المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > استقلالُ القضاءِ في تركيا: إشكاليةُ العلاقةِ مع السلطة التنفيذية
استقلالُ القضاءِ في تركيا: إشكاليةُ العلاقةِ مع السلطة التنفيذية
- أبريل 17, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات

إعداد: محمود حسن
باحث مساعد في برنامج دراسات الدول التركية
شَهِدَ النظامُ القضائيُ التركيُ عبر العقود الماضية تحولاتٍ جوهريةً تعكس طبيعة التوازنات السياسية والمؤسسية داخل الدولة، فمنذ تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك، مروراً بفتراتِ الهيمنةِ العسكريةِ، ووصولاً إلى حقبة حزب العدالة والتنمية، شكّلت السلطة القضائية ساحةً للصراع بين مختلف الفاعلين السياسيين والعسكريين، كما اتخذت دوراً متبايناً بين الخضوعِ الكاملِ للسلطة التنفيذية والتمتع النسبي بالاستقلال، يتناول هذا المقال ثلاثة مراحل رئيسية في تطور العلاقة بين القضاء والسلطة السياسية في تركيا، موضحاً كيف استخدم كل نظام قائم المحكمة الدستورية كأداةٍ لتعزيزِ شرعيتهِ أو تصفيةِ خصومه السياسيين. كما يرصد المقال الانعكاسات المؤسسية والقانونية لتلك العلاقة على مبدأ الفصل بين السلطات ومدى استقلال القضاء التركي في السياقات المختلفة.
أولًا: الحقبةُ الكماليةُ:
اتسمتْ فترةُ حكم مصطفى كمال أتاتورك (1923- 1938) بخضوعِ السلطةِ القضائيةِ بشكلٍ كاملٍ للرقابة التنفيذية، لم يؤسسْ الزعيم التركي محكمةً دستوريةً عليا لرقابةِ دستوريةِ القوانين والتي اعتبرت من اختصاص البرلمان أو لم تمارس أصلاً في أغلب الأحيان، على سبيل المثال تضمن نص دستور 1924 على إشارات إلى “الإسلام” قبل أن يتمَّ محوها عبر تعديل دستوري في 1928 ومن ثم تكريس العلمانية في المادة الثانية من الدستور التركي المعدّل عام 1937. في ضوء هذه المعطيات، يمكن رؤية الغياب الكامل لأيِ أداةٍ رقابيةٍ على تشريع القوانين والدساتير التركية بما يعكسُ هيمنةَ الحكم المطلق لحزب الشعب الجمهوري الحاكم أنداك.
ثانيًا: حقبةُ الهيمنةِ العسكريةِ على القضاء:
تم تأسيس المحكمة الدستورية العليا عام 1962 كجزء من “الإصلاحات” الهيكلية التي نفذها الجيش التركي آثر انقلاب عام 1961 والإطاحة بحكومة عدنان مندريس، ورغم غياب القضاة عن عملية صياغة دستور 1961 – والذي وضعَ أسسَ المحكمةِ- واقتصارها على مزيج من النخبة العسكرية والعلمانية الموالية لحزب الشعب الجمهوري، إلا أنه اعتبر خطوةً نحو تقليصِ نفوذِ السلطةِ التنفيذيةِ وتعزيز الأداء الديمقراطي لتركيا. بناءً على ذلك,، سعت العناصر العسكرية لتحقيق مجموعة من المستهدفات عبر نفوذها القضائي وهي:
1- تعزيزُ مصالحِ النخبة السياسية: وفقاً لدستور 1961، لا يمتلكُ الأفرادُ الحقَّ في التقدم بادعاءات قضائية لدى المحكمة الدستورية العليا واقتصر ذلك الحق القانوني على الأحزاب السياسية والمدعيين العاميين للدولة التركية وأجهزة الحكومة عموماً. بالتالي، يمكنُ النظرُ إلى دور المحكمة الدستورية العليا كأداةٍ لحمايةِ النخبةِ الحاكمة من ملاحقة بعض النواب الأتراك الذين يتمتعون بشعبية حقيقية.
