المقالات
اتفاق السلام بين تايلاند وكمبوديا: نقطة تحول للأمن الإقليمي في جنوب شرق آسيا
- أكتوبر 29, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية

إعداد: إسراء عادل
باحث مساعد في وحدة الشؤون الدولية
في مشهد سياسي يعيد رسم خرائط النفوذ في جنوب شرق آسيا، وقعت تايلاند وكمبوديا في 26 أكتوبر 2025، على هامش قمة رابطة دول الآسيان وبحضور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اتفاق سلام تاريخي أنهى واحداً من أطول النزاعات الحدودية في المنطقة وأكثرها تعقيداً. فقد شكل الخلاف حول السيادة على معبد “برياه فيهير” والمناطق المحيطة به محور توتر مزمن بين البلدين منذ منتصف القرن العشرين، وأدى إلى مواجهات عسكرية متكررة كادت تقوض استقرار الإقليم وتضعف تماسك منظومة الآسيان.
وجاء هذا الاتفاق في لحظة دولية حاسمة تتقاطع فيها تنافسات القوى الكبرى مع تحولات إقليمية داخلية في جنوب شرق آسيا، الأمر الذي يمنحه أبعاداً تتجاوز حدود التسوية الثنائية إلى كونه اختباراً لقدرة الإقليم على بناء مقاربات سلمية ذاتية تسعى لترسيخ الاستقرار والتعاون المشترك. ومن هذا المنطلق، لا يُنظر إلى الاتفاق بوصفه نهاية لصراع حدودي فحسب، بل كبداية لمسار جديد يعيد تعريف معادلات الأمن الإقليمي والتعاون السياسي والاقتصادي في المنطقة، في مرحلة تتسم بتغير موازين القوة وتنامي الأدوار الآسيوية المستقلة في إدارة أزماتها. ومن هنا يبرز السؤال الرئيسي: إلى أي مدى يمثل اتفاق السلام بين تايلاند وكمبوديا نقطة تحول في بنية الأمن الإقليمي في جنوب شرق آسيا، وما هي أبرز انعكاساته الإقليمية والدولية على موازين الاستقرار في المنطقة؟
أولاً: الخلفية التاريخية وتطورات الأزمة بين تايلاند وكمبوديا
يعد النزاع الحدودي بين تايلاند وكمبوديا أحد أقدم النزاعات الإقليمية في جنوب شرق آسيا وأكثرها تعقيداً، إذ تعود جذوره إلى بدايات القرن العشرين خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية، حين أعدت الإدارة الفرنسية في عام 1907 خريطة لترسيم الحدود منحت بموجبها السيادة على معبد “برياه فيهير” لكمبوديا، وهو ما رفضته تايلاند لاحقاً معتبرة أن الخريطة تجاهلت الواقع الجغرافي وتعدت على أراضٍ تعتبرها جزءاً من سيادتها التاريخية.
وفي عام 1962، أصدرت محكمة العدل الدولية حكماً يقضي بتبعية المعبد لكمبوديا، غير أن الخلاف استمر حول المناطق المحيطة بالمعبد، والتي اعتبرتها بانكوك غير مشمولة بالحكم. ومع تصاعد النزعات القومية في البلدين خلال تسعينيات القرن الماضي، عاد التوتر إلى الواجهة، خصوصاً عقب إدراج منظمة اليونسكو للمعبد على قائمة التراث العالمي عام 2008، ما أثار احتجاجاً واسعاً في تايلاند واعتُبر اعترافاً ضمنياً بالسيادة الكمبودية. وقد شهدت الحدود بين عامي 2008 و2011 مواجهات عسكرية عنيفة أسفرت عن سقوط عشرات القتلى ونزوح المئات، بينما أصدرت المحكمة عام 2013 تفسيراً إضافياً أكدت فيه سيادة كمبوديا على المنطقة المحيطة بالمعبد، دون أن يؤدي ذلك إلى تسوية دائمة للنزاع.
