تشْهَدُ القارةُ الأفريقيةُ موْجةً جديدةً من الاحتجاجاتِ الشعبيةِ؛ فامتدت عدوى الاحتجاجات من شرق القارة في “كينيا، وأوغندا” إلى غرب القارة في نيجيريا؛ فمؤخرًا وَقَعَتْ في العاصمة النيجيرية “أبوجا” موْجةً من الاحتجاجات واسعةَ النِّطاقِ، في مطلع شهر أغسطس الجاري؛ بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة، وقامت الشرطة باعتقال عشرات المحتجين، واستخدمت الغاز المُسيِّل للدموع لتفريقهم، ويأتي ذلك في ظل توقيتٍ تمَّ فيه زيادة الحدِّ الأدنى للأجور للضِّعْف، وانخفاض قيمة العُمْلة المحلية، وارتفاع مُعدَّلات التضخُّم لدرجةٍ غير مسبوقةٍ في تاريخ الدولة.
السياق الحاكم لهذه الاحتجاجات
جاءت هذه الاحتجاجات؛ بسبب الصعوبات الاقتصادية المتفاقمة؛ نتيجة الإصلاحات الاقتصادية التي أجراها الرئيس بولا تينوبو؛ منها إلغاء دعم البنزين وانخفاض قيمة العُمْلة المحلية؛ ما أدَّى إلى ارتفاعٍ حادٍّ في مُعدَّلات التضخُّم؛ حيث وصلت نسبة التضخُّم نحو 34.2%، في يونيو الماضي[1]، فضْلًا عن معاناة حوالي 161 مليون نيجيريٍّ من انعدام الأمن الغذائي؛ الأمر الذي أدَّى إلى لجوء المواطنين النيجيريين إلى المواد الغذائية التي اقتربت فترة صلاحيتها من الانتهاء، أو إلى تلك التي يجبُ التخلُّص منها.
وتصاعد الغضب الشعبي إزاء السياسات الاقتصادية للحكومة؛ حيث خرج آلاف المتظاهرين في مختلف المدن، بما في ذلك العاصمة أبوجا ومدينة لاغوس التجارية؛ للتنديد بالصعوبات الاقتصادية، والدعوة إلى تغيير السياسات التي يروْنها مُجْحِفَةً، وتعكسُ هذه الاحتجاجاتُ حالةَ الإحباطِ من أسْوأ أزمةٍ في تكاليف المعيشة مُنْذُ جيلٍ، واتهامات بالفساد وسوء الإدارة.
وقد اجتذبت هذه الاحتجاجات في مدينة “كانو” أكبرَ عددٍ من الحشود في اليوم الأول، وتجاهل البعض في “كانو” أمر الإغلاق، وتمَّ تصوير عددٍ قليلٍ من أولئك الذين تجمَّعوا في ضواحي المدينة، يوميْ “2، 3” أغسطس الجاري، وهم يُلوِّحُون بالأعلام الرُّوسية، ويطالبون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بالمساعدة، وفي اليوم الرابع من هذه التظاهرات، قام المتظاهرون بتغيير صور ملفاتهم الشخصية على تطبيق واتساب إلى صورةٍ تحملُ العَلَمَ الرُّوسي، وكتب بعضهم عليها “راشا أووا”، والتي تعني “روسيا أمنًا” بلغة الهاوسا، وينشر آخرون صورًا ساخرةً على مجموعاتٍ، يطالبون فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، أن يهُبَّ لمساعدتهم.
وما يمكن ملاحظتُه في دعوات الاحتجاج النيجيرية على وسائل التواصُل الاجتماعي؛ كوْنها جاءت برموزٍ تحمل دلالاتٍ معينةٍ، مثل مثل إنهاء الحوكمة السيئة أو سوء الإدارة، فضلًا عن رسومٍ أُخرى مُندِّدةً بفترة حكم تينوبو، ومطالبته بالرحيل، بالإضافة إلى ضرورة عدم استجابة النظام النيجيري لمشروطيات مؤسسات التمويل الدولية، ومن بينها خفْض العُمْلة المحلية، ورفْع الدَّعْم التدريجي عن الطاقة والكهرباء، فضلًا عن أهمية كشْف أجور أعضاء السلطة التشريعية في البرلمان النيجيري.
