إعداد : أكرم السيد
شكَّل ملف الطاقة بين بغداد وأربيل طوال السنوات العشرين الماضية نقطة خلافية شائكة، إذ يدعى كل طرف منهما أحقية استحواذه على حقول النفط والغاز من حيث الملكية والإدارة وبيع المنتجات وتحصيل العوائد، وأمام هذه الحالة المعقدة التى شهدت إصرار الجانبين على وجهة نظرهما، ومن ثم تبادل الاتهامات بين الحين والآخر، وأسفر أبريل الجارى فى مطلعه عن توقيع رئيس الحكومة العراقية “محمد شياع السودانى” رفقة رئيس حكومة إقليم كردستان العراق “مسرور بارزانى” اتفاقًا مؤقتًا يتعلق بملف الطاقة، ويأتى هذا الاتفاق ليمثل حلًا وسطًا بين رؤية الحكومتين، ويفتح الطريق أمام الأجهزة التشريعية لإقرار قانون النفط والغاز الذى طال انتظاره.
خلفيات ملف النفط والغاز
كان الخلاف بشأن قطاع الطاقة هو الخلاف الأبرز بين بغداد وأربيل على مدار عقدين، وقد تعرض الدستور العراقى لهذه النقطة الخلافية وحسمها فى المادة ١١٢ منه، والتى قضت بأن تتقاسم الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان العراق إدارة الطاقة وأن يتقاسما العوائد بشكل منصف، حيث تشير المادة ١١٢ إلى أن “تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة، على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكانى فى جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصة لمدة محددة للأقاليم المتضررة، والتى حرمت منها بصورة مجحفة من قبل النظام السابق والتى تضررت بعد ذلك، بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد وينظم ذلك بقانون، وتقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معًا برسم السياسات الإستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقى معتمدة على أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار”.
وعلى الرغم من حسم الدستور لهذه المسألة الخلافية، إلا أن كلا الطرفين، ينظران لهذه المادة المعنية بتقاسم وإدارة قطاع الطاقة وعوائده بشكل متفاوت، بشكل يجعل لكل منهما تفسيرًا مختلفًا لهذه المادة، وهو ما نتج عنه خلاف كبير بين الحكومتين كان له انعكاسات سلبية على قطاع الطاقة.
بصياغة أخرى، فقد امتلكت الحكومة فى أربيل والحكومة فى بغداد آليات مختلفة فى إدارة قطاع الطاقة حال دون استفادة أى منهما من العوائد الاقتصادية لقطاع الطاقة على النحو المأمول:
- فمثلًا فيما يتعلق بإقليم كردستان، فقد أدى الخلاف بينه وبين الحكومة العراقية، إلى بيع الإقليم للنفط بأسعار أقل من الأسعار العالمية حتى يفتح الباب أمام المشترين، نظرًا لأن الإقليم يواجه عقبات تصديرية تمنعه من النفاذ إلى الأسواق بسهولة، تمارسها عليه الحكومة العراقية؛ بالإضافة إلى ذلك، فإن نصيب الإقليم من عوائد النفط لا يحصل عليها كاملة، إذ يشارك إقليم كردستان العراق فى عوائد البيع شركات النفط الدولية التى استعان بها للمساعدة فى إنتاج النفط، وهو ما يترتب عليه عدم حصول الإقليم على أكبر استفادة ممكنة من موارده.
- أما فيما يتعلق بالحكومة العراقية، فقد أدى الخلاف بينها وبين إقليم كردستان العراق، إلى عدم تحقيق الحكومة العراقية الاستفادة المأمولة من موارد البلاد النفطية على النحو الذى ترجوه، بالإضافة إلى فقدان سياسة واحدة تتعامل بها البلاد مع أسواق النفط العالمية، فأربيل تتعامل مع الأسواق سواء فيما يتعلق بالبيع أو الاستشكافات التى تقوم الشركات الأجنبية على أراضى الإقليم بطريقة منفردة، والحكومة العراقية هى الأخرى لديها سياساتها الخاصة فى إدارة هذا الملف.