وعلى مدار العقد التالي، ظل الخلاف الحدودي عامل توتر مزمن، تغذيه الاعتبارات القومية والمصالح السياسية الداخلية في البلدين. كما لعبت القوى الكبرى دوراً غير مباشر في تعقيد المشهد؛ إذ عززت الصين دعمها السياسي والاقتصادي لكمبوديا، بينما سعت تايلاند إلى الحفاظ على توازن دبلوماسي بين بكين والغرب، ما جعل النزاع يحمل أيضاً أبعاداً جيوسياسية تتجاوز الإطار الثنائي.[1]
وفي عام 2025، شهد النزاع تصعيداً غير مسبوق أعاد الأزمة إلى واجهة المشهد الإقليمي. حيث بدأت التوترات في 23 مايو الماضي، إثر مقتل جندي كمبودي في اشتباك مسلح محدود بمنطقة المثلث الزمردي عند تقاطع الحدود بين البلدين مع لاوس، مما أسفر عن سلسلة من المواجهات الدبلوماسية والعسكرية المتبادلة بين الجانبين. وردت بانكوك بفرض قيود على حركة العبور وإغلاق بعض المعابر الحدودية، بينما أعلنت بنوم بنه حظراً جزئياً على الواردات التايلاندية، مما أثر سلباً على الاقتصادين ومواطني المناطق الحدودية المتضررة. ثم تصاعدت الأحداث في منتصف يوليو من العام نفسه بعد إصابة عدد من الجنود التايلانديين بانفجار ألغام أرضية في إقليم “أوبون راتشاثاني” الحدودي، لتتهم تايلاند كمبوديا بانتهاك “اتفاقية أوتاوا” لحظر الألغام، بينما نفت الأخيرة تلك الاتهامات مؤكدة أن المنطقة لا تزال تحتوي على ألغام غير منفجرة من نزاعات سابقة.
وفي 24 يوليو 2025، تفاقم التوتر إلى اشتباكات عسكرية مفتوحة قرب معبد “تا موان ثوم”، حيث تبادل الطرفان الاتهامات باستخدام الأسلحة الثقيلة والخرق المتبادل للاتفاقيات الحدودية. وأسفرت الاشتباكات عن سقوط ضحايا من كلا الطرفين ونزوح مئات الأسر، فيما تبادلت العاصمتان طرد السفراء وإغلاق المعابر. وفي الوقت ذاته، دعت الأمم المتحدة ورابطة الآسيان الجانبين إلى ضبط النفس واستئناف الحوار، إلا أن غياب قنوات الاتصال المباشرة بين وزارتي الخارجية ساهم في إطالة أمد الأزمة. وفي الأسابيع التالية، تدخلت وساطات إقليمية ودولية لتسهيل الحوار ووقف إطلاق النار، تمهيداً لاتفاق السلام الذي أنهى أخطر موجة توتر بين البلدين منذ عقد.[2]
ثانياً: اتفاق السلام بين تايلاند وكمبوديا
شهدت العاصمة الماليزية كوالالمبور في 26 أكتوبر 2025، توقيع اتفاقية موسعة لوقف إطلاق النار بين رئيس الحكومة التايلاندي “أنوتين تشارنفيراكول” ونظيره الكمبودي “هون مانيت”، على هامش القمة السابعة والأربعين لرابطة دول جنوب شرق آسيا، وذلك بحضور رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم، والأمين العام لرابطة آسيان كاو كيم هورن، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي لعب دور الوسيط المباشر في إنهاء النزاع الحدودي بين البلدين. وجاء الاتفاق تتويجاً لجهود دبلوماسية مكثفة قادتها واشنطن على مدار الأسابيع السابقة، بعد أن دفعت تهديدات ترامب بفرض ضغوط اقتصادية إلى إجبار الجانبين على وقف المناوشات على طول الحدود المتنازع عليها، حيث لوح الرئيس الأمريكي في سبتمبر الماضي بفرض رسوم جمركية تصل إلى 36% على معظم الصادرات التايلاندية والكمبودية إلى السوق الأمريكية، قبل أن يخفضها لاحقاً إلى 19% بعد إبداء الطرفين استعداداً فعلياً للدخول في مفاوضات برعاية أمريكية – آسيوية مشتركة. وقد استضافت ماليزيا الاجتماعات النهائية بمشاركة وفود من رابطة آسيان، التي اعتبرت نجاح الاتفاق خطوة تاريخية نحو ترسيخ مفهوم “الأمن الإقليمي الجماعي” داخل المنظمة.[3]
وتضمنت الاتفاقية عدداً من البنود الجوهرية، كان أبرزها:
وقف فوري لجميع الأعمال العدائية على طول الحدود المتنازع عليها، مع التأكيد على حماية أرواح المدنيين وضمان سلامة المناطق المتأثرة بالنزاع.