2- تقليصُ الدور الرقابي للمحكمة الدستورية: أدى الانقلابُ العسكريُ التركيُ عام 1981 إلى تحجيمِ دورِ المحكمةِ الرقابي وتعزيز دور الجيش داخل الأروقة القضائية. على سبيل المثال، احتكرتْ المؤسسةُ العسكريةُ والنخبة العلمانية تعيينَ القضاة الأتراك دون أي تمثيل نيابي وفقاً لدستور 1981، بحكم الدستور الجديد، كان الرئيس مخولاً باختيار جميع القضاة الأحد عشر العاديين والقضاة البدلاء الأربعة من بين المرشحين الذين رشحتهم المحاكم العليا الأخرى، وهذه المرة مع منْحِ دورٍ أكبر بكثير للمحاكم العسكرية العليا، وبما أن منصبَ رئيسِ الجمهوريةِ كان يشغلهُ زعيمُ الانقلابِ العسكريِ، كينان إيفرين، الذي تقاعد من الجيش ليتم تعيينه أول رئيس بعد انتقال البلاد إلى حكومة مدنية في عام 1983، أصبحتْ المحكمةُ الدستوريةُ في واقعِ الأمرِ “دميةً” بيد المؤسسة العسكرية. كما يجدر الإشارة إلى تحييد المحكمة الدستورية عن لعب أي دور في صياغة دستور 1981 بجانبِ غيابِ سلطةِ المحكمة في اقتراحِ أي تعديلاتٍ دستوريةٍ مؤثرةٍ واقتصر حقُّها الدستوري على مراجعة النص الكتابي للمواد الدستورية دون التأثير بمحتواها.
3- استهدافُ الأحزاب السياسية الإسلامية: نظراً لتماهي القوات المسلحة التركية مع المبادئ العلمانية التركية الي وضعها الرئيس المؤسس أتاتورك، سعىَ الجيشُ لتصفيةِ الأحزابِ ذاتِ الخطابِ الديني، معتمداً على المحكمة الدستورية والتي وظّفتْ موادَ دستوريةً لشرعنةِ تحركاتها ضد هذه الأحزاب، تنص المادة 68 من الدستور التركي على أنه يجوزُ إخضاعُ الأحزاب السياسية للإغلاق بسببِ ممارسة أنشطةٍ معاديةٍ للعلمانية، وبناءً على هذه الأحكام، أخضعتْ المحكمةُ الدستوريةُ خمسةَ أحزاب، وهي حزبُ الرفاه، حزب الوحدة الكبرى، حزبُ الفضيلة، الحزبُ الديمقراطي وحزب ديمقراطية الشعوب للحل على أساس ممارسة أنشطة معادية للعلمانية خلال الفترة بين 2001-2003.
ثالثًا: حقبةُ العدالةِ والتنمية (2002- الآن):
مع صعودِ حزبِ العدالةِ والتنميةِ إلى سُدّةِ الحكمِ في 2002، سعتْ المعارضةُ لتوظيف القضاء للإطاحة بالحزب الحاكم مستفيدين من توجهات الحزب الدينية وقضايا الفساد داخل الحزب، مثلت قضية الفساد داخل العدالة والتنمية عام 2013 ضربةً قاصمةً لشعبية الحزب حيث تورطت 52 شخصيةً بارزةً داخل الحكومة التركية بمخطط “الغاز مقابل الذهب”، ولقد أشارتْ التحرياتُ الجنائيةُ إلى تورطِ سليمان أصلان، مدير بنك خلق المملوك للدولة، ورجل الأعمال الإيراني رضا ضراب في صفقة ذهب قيمتها 9.6 مليار دولار في 2012 واحتفاظ أصلان بمبلغ4.5 مليون دولار نقداً بمنزله تلقاها لقاء مساعدة تهريب كميات ضخمة من الذهب إلى إيران – المحظور التعامل معها دولياً في إطار العقوبات الأمريكية- لقاء حصول تركيا على النفط والغاز الإيراني، ولقد امتدت تُهمُ الفسادِ وغسيلِ الأموالِ لتشملَ أعضاءَ مجلس الوزراء مثل معمر غولر وزير الداخلية ومحمد ظافر شاغليان وزير الاقتصاد، وأردوغان بيرقتار وزير البيئة والتخطيط العمراني.
في المقابل، هناك أدلةٌ متعددةٌ تؤكدُ تورطَ جماعة فتح الله جولن – المصنفة إرهابياً – في هذه القضية. أولاً، توقيتُ الإفراج عن الأدلةِ المدينة لمسؤولي الحكومة التركية جاء قُبيل الانتخابات البلدية عام 2014 فيمكن استنتاج أن هدفَ التسريباتِ إضعافُ الحكومة سياسياً. ثانياً، تم تسريب مكالمات هاتفية مسجلة منها ما نسب لأردوغان ونجله، بشكلٍ غير قانوني من جهات شرطية وقضائية، أثبتْ ولاءها لتنظيم فتح الله غولن. في هذا السياق، وظفت المعارضة التركية عناصرها القضائية لتقويض القبول الشعبي لدى إدارة أردوغان.