وأمام هذه الحالة الخلافية ذات التبعات السياسية والاقتصادية السلبية على العراق، وأمام فشل محاولات الحكومة العراقية وحكومة وإقليم كردستان العراق فى التوصل إلى اتفاق، فقد وصل الأمر إلى ساحة القضاء ليضع حدًا لهذا الخلاف، حيث أصدرت المحكمة الاتحادية العليا فى العام الماضى حكمًا يميل إلى كفة الحكومة العراقية، حيث قضى ببطلان عقود تصدير النفط التى وقعها إقليم كردستان العراق مع الأطراف الخارجية، ويلزم إقليم كردستان بأن تخضع العقود التى يبرمها لرقابة الحكومة العراقية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل الأمر إلى ساحة المحاكم الدولية، حيث كسبت الحكومة العراقية منذ أسابيع قليلة دعوى قضائية كانت قد رفعتها أمام هيئة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية فى باريس، تقضى بعدم قانونية تصدير النفط من كردستان العراق إلى تركيا دون تنسيق مع الحكومة المركزية فى بغداد، وهو ما أعقبه على الفور توقف صادرات النفط من الإقليم إلى تركيا تنفيذًا لهذا الحكم، لتكشف الأيام التى تلت هذا الحكم إعلان رئيس الوزراء العراقى “محمد شياع السودانى” ورئيس حكومة إقليم كردستان العراق “مسرور بارزانى” توصلهما إلى اتفاق يهدف إلى تنظيم وإدارة ملف الطاقة بطريقة من شأنها إنهاء الخلافات بينهما، وهو ما يمثل حدثًا استثنائيًا فى مسارات العلاقات بين بغداد وأربيل.
اتفاق النفط والغاز الجديد
يعتبر ملف الطاقة، كما أشرنا، ملفًا جوهريًا وحاكمًا لطبيعية العلاقات بين إقليم كردستان وبغداد، ويعتبر هذا الملف أيضًا واحدًا من جذور الأزمة بينهما، وذلك نظرًا لامتلاك كل من حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية وجهات نظر مختلفة حول أيهما أحق فى امتلاك حقول النفط والغاز وإدارتها وبيع منتجاتها وتوزيع عوائدها.
ففى الوقت الذى ترى فيه الحكومة الاتحادية ضرورة أن تخضع الحقول النفطية لإشراف من السلطات الاتحادية، ترى حكومة الإقليم أن هذه الحقول ملكًا لها، ومن ثم فإن لها الحق فى التصرف فى إدارتها كيفما شاءت؛ وأمام هذه الحالة الضبابية، فشلت مساعى العراق على مدار العقود الماضية، وبالتحديد البرلمان العراقى، فى أن يشرع قانونًا يعالج هذه الأزمة ويضع حدًا لها.
وفى أحدث تطور لهذا الملف، وقع رئيس مجلس الوزراء العراقى “محمد شياع السودانى” مطلع أبريل الجارى اتفاقًا نفطيًا مع رئيس حكومة إقليم كردستان “مسرور بارزانى”، وهذا الاتفاق يأتى فى منزلة “اتفاق مؤقت” من شأنه أن يسمح للإقليم بتصدير موارده النفطية، ولكن تحت مرأى من الحكومة الاتحادية، كما ينظر لهذا الاتفاق “المؤقت” باعتباره سيقوم بمهمة تيسير وإدارة ملف الطاقة لحين إقرار البرلمان العراقى لقانون النفط والغاز والذى أدى غياب إقراه إلى إبقاء الأزمة من غير حل طوال السنوات الماضية.
وفيما يتعلق ببنود الاتفاق المؤقت، فإنه حسب المصادر الرسمية قد تضمن التالى:-
- البند الأول تصدير 400 ألف برميل من النفط يوميًا من إقليم كردستان عبر شركة النفط الوطنية سومو وتسمية ممثل عن الإقليم فى الشركة.
- والثانى تضمن تشكيل لجنة رباعية بمعدل ممثلين اثنين من وزارة النفط الاتحادية واثنين من وزارة الثروات الطبيعية فى الإقليم، وتشرف هذه اللجنة على بيع النفط المستخرج من إقليم كردستان فى الأسواق العالمية إلى حين صدور قانون النفط والغاز.
- والثالث يتعلق باتفاقات كان قد وقعها إقليم كردستان مع أربع شركات عالمية، وكثير من بنود هذه الاتفاقات فيها نقاط قانونية ملزمة، لكن بموجب اتفاق النفط والغاز الجديد مع الحكومة العراقية، فإنه سوف يكون لزامًا على الإقليم الاستعانة بخبراء من وزارة النفط الاتحادية لتذليل التفاوض مع هذه الشركات بهدف إلزام هذه الشركات بالالتزام بتطبيق الاتفاق الجديد.