إقامة فريق مراقبة ميداني تابع لآسيان يتألف من ممثلين عن الدول الأعضاء، تكون مهمته مراقبة تنفيذ بنود الاتفاق ميدانياً وتقديم تقارير دورية إلى الأمانة العامة للرابطة.
سحب الأسلحة الثقيلة والآليات العسكرية من المناطق الحدودية وإعادتها إلى مواقعها الدائمة، كخطوة أساسية لتخفيض التصعيد العسكري وإعادة بناء الثقة بين الجانبين.
تبادل الأسرى والمحتجزين، حيث وافقت تايلاند على إطلاق سراح 18 جندياً كمبودياً كانوا محتجزين لديها، مقابل تنفيذ المرحلة الأولى من سحب القوات من خطوط التماس.
تنظيف وإزالة الألغام والذخائر غير المتفجرة من المناطق الحدودية التي شهدت اشتباكات، من خلال تعاون ثنائي بإشراف آسيان وبمساعدة خبرات وتقنيات دولية لضمان عودة آمنة للمدنيين.
إعادة تفعيل آليات التفاوض الحدودي القائمة، بما في ذلك لجنة الحدود المشتركة واللجان الإقليمية ذات الصلة كإطار مرحلي للتوصل إلى ترسيم دائم للحدود.
إعادة فتح المعابر التجارية والإنسانية تدريجياً خلال أسبوعين من توقيع الاتفاق، لتعزيز التواصل المجتمعي والتبادل الاقتصادي بين البلدين.
التزام الطرفين بعدم بناء تحصينات جديدة أو نشر قوات إضافية في المناطق العازلة، مع منح بعثة المراقبة التابعة لآسيان صلاحية التحقق من الالتزام.
إطلاق برنامج تنمية مشترك للمناطق الحدودية بتمويل من بنك التنمية الآسيوي، بهدف دعم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في القرى المتضررة من النزاع.[4]
ثالثاً: ردود الفعل الإقليمية والدولية حول الاتفاق
شهد اتفاق السلام الموقع بين تايلاند وكمبوديا برعاية الرئيس ترامب موجة واسعة من الترحيب الدولي، باعتباره خطوة هامة نحو إنهاء عقود من النزاع المسلح، وفتح آفاق جديدة للاستقرار الإقليمي. وفيما يلي أبرز ردود الفعل الإقليمية والدولية حول الاتفاق:
السعودية: أعربت وزارة الخارجية السعودية عن ترحيب المملكة باتفاق وقف إطلاق النار بين تايلاند وكمبوديا، مثمنة الجهود المبذولة لإنهاء النزاع الحدودي بين البلدين والتمهيد لسلام مستدام يحقق تطلعات الشعبين. كما أكدت الرياض دعمها التام للجهود الدبلوماسية الهادفة إلى حل النزاعات بالطرق السلمية، مشيدة بالدورين الأمريكي والماليزي في رعاية الاتفاق، بما يعكس التزام المملكة بدعم الاستقرار في جنوب شرق آسيا.
