حسناء تمام كمال
خطفت الأزمة الأوكرانية الروسية الأنظار العالمية من أفغانستان، الذي حظي بالاهتمام بعد صعود طالبان إلى سدة الحكم، فبوقوع الغزو الروسي لأوكرانيا، انصرف الاهتمام بشكل كبير من أفغانستان إلى جوارها، لكن تصاعدت تساؤلات حول ارتدادات هذا على أفغانستان وحكومة طالبان، وهذا ما تحاول هذه الورقة تتبعه.
أولًا: طبيعة العلاقة بين طالبان وطرفي الأزمة
لفهم مدى تأثير الأزمة الروسية الأوكرانية على حكومة طالبان في أفغانستان، يتوجب النظر في العلاقات التي تجمع بين الأخيرة وبين طرفي الأزمة قبل اندلاعها، ومنها، فهم محددات الموقف الأفغاني من الأزمة، وكيفية إدراة الملفات المختلفة ذات الصلة بها.
علاقة روسيا بحركة طالبان: تأتي العلاقات بين حركة طالبان في أفغانستان وروسيا في إطار المصالح المشتركة، المتمثلة في مجابهة النفوذ الأمريكي في المنطقة وردع الإرهاب والجماعات المتطرفة – بالأخص التي تنتمي إلى داعش- ومنذ أغسطس 2021، وعقب انسحاب القوات الأمريكية والانهيار السريع للحكومة السابقة، المدعومة من الغرب، بسطت طالبان سيطرتها على السلطة في معظم أراضي أفغانستان، بما في ذلك العاصمة كابول، وعلى الرغم من استفادة روسيا من الانسحاب الأمريكي، والذي من شأنه أن يعزِّز النفوذ الروسي في منطقة أسيا الوسطى، لكن لم تحقق حكومة طالبان الشرعية الدولية أو الاعتراف بها من باقي الدول بما فيهم روسيا.
و في تصريح لوزير الخارجية في حكومة طالبان، “أمير خان متقي”، أكد بأن بلاده تأمل بتوسيع التعاون مع روسيا، رغم أن الجانبين لم يناقشا بَعْدُ شروط الاعتراف بالحكومة الأفغانية الجديدة، فبحسب ما ورد، روسيا وطالبان لم يناقشا أي شروط للاعتراف بعدُ، لكن لديهم علاقات جيدة، فتوجد سفارة روسية تعمل في كابول، وسفارة أفغانية في موسكو، ولا توجد شروط خاصة؛ أملًا أن يستمر هذا التعاون في التطور لاحقًا.
ومن جانبه، أكد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بأن روسيا تقيم اتصالات ذات طابع عملي مع ممثلي طالبان، من خلال سفارتها في كابول، وشدَّد على أن الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في أفغانستان، جعلت المجال الإنساني مُلِحًّا بشكل خاص، خلال التعاون العملي.
وترتب على ذلك، مؤتمر تبنته روسيا في أكتوبر 2021؛ حيث دعت 10 قوى إقليمية في موسكو، وهي دول (روسيا، والصين، وباكستان، والهند، وإيران)، ودول آسيا الوسطى (كازاخستان، وقيرغيزستان وطاجيكستان، وتركمانستان، وأوزبكستان)، بشأن مؤتمر للمانحين من الأمم المتحدة؛ لمساعدة أفغانستان، وتجنب الانهيار الاقتصادي والكارثة الإنسانية، مدركةً أن أي امتداد للصراع من أفغانستان، يمكن أن يهدد الاستقرار الإقليمي، وبالفعل، سلَّمت روسيا عدة شحنات من المساعدات الإنسانية إلى أفغانستان، في (نوفمبر، وديسمبر) من العام المنصرم، بالإضافة إلى مساعدة الطلاب الأفغان في الوصول إلى روسيا؛ لمواصلة دراستهم.
وأكد (لافروف)، أن روسيا تقر بجهود طالبان لمحاولة استقرار الوضع في أفغانستان، في محاولاتٍ لتثبيت الوضع العسكري والسياسي، وإقامة عمل جهاز الدولة، ولكنه حثَّ حركة طالبان على تشكيل إدارة، تعكس ليس فقط مصالح جميع المجموعات العرقية، ولكن جميع القوى السياسية في أفغانستان؛ من أجل تحقيق سلام مستقر في البلاد، موضحًا أن الاعتراف الرسمي بحكومة حركة طالبان في أفغانستان، سيعتمد على كيفية وفائها بوعودها، بخصوص التصدي للتهديدات الصادرة من أراضي أفغانستان.
وفي السياق ذاته، أدانت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، تجميد واشنطن الأصول الأفغانية، باعتباره أمرًا يثير التساؤلات حول مصداقيتها في مدى سعيها لتحقيق الاستقرار في أفغانستان؛ وذلك تعليقًا على تجميد 7 مليارات دولار من أصول البنك المركزي الأفغاني المحتفظ بها في الولايات المتحدة.