- والرابع تضمن فتح حساب بنكى تحت إشراف الحكومة فى البنك المركزى العراقى أو أى مصرف معتمد من البنك المركزى، ويخول رئيس حكومة كردستان بصلاحية الصرف تحت رقابة ديوان الرقابة المالية الاتحادى فيما يتعلق فقط بالموازنة الاتحادية للعام 2023.
هل سيصمد الاتفاق أمام التدخلات الخارجية؟
لم تمر زيارة قائد قوات سوريا الديمقراطية منذ أيام إلى كردستان العراق مرور الكرام، حيث قصفت القوات التركية مطار السليمانية الواقع فى الإقليم، زاعمةً أن هناك مقاتلين تابعين لحزب العمال الكردستانى يتحصنون فى المطار وهو ما يشكل خطرًا على تركيا حسب زعمها.
تلك الحادثة قوبلت بإدانة صريحة من المسؤولين فى بغداد وأربيل على حد السواء، حيث طالب الرئيس العراقى عبد اللطيف رشيد من أنقرة تقديم اعتذار رسمى على خلفية ما حدث، مؤكدًا فى الوقت نفسه أنه “لا يوجد مبرر قانونى يخول للقوات التركية الاستمرار على نهجها فى ترويع المدنيين الآمنين بذريعة وجود قوات مناوئة لها على الأراضى العراقية” كما جاء فى البيان، بالإضافة إلى ذلك فقد نددت رئاسة إقليم كردستان العراق بالقصف وسارت على نفس نهج إدانة الرئيس العراقى، وهو ما يجعل التدخل التركى مسألة مرفوضة بشكل قاطع من الدولة العراقية بمختلف أقاليمها، حتى وإن كانت هناك قضايا خلافية بين هذه الأقاليم والحكومة المركزية.
وبالعودة إلى انعكاس القصف التركى على عودة تصدير نفط الإقليم عبر ميناء جيهان التركى خاصةً بعد توقيع رئيس الوزارء العراقى “محمد شياع السودانى” مع رئيس وزراء إقليم كردستان العراق اتفاقًا يسمح بعودة تصدير نفط الإقليم، فإن ثمة مخاوف قد سببتها الضربة التركية للسليمانية على نجاح تنفيذ اتفاق تصدير النفط من عدمه، ففى الوقت الذى قد يرى البعض أن من شأن ضربة كهذه أن تعرقل تنفيذ الاتفاق ومن ثم عودة تصدير النفط إلى تركيا، إلا أنه من الناحية العملية وبالاستناد إلى وقائع سابقة من نفس هذا النوع، فإن احتمالية أن تؤدى الضربة التركية إلى فشل الاتفاق ومن ثم عدم عودة تصدير النفط هى احتمالية مستبعدة إلى درجة كبيرة، حيث لم تكن الضربة التركية للسليمانية هى الضربة الأولى من نوعها أو ولم يكن التدخل التركى هو الأول من نوعه فى المجال العراقى.
وعلى الرغم من ذلك لم تؤدِ هذه الضربات أو التدخلات إلى توقف تصدير النفط إلى تركيا من قبل، ومن ثم يمكن القول إن المصالح الاقتصادية بين البلدين فى الغالب لا تتأثر بوجود خلافات سياسية وأمنية بينهما، فضلًا عن حاجة العراق، من الناحية الاقتصادية، إلى استئناف عمليات التصدير مرة أخرى للاستفادة من العوائد المالية.
إجمالًا :
إن من شأن توقيع اتفاق النفط والغاز بين حكومتى بغداد وأربيل – حتى وإن كان اتفاقًا مؤقتًا- أن يفتح الطريق إلى تقريب وجهات النظر بين الجانبين لاسيما وأن بينهما قضايا خلافية أخرى، حيث كان ينظر لملف الطاقة على أنه واحد من أعقد القضايا وأكثرها عرقلة لأى محاولة هادفة لحل الخلافات بين الجانبين، لكن فى ظل توقيع الجانبين لهذا الاتفاق المؤقت ومن ثم انفتاحهما على لغة الحوار والوصول إلى نقاط تفاهم مشتركة، فإن احتمالية أن ينعكس توصل الطرفين إلى اتفاق النفط والغاز على نجاح جهود تحسين العلاقات وحل القضايا العالقة بين كردستان العراق والسلطات الاتحادية كالخلاف حول بعض المواد الدستورية، والأراضى المتنازع عليها، وصولًا إلى تصفير كامل للمشكلات، ستكون كبيرة، وهو ما ستكشف عنه الشهور المقبلة.