنظمة اليمينية سوف ينعكس في حال ما إذا وصلت هذه الأنظمة إلى السلطة على استحداث أسسٍ عمليةٍ تصُبُّ في مصلحة أعماله ومستقبل نموها.
أما من الناحية الاقتصادية، يتبنَّى ماسك موقفًا مناهضًا للبيروقراطية والتدخُّل الحكومي، ويرى أن الأحزاب غير المحسوبة على اليمين الأوروبي تميل إلى فرْض قيود تنظيمية صارمة على الشركات الكبرى، وهو ما يتعارض مع فلسفته الداعمة لحرية السوق، كما أن ارتباطه باليمين السياسي يعكس قناعته بأن هذا التيار أكثر دعمًا لرواد الأعمال وأقل تدخُّلًا في سياسات الشركات؛ مما يمنحه حرية أكبر في إدارة مشروعاته التكنولوجية والاقتصادية دون رقابة مشددة.
ونتيجة لذلك، فإن ماسك يهدف إلى التأثير في المشهد السياسي الأوروبي، من خلال دعم الأحزاب والشخصيات، التي يمكن أن تتيح له بيئة مواتية لنشاطاته، ويتجلى هذا بوضوح في علاقته برئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، كما سبق الذكر؛ حيث يجمعهما رفض السياسات اليسارية، فضلًا عن التعاون المحتمل بين حكومتها وشركاته، ومن العوامل التي لا يمكن إغفالها في هذا السياق، تحالف ماسك الواضح مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ حيث إن مواصلة البناء على هذا التحالف، ومن ثم دعم صعود تيارات يمينية في دول أوروبا، من شأنه أن يخلق بيئةً أمريكيةً أوروبيةً أقرب ما تكون للمثالية لنموِّ أعمال ماسك على مدى السنوات المقبلة.
كيف ستتعامل أوروبا مع ماسك؟
أولًا: مسار تصعيدي
ويتعلق هذا المسار بتصعيد المواقف الأوروبية ضد إيلون ماسك؛ بحيث لا تصبح مجرد انتقادات تُطلق عبْر تصريحات صحفية كرد فعل على مواقفه، بل تتحول إلى مجموعةٍ من الإجراءات التقييدية ضد أنشطته التي يصفها زعماء القارة بأنها تدخُّل غير مقبول في شؤون دولهم، وتهدف هذه الإجراءات إلى وضْع حدٍّ لهذا التدخُّل، مثلًا عبر تبنِّي أوروبا منهجيةً جديدةً في التعامل مع منصة “إكس” المملوكة لماسك، والتي يستخدمها كمنبرٍ لمهاجمة القادة الأوروبيِّين والترويج لأجندات يمينية، لكن من زاوية أخرى، أنه يجب الوضع في الاعتبار، أن ماسك لم يعُدْ ينظر له كما كان في مرحلة ما قبْل انتخاب ترامب؛ حيث كان يُنظر إليه في هذه المرحلة كرجل أعمال له آراء سياسية، ولكن ليست بالوضوح نفسه والتأثير الحالي، غير أن تحالفه مع ترامب الذي أسهم في فوز الأخير وعودته إلى السلطة، جعل من ماسك أحد أبرز الفاعلين السياسيِّين في إدارة ترامب ومحسوب بشكل أو بآخر على هذه الإدارة.
لذا، فإن هذا الواقع الجديد قد يجبر الحلفاء الأوروبيِّين على التفكير بحذرٍ قبْل اتخاذ أيِّ إجراءات تصعيدية ضد ماسك؛ لأن أي خطوة في هذا الاتجاه قد تزيد من حِدَّة التوتر القائم في الأساس في علاقتهم مع إدارة ترامب؛ لذا، يمكن القول: إن التعامل الأوروبي الصارم مع ماسك ليس خيارًا سهلًا؛ نظرًا لما قد يترتب عليه من تعقيدات سياسية ودبلوماسية لهم.