الكويت: أعربت وزارة الخارجية الكويتية عن ترحيب دولة الكويت بتوقيع اتفاق كوالالمبور للسلام بين تايلاند وكمبوديا، واعتبرته خطوة هامة في إنهاء النزاع الحدودي وتمهيد الطريق نحو ترسيخ السلام الدائم وتحقيق الأمن والاستقرار بما يلبي تطلعات الشعبين الصديقين. كما أكدت دعم الكويت الكامل لجميع الجهود الدبلوماسية الرامية إلى تسوية النزاعات بالطرق السلمية وبما يعزز الأمن والاستقرار في منطقة جنوب شرق آسيا والعالم.
مصر: رحبت جمهورية مصر العربية باتفاق وقف إطلاق النار بين تايلاند وكمبوديا، وثمنت جهود الرئيس الأمريكي لحل النزاع عبر الطرق السلمية. وأكدت على أهمية هذه الخطوة في إطار تعزيز الأمن والاستقرار والتعاون الإقليمي، مشددة على دعمها لكافة المبادرات والجهود الرامية الى تسوية النزاعات بالطرق السلمية.[5]
الأردن: رحبت وزارة الخارجية الأردنية بالاتفاق، وعدته خطوة مهمة نحو حل النزاع عبر الطرق السلمية وتغليب لغة الحوار، مثمنة الجهود الأمريكية والماليزية التي أسفرت عن التوصل إلى هذا الاتفاق التاريخي. وأكد الناطق باسم الوزارة فؤاد المجالي دعم بلاده للجهود الرامية إلى إيجاد حلول دبلوماسية للصراعات المسلحة، بما يحقق الأمن والتنمية للشعوب كافة.
ماليزيا: بصفتها الدولة المستضيفة لقمة آسيان السابعة والأربعين، أشادت ماليزيا بتوقيع الاتفاق، وأكد رئيس وزرائها أنور إبراهيم أن الاتفاق يعكس روح الاندماج والاستدامة التي تتبناها رئاسة ماليزيا لعام 2025، مشيراً إلى أن الدبلوماسية الوقائية تمثل الخيار الأمثل لضمان استقرار جنوب شرق آسيا.
الولايات المتحدة الأمريكية: أشاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاتفاق، واصفًا إياه بأنه “خطوة كبيرة أنقذت ملايين الأرواح”، معتبراً أنه يعبر عن نجاح الدبلوماسية الأمريكية في نزع فتيل النزاعات وتعزيز السلام الإقليمي، بما يعزز مكانة واشنطن كوسيط دولي فعال.
كوريا الجنوبية: أعرب الرئيس “لي جيه ميونغ” عن ترحيبه باتفاق وقف إطلاق النار بين كمبوديا وتايلاند، معرباً عن أمله في أن يسهم هذا الاتفاق في تعزيز السلام والاستقرار، ليس فقط في كمبوديا وتايلاند، بل في عموم منطقة جنوب شرق آسيا. كما أشاد بجهود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم، لما قدماه من التزام بالتوصل إلى هذا الاتفاق التاريخي.[6]
الأمم المتحدة: رحب الأمين العام للأمم المتحدة بالإعلان المشترك بين كمبوديا وتايلند، كسبيل لترسيخ وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في يوليو الماضي. كما أكدت المنظمة التزامها بدعم جميع الجهود الرامية إلى تعزيز السلام والاستقرار والتنمية في المنطقة.