العلاقات الأفغانية الأوكرانية: ليست بالحليف ولا بالعدو، هكذا يمكن وصف طبيعة العلاقات بين أوكرانيا وأفغانستان، فليست بالشريك الاقتصادي ولا السياسي، كما لا تجمعهما أي دواعٍ للعداء، فهما جارتان وحسب، وإن كانتا قد جُمعتا مؤخرًا في سياق الحديث عنهما، باعتبارهما دولتين منكوبتين، تؤثر التغيرات التي تجري فيهما، على السياسة الدولية.
ورغم وجود علاقات أقوى نسبيًّا بين روسيا وأفغانستان، إلا أن حكومة طالبان التزمت بالحياد، فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، بحسبِ تصريحات وزارة الخارجية، تربط أفغانستان وأوكرانيا علاقات تتسم بالموضوعية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدين، بالإضافة إلى علاقة مرتبطة بالجالية الأفغانية في أوكرانيا، من طلاب وغيرهم، وإن كانت – الآن – علاقة من جانب واحد، وهي حكومة طالبان، في ظل عدم اعتراف المجتمع الدولي بشرعيته سابقًا.
تأكيدًا على الحياد، أصدر المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية لجماعة طالبان “عبد القهار بلخي”، بيانًا في 25 فبراير، يحثُّ على ضرورة امتناع جميع الأطراف عن اتخاذ مواقف قد تزيد من حدة العنف، كما أكدت الجماعة على اتباعها لسياسة خارجية محايدة، وحثَّت طرفي الصراع على ضمان سلامة الطلاب الأفغان في أوكرانيا، بالإضافة إلى حل الأزمة بين الطرفين، من خلال الحوار والوسائل السلمية.
ومن سياق العلاقات بين أفغانستان وطرفي الأزمة، يمكن القول: إن العلاقات بين حكومتي (أفغانستان وروسيا) تربطها مصالح مشتركة، متمثلة في الاستقرار السياسي والأمني في أفغانستان، والذي يضمن الاستقرار الإقليمي، واحتواء التهديدات الإرهابية الصادرة من أفغانستان والجوار، وتحجيم الدور الأمريكي.
لكن في ظل انشغال روسيا بالأزمة المستمرة في أوكرانيا، والتي تؤثر بشدة على أمنها واقتصادها، فمن المتصور أن تتراجع أولوية ملفات أسيا الوسطى، بما في ذلك العلاقات (الروسية-الأفغانية)، والنفوذ الروسي في المنطقة بشكل عام، كما أن علاقة أوكرانيا وأفغانستان تبقى مرتبطة بمحددات الالتزام الأوكراني، بحسن معاملة الرعايا الأفغان.
ثانيًا: ملف المرتزقة (بين تعاطي حكومة طالبان وبعض التوجهات الذاتية)
لا شك أن أفغانستان لن تكون بمنأى عن التفاعل مع الأزمة الروسية الأوكرانية؛ وذلك بحكم الجوار مع روسيا من ناحية، لكن في هذا الصدد، يمكن التمييز في ردود الأفعال الصادرة من الداخل الأفغاني، بين ردود الأفعال الصادرة عن حكومة طالبان، وردود الأفعال الأخرى الفردية من بعض الأفغان تجاه الأزمة، وكيفية التعاطي مع الملفات المرتبطة، خصوصًا ملف المرتزقة.
بالنسبة للحكومة: فإن وجود حركة طالبان في الحكم في هذه البقعة من العالم وصعودها لسدة الحكم بعد الانسحاب الأمريكي، جعل هناك تخوفًا من أن تكون مركزًا لاستقطاب العناصر الإرهابية منها، أو أن تكون بشكل ما طريقًا لتصدير العناصر الإرهابية لدول الجوار، تتفاقم بناءً عليها حالة عدم الاستقرار، وتتفاقم هذه المخاوف في أوقات الأزمات والصراعات؛ وهو ما جعلها حاضرة في الأزمة الروسية الأوكرانية.
لكن من ناحية طالبان، فمن المرجح أن تستمر طالبان في الالتزام بموقفها الحيادي من الأزمة الروسية الأوكرانية، وعدم دعم أي طرف لصالح الآخر؛ وذلك لرغبة طالبان في أن تحظى باعتراف دولي، وإقامة علاقات مع عدد أوسع من دول العالم، فلا تدخل في حالة عداء مجددًا مع الغرب، ولا تخسر جارتها المتعاونة روسيا.
مصالح ذاتية تحرِّك بعض المواطنين: لكن يبقى امتثال المواطنين لموقف حكومة طالبان غير مضمون، فتصريح الرئيس الأوكراني في بداية الغزو الروسي واحد من دواعي إثارة القلق؛ الذي دعا فيه كل الأجانب الراغبين في الانضمام إلى المقاومة ضد الروسيين، وحماية الأمن العالمي ، والانضمام إلى صفوف قوات الدفاع الإقليمية.
فمن ناحية، لا يُستبعد أن تستغل أوكرانيا هذا الوضع؛ لاستقطاب عناصر وجنود مرتزقة، أو أن يحدث تسرب لعناصر أفغانية منفردة، مدعوة بتطلعات ذاتية للانضمام للصفوف الأوكرانية، وهذا يظل مرتبطًا إلى حد كبير بالمزايا التي يحصلون عليها، والتي توفرها أوكرانيا للمقاتلين المنضمين لها، والذين يُستخدمون في حرب الشوارع.