والجدير بالذكر، أنه لم يتم تحديد أيِّ مجموعةٍ أو فرْدٍ كمُنَظِّمٍ رَئِيسِيٍّ للاحتجاجات، ولكن عددًا من نشطاء حقوق الإنسان والمؤثرين على وسائل التواصُل الاجتماعي والسياسيين المعارضين، مثل “بيتر أوبي، وأوموييلي سوور”، من ضِمْن المؤيدين للمظاهرات، وعلى الرغم من عدم وجود قادة، تمَّ تحديد ما لا يَقِلُّ عن ستة وعشرين مجموعةً، كمُنسِّقين للاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد.
أسباب تدهور الاقتصاد النيجيري
تَشَهْدُ نيجيريا أسوأَ أزمةٍ اقتصاديةٍ، فعلى الرغم من كوْنها صاحبةَ أكبرِ الاقتصادات الأفريقية، بإجماليٍّ مُقدَّر بنحْو 507 مليار دولارٍ، وفْقًا لترتيب عام 2023م، كما أنها أكبر منتجٍ للنفط، إلا أنها تعاني من ارتفاع نسبة التضخُّم، ووصولها إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ البلاد؛ حيث وصلت في يونيو الماضي إلى 34.2%، بالإضافة إلى ارتفاع مُعدَّل الفساد بدرجةٍ كبيرةٍ، خاصَّةً في قطاع النفط والتوزيع الغير عادلٍ للثروات، وامتلاك السياسيين أَسْهُمًا في شركات النفط، وزيادة نُفُوذ مجموعات المصالح المرتبطة بشركات النفط، ووفْقًا لمؤشر الفساد العام، الصادر في بداية العام الجاري، يتضح أن نيجيريا تحتلُّ المرتبةَ 145 من أصل 180 دولةً، مُسجِّلَةً 25 درجةً من أصل 100 درجةٍ؛ ما يعني استشراء الفساد الحكومي في كافَّة أرجاء نيجيريا[2].
وأدَّى إعلان الرئيس النيحيري بولا تينوبو، إلغاء دعْم الوقود، خلال تنصيبه في 29 مايو 2023م، إلى تفاقُم الضغوطات الاقتصادية في جميع أنحاء البلاد، ونتيجةً لهذا الإعلان؛ ارْتَفَعَ التضخُّم بشكلٍ كبيرٍ، وتأثَّرت أسعارُ السِّلَع والخدمات بشكلٍ مباشرٍ، وعانتْ الشركات أيضًا من ارتفاع تكاليف التشغيل، وأغلقت الشركات التي لم تتمكن من مواكبة هذا الارتفاع أو خفَّضت عددَ موظفيها.
وفي السياق ذاته، تمَّ ارتفاع الحدِّ الأدْنى للأجور في شهر يوليو الماضي، من 30.000 إلى70.000 نايرا؛ ما يعادل 43 دولارًا في الشهر، ويرى العديدُ من الأفراد أن هذا القدْر لا يكْفِي للتعامُل مع غلاء المعيشة المتزايد في أرجاء البلاد، وعلى الجانب الآخر، أدَّى تعويم العُمْلة المحلية ” النايرا” إلى تفاقُم الظروف المعيشية في نيجيريا، ففي يونيو 2023م، تمَّ تداول الدولار الأمريكي مقابل 469.50 نايرا، وقد ساهم هذا الوضْع في زيادة التضخُّم؛ حيث تأثَّرت الواردات بشكلٍ خاصٍّ، وتأثَّرت المنتجات المستوردة والاستهلاك الفردي المباشر[3].