ثانيًا: مسار احتوائي
يتعلق هذا المسار بتقديم الدبلوماسية على الإجراءات العقابية التي قد تُتخذ ضد ماسك، ويرجع ذلك لسببيْن رئيسييْن:-
أ- السبب الأول
وهو أن القارة الأوروبية لا تستطيع اتخاذ قرار جماعي بفرْض قيود تنظيمية صارمة على أنشطة ماسك، وتحديدًا فيما يتعلق بأنشطته الإعلامية عبْر منصة إكس. ويعود ذلك إلى انقسام زعماء القارة حول مدى خطورة الدور الذي يلعبه؛ حيث يرى البعض، أنه يمثل تهديدًا للتوازن السياسي، بينما ينظر إليه آخرون، كرائد أعمالٍ ومبتكرٍ يجب احتواؤه والاستفادة من مشاريعه بقدْر المستطاع. وبالتالي، فإن وجود حكوماتٍ يمينيةٍ على رأْس صناعة القرار في بعض الدول الأوروبية يجعل التصعيد أمرًا صعب المنال، بل إن هذا التنوُّع داخل الحكومات الأوروبية يوفر بيئةً ملائمةً لماسك؛ لمواصلة تدخُّله وتفاعُله مع القضايا السياسية داخل القارة.
ب- السبب الثاني
وهو أن الدول الأوروبية تستفيد بالفعل من ماسك وشركاته الرائدة عالميًّا؛ مما يجعل أيّ تصعيدٍ غير مدروس ضده قرارًا قد يحمل تداعيات سلبية على المصالح الأوروبية نفسها، على سبيل المثال، على الرغم من التصريحات المناهضة التي يطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن سلوك ماسك داخل أوروبا، فإن فرنسا في المقابل تعتمد على خدمات “ستارلينك” للاتصالات، المملوكة لماسك في بعض من مناطقها[5]، وهذا يعكس التناقض بين رفض أوروبا المتزايد لتدخلاته السياسية وبين استمرار استفادتها من مشاريعه التكنولوجية؛ مما يجعل التصعيد ضده خيارًا غير عملي.
وبناءً على ذلك، فإن النَّهْج الأكثر منطقيةً الذي قد تتبعه أوروبا هو المسار الاحتوائي؛ بحيث توازن بين مصالحها الاقتصادية والتكنولوجية من ناحية، وبين سعيها للحدِّ من نفوذ ماسك السياسي المتزايد من ناحيةٍ أُخرى، دون الدخول في مواجهة مباشرة قد تكون مكلفة لها أكثر؛ مما قد تؤثر على ماسك نفسه.
ختامًا:
يبدو أن أوروبا أمام تحدٍّ مستقبليٍّ قادمٍ يتعلق بدعم إيلون ماسك، للتيارات اليمينية الأوربية، خاصَّةً مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة وسيطرة الجمهوريِّين على مجلسيْ النواب والشيوخ، وهذا من شأنه، أن يمنح ماسك قاعدةً صلبةً يستند عليها في تفاعلاته مع السياسة الأوروبية، ليس فقط باعتباره رجل أعمال ذو مصالح، بل أيضًا كمسؤول رفيع داخل إدارة ترامب.
وبناءً على ذلك، فإن الطريقة التي ستتعامل بها أوروبا مع سلوك ماسك الذي يلقى استياءً من بعض زعمائها، لن تكون مُجرَّد خطوة منعزلة، بل ستندرج ضمن إستراتيجية أوسع لكيفية تعامل الأوروبيين مع إدارة ترامب ككل، وهذا بدوره سيضفي على المسألة طابعًا رسميًّا؛ مما قد يؤدي إلى تصاعد التوترات بين أوروبا والولايات المتحدة إذا لم يتم التعامل مع هذا الملف بحذر وحكمة.
المصادر:
[1] إيطاليا تعتزم إبرام صفقة بـ 1.6 مليار دولار مع “سبيس إكس”، سكاي نيوز عربية، ٦/١/٢٠٢٦
[3] أمن ألمانيا ـ ما مدى احتمالية تأثير “إيلون ماسك” على نتيجة الانتخابات الفيدرالية الألمانية؟، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، ٧/١/٢٠٢٥