الاتحاد الأوروبي: أعرب الاتحاد الأوروبي عن استعداده لدعم تنفيذ اتفاق كوالالمبور للسلام بين كمبوديا وتايلاند، بما في ذلك المساهمة في تسهيل عمليات إزالة الألغام في المناطق الحدودية. ووصفت الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية السياسية “كايا كالاس” الاتفاق بأنه يمثل محطة مهمة في مسار إحلال السلام بين البلدين.[7]
رابعاً: الانعكاسات الإقليمية والدولية للاتفاق
أحدث توقيع اتفاق السلام بين تايلاند وكمبوديا تحولاً ملحوظاً في المشهدين الإقليمي والدولي، حيث أعاد تعريف أدوار القوى الفاعلة وآليات الوساطة في المنطقة. ومثل الاتفاق نموذجاً متوازناً للتسوية السلمية التي جمعت بين الدور الإقليمي لرابطة آسيان والوساطة الدولية الأمريكية، في لحظة كانت تتجه فيها التوترات بين البلدين نحو التصعيد العسكري الشامل. ومن هنا تبرز أهم الانعكاسات الإقليمية والدولية للاتفاق على النحو التالي:
على الصعيد الإقليمي: عزز الاتفاق من مكانة رابطة الآسيان كمظلة قادرة على إدارة الأزمات الداخلية بين أعضائها دون الحاجة إلى تدخلات خارجية مباشرة، وهو ما يعكس تطوراً نوعياً في أداء المنظمة بعد سنوات من الانتقادات بشأن ضعف فاعليتها السياسية. فقد نجحت القمة في كوالالمبور في توفير إطار دبلوماسي أتاح للطرفين التفاوض برعاية جماعية، مما منح الاتفاق طابعاً مؤسسياً يضمن استمراريته. كما أسهم الاتفاق في خفض منسوب التوتر العسكري في المناطق الحدودية، وإعادة فتح قنوات التعاون الاقتصادي والتجاري التي توقفت منذ اندلاع المواجهات منتصف عام 2025.
إضافة إلى ذلك، أعاد الاتفاق ترسيخ مفهوم “الأمن التعاوني” داخل منظومة الآسيان، بحيث لم يعد يُنظر إلى الخلافات الحدودية بوصفها تهديدات وجودية، بل كقضايا يمكن احتواؤها ضمن آليات الحوار الجماعي. وقد شجع هذا التطور دولاً أخرى في المنطقة مثل لاوس وميانمار على إعادة النظر في خلافاتها الحدودية، مما يعزز فرص بناء بيئة إقليمية أكثر استقراراً واتساقاً مع رؤية “آسيان 2040” القائمة على منع عسكرة النزاعات الداخلية وتعزيز الحوار كخيار استراتيجي دائم.
على المستوى الدولي: فقد وفر الاتفاق فرصة لإعادة إبراز الدور الأمريكي في جنوب شرق آسيا بعد فترة من التراجع النسبي لصالح النفوذ الصيني. إذ مثل حضور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمراسم التوقيع دلالة رمزية على عودة واشنطن للعب دور الوسيط القوي في النزاعات الإقليمية، ولكن من خلال أدوات اقتصادية ودبلوماسية لا عسكرية. كما عكست الوساطة الأمريكية القائمة على الضغط الاقتصادي تحولاً محورياً في فلسفة السياسة الخارجية الأمريكية نحو الردع التجاري، الذي يجمع بين العقوبات الاقتصادية والتحفيز السياسي لضمان الاستقرار.
وفي المقابل، شكل الاتفاق تحدياً غير مباشر للصين التي تعتبر كمبوديا أحد أقرب حلفائها في المنطقة، إذ قلص من هامش نفوذها في ملفات الأمن الحدودي الآسيوي. ومع ذلك، لم تعارض بكين الاتفاق، بل تبنت موقفاً حذراً يقوم على الدعم الضمني لمسار التهدئة وتشجيع الحوار بين الطرفين، تجنباً للظهور كقوة معرقلة للاستقرار. ويعكس هذا الموقف قدراً من البراغماتية في السياسة الخارجية الصينية، التي تميل إلى الحفاظ على توازن دقيق بين حماية نفوذها الإقليمي وتجنب الصدام مع واشنطن.