موْقف الحكومة من هذه الاحتجاجات
استخدمت الشرطةُ النيجيريةُ العُنْف لقمْع المتظاهرين؛ حيث ألقت السلطات الأمنية القبْض على العشرات من المحتجين، واستخدمت الغازَ المُسيِّلَ للدموع لتفريق المحتجين، الذين حاولوا التوجُّه إلى مقرَّاتٍ حكوميةٍ في العاصمة أبوجا، وقد ألقت الشرطة النيجيرية القبْض على 700 شخصٍ، خلال الاحتجاجات، مُتهمةً إياهم بالسَّطْوِ المُسلَّح والحرْق العمْد وتدمير الممتلكات، وتسعى الشرطة إلى عدم خروج المحتجين عن نطاق ضواحي المُدُن الكُبْرى؛ لتجنُّب تعطيل عمل الشركات وحركة المرور، وحذَّرت الشرطة السرية في نيجيريا وأجهزة أمن الدولة من التظاهرات، وأكَّدت أنها كشفتْ خُطَّةً لبعض العناصر؛ تهدف إلى التسلُّل إلى الاحتجاجات واستخدامها لإثارة الفوضى والعُنْف الشديد.
وطالب الرئيس النيجيري مواطنيه، بوقْف الاحتجاجات على غلاء المعيشة، واللجوء إلى الحوار، قائلًا: ” إن حكومتنا لن تقف مكتوفة الأيدي، وتسمح لمجموعةٍ قليلةٍ لديها أجندة سياسية واضحة بتمزيق هذه الأمة”، كما دعا العديد من المسؤولين، منهم حُكَّام الولايات والوزراء والزعماء التقليديون النيجيريون، إلى التخلِّي عن المظاهرات، وفي السياق ذاته، اتهمت منظمة العفو الدولية قوات الأمن بقتل 13 متظاهرًا على الأقل، ولكنَّ الشرطةَ أشارت إلى مقتل 7 أشخاصٍ، وتنْفِي أيّ مسؤوليةٍ لها، وأصدرت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وكندا، تحذيراتٍ أمنية لمواطنيها في البلاد، من احتمالية تجدُّد العنف في البلاد.
ولكن مُنظِّمِي الاحتجاجات المنضمين لتحالُفٍ غيْر رسميٍّ لمنظمات من المجتمع المدني، تعهَّدوا بمواصلة تحرُّكاتهم في الأيام المقبلة، على الرَّغْم من تحذيرات السلطات، وقبْل قيام هذه التظاهُرات، دعا مُمَثِّلُو الحكومة الشعب إلى منْح الإصلاحات وقْتًا لتُؤْتِي ثمارَها، وحدَّدُوا المساعدات المقترحة؛ لتخفيف الصعوبات الاقتصادية، وبينها زيادة الحدِّ الأدنى للأجور، وإيصال حبوبٍ إلى الولايات في أنحاء البلاد.
سيناريوهات المشهد السياسي في نيجيريا
عندما نتأمل في المشهد السياسي في نيجيريا خلال المرحلة؛ نجد أن أبوجا تمُرُّ بلحظةٍ حاسمةٍ في تاريخها، وفي إطار ذلك، هناك ثلاثة سيناريوهات تُوضِّحُ المشهدَ السياسيَّ خلال المرحلة المقبلة، تتمثَّلُ في الآتي:
السيناريو الأول: تجدُّد الاحتجاجات
من المرجح أن تتجدَّد الاحتجاجات خلال الفترة المقبلة، خاصَّةً بعدما تعهَّد مُنظِّمُوها بمواصلة أعمالهم، بعد قيام الحكومة باستخدام العُنْف لقمْع المظاهرات، وفي ظل استمرار تدهور الأوضاع، من المتوقع، أن تتخذ الحكومة إجراءاتٍ مُشدَّدَةً؛ لقمْع المظاهرات، من خلال استخدام الغازِ المُسيِّلِ للدموع، أو إطلاق الرصاص لتفريق المتظاهرين، ويُشكِّلُ ذلك بيئةً خصْبةً لزيادة نشاط الجماعات الإرهابية؛ حيث تستغلُّ الفوضى لتنشيط هجماتها للداخل، وربما يواجه الرئيس بولا تينوبو، أزْمَةً شرعيةً خلال المرحلة المقبلة، في ظل الاستياء العام ضده، خاصَّةً أن البعض يراه قد تنصَّلَ من التزاماته وتعهُّداته؛ ما عزَّز الشعور بالخيْبة لدى قطاعٍ عريضٍ من النيجيريين؛ وذلك في ضوْء إصرار سياسات حكومة تينوبو على انتهاج هذه السياسات، التي من شأنها أن تُعزِّزَ تفاقُم الأزمات الاقتصادية بالنسبة إلى المواطنين.