فأوكرانيا أصبحت وجهةً لاستقبال العناصر المرتزقة، بل أنعشت سوق المرتزقة؛ إذ يحصل المقاتل المرتزق على مبالغ طائلة، الأمر الذي يبدو مُغْريًا للأفغان، خصوصًا في ظل تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي في أفغانستان.
ثالثًا: كيف تتأثر الملفات الأفغانية المختلفة
تحاول طالبان بعد وصولها للحكم، إقامة علاقات طيبة مع دول الجوار؛ لاعتبارات المنافع الاقتصادية المختلفة، بجانب دعمها سياسيًّا، خصوصًا أن روسيا دعت إلى فكِّ تجميد الأرصدة الأفغانية، وأرسلت مساعدات غذائية وطبية إلى أفغانستان من اللحظات الأولى لحكم طالبان، ودعمت عزم حركة طالبان مواجهة تنظيم داعش في أفغانستان.
أما من الناحية الاقتصادية، فبالنظر إلى أكثر واردات أفغانستان، نجد أن سلعة القمح تقود واردات أفغانستان بقيمة (436 مليون دولار)، والبترول المكرر (325 مليون دولار)، وبالرغم من أنها ليست واردات روسية، فروسيا ليست شريكًا اقتصاديًّا إستراتيجيًّا بالنسبة لأفغانستان، لكن نلاحظ أن القمح والنفط من واردات أفغانستان الرئيسية، وبالتالي، فإن أفغانستان ستتأثر بشكل غير مباشر بالانعكاسات الاقتصادية للأزمة، ومن ناحية العلاقات الأوكرانية الأفغانية، فلا تربط أفغانستان بأوكرانيا علاقات اقتصادية واسعة، وفي السياق ذاته، وفي ظل حالة العقوبات المتتالية على الجانب الروسي، فمن المرجح، أن يتأثر حجم المساعدات الإنسانية والإغاثات التي تقدمها روسيا لأفغانستان.
أما التأثيرات السياسية، فطالبان بحكم تجربتها في السعي نحو الوصول للحكم والتفاعلات المختلفة التي مرت بها، جعلتها تتفهم حساسية الموقف الحالي بين روسيا وأوكرانيا، وكيف أن موقف أفغانستان من الأزمة محددًا في الموقف الدولي من حكومة طالبان.
وتتفهم أفغانستان القلق الرئيسي لروسيا وطبيعة مطالبها، بضمان أمنها السياسي، والذي سخرت له زيادة في عدد القوات الروسية في طاجيكستان؛ لمنع “المتطرفين” من القدوم إلى تلك البلدان، عبر الأراضي الأفغانية، كما تقدر أفغانستان طبيعة الدعم السياسي الروسي، التي تتلاقاه طالبان مؤخرًا، وفي علاقتها مع روسيا، ومسارعة الأخيرة إلى التعامل معها، حتى قبل بدء القوات الغربية بالانسحاب من أفغانستان.
ويرتبط بالتأثيرات السياسية التأثيرات الأمنية، فتتطلب الأزمة مجهودات أوسع من حكومة طالبان؛ لإحكام سيطرتها على المنافذ الحدودية المختلفة؛ لإثبات أنها لن تكون مصدرًا لتصدير المرتزقة، وإثبات حسن نيتها، في أن تكون على حياد تام من الأزمة.
إجمالًا، يمكن القول: إن الأزمة الروسية الأوكرانية رفعت الضغط نسبيًّا من على حكومة طالبان، وأن طالبان تحرص خلال المرحلة الراهنة، إلى كسب ثقة المجتمع الدولي، والحصول على الاعتراف بها، كحكومة شرعية في البلاد، وهو ما يعد أولوية، والتي ستتعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية بناءً عليه.
لذا يرجح، أن تلتزم أفغانستان بالحياد في ردود أفعالها تجاه الأزمة الروسية الأوكرانية؛ ضمانةً بألا تقع في فخ أن تُحسب على أحد الأطراف، وتطالها عقبات ذلك، بالإضافة إلى أنها ستخطو خطى حليفتها (الصين) في التأني في مواقفها من الأزمة.
من المرجح، أن تكون التأثيرات الاقتصادية المباشرة للاقتصاد الأفغاني محدودة؛ لعدم وجود شراكة اقتصادية إستراتيجية بين أفغانستان وطرفي الأزمة، وفي الوقت ذاته، قد يتأثر الحضور الروسي في أفغانستان. بل وقد تسعى أفغانستان أن تتجنب استخدامها كبوابة لإدخال المرتزقة إلى أوكرانيا؛ بهدف تحويلها إلى بؤرة مخيفة من بؤر الصراع والاضطراب وعدم الاستقرار ؛ جراء استخدامها لرفع مستوى التهديد لأمن روسيا القومي، بتكثيف خطر الإرهاب والعنف على حدودها .