وفي ضوء هذه الانعكاسات، تتجلى أهمية الاتفاق في كونه تحولاً جيوسياسياً يتجاوز البعد الحدودي ليثبت إمكانية التوفيق بين المصالح الوطنية للدول الصغيرة والإطار الإقليمي الجماعي والمصالح الدولية الكبرى. فقد نجح في إعادة توجيه العلاقات التايلاندية – الكمبودية من مستوى المواجهة العسكرية إلى مستوى التنافس المنضبط ضمن أطر مؤسسية، وهو ما يعزز استقرار الإقليم ككل ويحد من احتمالات انزلاقه إلى سباقات تسلح جديدة. كما يكتسب الاتفاق دلالة أوسع بوصفه نموذجاً مصغراً لإعادة تعريف إدارة الصراعات في آسيا، إذ يؤكد أن الحلول التفاوضية المضمونة دولياً يمكن أن تشكل بديلاً واقعياً للعسكرة، وأن الأطر الإقليمية مثل “آسيان” قادرة على التحول إلى فاعل أمني حقيقي متى ما توفرت الإرادة السياسية والدعم الدولي المتوازن.
ختاماً يمكن القول، أن اتفاق السلام بين تايلاند وكمبوديا يشكل منعطفاً استراتيجياً في بنية الأمن الإقليمي لجنوب شرق آسيا، إذ يعكس نضوجاً سياسياً متزايداً لدى دول المنطقة في إدارة نزاعاتها بعيداً عن أدوات القوة الصلبة، ويؤكد قدرة الأطر الإقليمية، وفي مقدمتها رابطة آسيان، على التحول من مجرد منصة حوار إلى فاعل دبلوماسي قادر على احتواء أزمات معقدة.
ولكن، ورغم ما يحمله الاتفاق من مكاسب سياسية ورمزية، فإنه لا يخلو من تحديات حقيقية قد تهدد استمراريته، أبرزها هشاشة الثقة بين الطرفين، وتداخل المصالح السيادية، واحتمال عودة الخطاب القومي المتشدد في الداخلين التايلاندي والكمبودي، فضلاً عن التعقيدات الميدانية المتعلقة بترسيم الحدود وإزالة الألغام وإعادة إعمار المناطق المتضررة. ولذلك يظل تنفيذ بنود الاتفاق مرهوناً بمدى فاعلية آليات الرقابة التابعة لآسيان، وقدرتها على الحفاظ على الحياد في بيئة إقليمية تتسم بتنافس القوى الكبرى.
وعليه، فإن اتفاق كوالالمبور للسلام يمثل من جهة اختراقاً دبلوماسياً مهماً يعيد رسم ملامح التوازن الإقليمي، ومن جهة أخرى اختباراً صعباً لقدرة الأطراف الإقليمية والدولية على تحويل وثيقة السلام إلى واقع عملي مستدام. وبقدر ما ينجح في الصمود أمام التحديات المقبلة، بقدر ما يمكن اعتباره نقطة انطلاق حقيقية نحو بناء منظومة أمن آسيوية أكثر توازناً واستقلالاً عن دوائر النفوذ الدولي.
المصادر:
[1] هاميس أشرف، الأزمة الحدودية بين تايلاند وكمبوديا وتداعياتها، مركز ترو للدراسات والتدريب، 4 أغسطس 2025، متاح على الرابط: https://truestudies.org/2345/
[2] سكاي نيوز عربية، معركة “المثلث الزمردي”.. قصة الصراع بين تايلاند وكمبوديا، 25 يوليو 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/w1fBJJ
[3] الشرق، بعد اتفاق وقف النار.. ماذا نعرف عن تاريخ النزاع بين تايلندا وكمبوديا؟، 26 أكتوبر 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/0PS2qU
[4] عائشة سعيد، اتفاق السلام بين تايلاند وكمبوديا: ماذا يتضمن وهل يمكن أن يصمد؟، الرسالة نت، 27 أكتوبر 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/Slvr7G
[5] وزارة الخارجية المصرية، مصر ترحب باتفاق وقف إطلاق النار بين تايلاند وكمبوديا، 27 أكتوبر 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/d78VvZ
[6] KSB WORLD، الرئيس لي يرحب بتوقيع اتفاق السلام بين كمبوديا وتايلاند، 27 أكتوبر 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/bEMCFV
[7] كونا، الاتحاد الأوروبي يعرب عن استعداده لدعم تنفيذ اتفاق السلام بين كمبوديا وتايلاند، 26 أكتوبر 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/MOLpRm