السيناريو الثاني: الاستجابة للحوار
في ظل مطالبة الرئيس بالحوار وعدم الخروج في المظاهرات، فمن المحتمل، أن يستجيب الشعبُ بالحوار مع السلطات، وفي إطار ذلك، سيعمل الرئيس على إيجاد حلولٍ بديلةٍ؛ لإرضاء الرأْي العام، وتحقيق مطالب الشعب؛ فيقوم بتوفير الإيرادات الحكومية، وتقديم الدَّعْم على السِّلَع الضرورية، والاعتماد على المُنْتَجِ المحليّ للدولة؛ من أجل توفير عُمْلةٍ صعْبةٍ، ومشاركة القطاع الخاص في القطاع الحكومي؛ من أجل تهْدئة الأوضاع ومنْع اندلاع احتجاجاتٍ أُخرى.
السيناريو الثالث: احتمالية إسقاط النظام
في ظل مطالبة فئات من الشعب روسيا بالتدخُّل لحلِّ الأزمة الاقتصادية، وإنقاذ الوضع المُتَأَزِّم، مع مطالبتهم بإزاحة رأْس السلطة النيجيرية، ورفْض الأخيرة لرفْع الأعلام الرُّوسية في البلاد؛ نجد أنه ربما تتدخَّل موسكو لدعْم المعارضة وإسقاط النظام؛ بحجة إنهاء الوضْع المتدنِّي، ومن ثَمَّ احتمالية حدوث انقلابٍ على الرئيس بدعْم روسيٍّ، ومن الممكن، أن تقوم موسكو بتحريض فئاتٍ من الجيش للانقلاب على النظام الحاكم، مع الإتيان برئيسٍ مُوَالٍ لها، وفي هذه الحالة، ربما تلْحَقُ نيجيريا بركْب الدول الثلاثة “مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو”.
وإجمالًا:
تعكسُ الاحتجاجاتُ الأخيرةُ في أبوجا، حالةَ عدمِ الرِّضَا التى يعاني منها المواطنون النيجيريون، على أثر السياسات التي اتخذها الرئيس بولا تينوبو، مُنْذُ تولِّيهِ الحُكْم؛ ما يتطلَّبُ مزيدًا من الحِكْمة من حكومة تينوبو؛ للتعامُل مع الأزمة، وتحقيق مطالب الشعب، ومن المتوقع، أن يبحث الرئيس عن بدائلَ وحلولٍ أُخرى، تضْمَنُ له الوفاء، ومحاولة إنعاش اقتصاده الوطني، الذي يواجِهُ كغيْرِهِ من الاقتصاداتِ الأفريقيةِ أزماتٍ طاحنةً، ولكنه في الوقت ذاته، يواجِهُ تحدِّيًا صعْبًا، يتمثَّلُ في كيفيةِ استعادةِ ثِقَةِ المواطن النيجيري؛ حتى يتمكَّنَ من استعادة شعبيته، خلال الفترة المقبلة، التي تعرَّضت لهزَّةٍ قويةٍ، خلال الأزمة الراهنة.
المصادر:
[1] التضخم في أفريقيا سيظل أعلى من المستهدف على الرغم من رفع أسعار الفائدة، الاستثمار، 2024م، متاح على: https://sa.investing.com/