تبعاً لذلك، شكّلتْ هذه القضيةُ نقطةَ تحولٍ في العلاقة بين الرئيس التركي والقضاء، حيث انتهج أردوغان عدةَ سياساتٍ تستهدفُ تعزيزَ نفوذهِ داخل النظام القضائي ويمكنُ استعراضها على النحو التالي:
1- تعزيزُ الرقابةِ التنفيذيةِ على السلطة القضائية: اتخذتْ حكومةُ العدالةِ والتنميةِ إجراءاتٍ عدة استهدفت تقليص استقلال القضاء. على سبيل المثال، مرر البرلمان التركي قانوناً يمنحُ وزارةَ العدل سلطةَ تعيين أعضاء المجلس الأعلى للقضاء عام 2014. بالتالي، أصبحَ لدى الحزبِ الحاكمِ ” فيتو” على القضاء وأعضاء النيابة العامة، منتهكاً مبدأ الفصل بين السلطات. بالإضافة إلى ذلك، أصبحَ لدى رئيس الجمهورية الحقُّ في تعيين نصفِ أعضاءِ المحكمةِ الدستورية وأعضاء مجلس الدولة آثر التعديلات الدستورية التي أجراها أردوغان عام 2017, والتي اعتبرتها المجموعة البرلمانية لمجلس أوروبا ” انتهاكاً للقيم الديمقراطية وتقويضاً لاستقلال القضاء” ضمن تقريرها الصادر في العام ذاته.
هيمنة السلطة التنفيذية التركية امتدت إلى استهداف القضاة بشكلٍ مباشر، حيث تم اعتقال قاضيين – متين أوزشيليك ومصطفى يشار – بتهمة الانتماء إلى تنظيم ” فتح الله غولن بعد قرارهما بالإفراج عن 74 متهماً في تشكيل النظام السالف ذكره. ورغم عدم وجود أدلة قانونية كافية لاحتجاز القاضيين على ذمة التحقيق مما أدى للإفراج المشروط عنهما، إلا أن حكومةَ أحمد داود أوغلو علقت تنفيذ الحكم مما عكسَ قدرةَ الحكومةِ على إصدار قرارات قانونية بحكم الأمر الواقع.
2- تغلغلُ الحزب الحاكم في جسم القضاء التركي: سعت إدارةُ أردوغان لضمانِ ولاء القضاء عبر استبدال القضاة المناوئين للحكومة بآخرين أكثر تماشياً مع توجهات العدالة والتنمية. يتجلى هذا التوجّهُ بوضوحٍ في تصريح أردوغان عقب انتخابات الهيئات القضائية عام 2014: ” الحكومة التركية التي تمكنتْ من تطهيرِ الدولةِ من العصابات، ستطهّر مؤسسة القضاء من تلك الشبكات”، في إشارة إلى “جماعة الخدمة” بقيادة فتح الله غولن. كما أصدر المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين، قراراً بفصل 5 مدعين من وظائفهم بتاريخ 14 يناير 2016. نقطة التحول الرئيسية في تعزيز نفوذ الحكومة داخل المؤسسة القضائية تمثلت في تداعيات حادثة انقلاب مايو 2016, حيث قام أردوغان باستبدال نحو 4634 قاضٍ ومدعٍ عام بقضاة ومدعين عامين موالين لحزب “العدالة والتنمية”، وذلك بتهمة الانتماء المزعوم لجماعة فتح الله جولن.
3- استهدافُ رموز المعارضة التركية: فيما رأهُ البعضُ تصفيةً لخصومِ أردوغان السياسيين، أطلقتْ النيابةُ العامةُ سلسلةً من الدعاوى والتهم القضائية لشخصيات بارزة في المشهد السياسي التركي. على سبيل المثال، تم احتجاز صلاح الدين دميرطاش، الزعيم السابق لحزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد، على ذمة تهم دعم وتمويل الإرهاب منذ عام 2016. كما يواجه كمال كليتشدار أوغلو، الزعيم السابق لحزب الشعب الجمهوري، تهم إهانة الرئيس ودعم التنظيمات الإرهابية منذ أغسطس 2024 ضمن قصايا قد يصل مدى عقوبتها إلى السجن لمدة 65 عاماً في حالة إدانته. بالإضافة إلى ذلك، أصدرت المحكمة حكماً بسجن رئيس بلدية إسطنبول السابق أكرم أمام أوغلو بتهمة إهانة مسؤولي المجلس الأعلى للانتخابات عام 2022. ورغم استئناف الحكم، إلا أن الأخيرَ تم اعتقالهُ على ذمةِ تحقيقاتٍ أخرى متعلقةٍ بالفساد ودعم الإرهاب في مارس 2025. بالتالي، رغم وجودِ أسسٍ قانونيةٍ قويةٍ لهذه الدعاوى، لا يزال يُضفي عليها طابعاً سياسياً ملحوظاً نظراً لتأثير هذه الشخصيات في الشارع التركي.
4- الصدامُ الخطابيُ مع القيادات القضائية المناوئة للحكومة التركية: أثارتْ تحركاتُ أردوغان الهادفة لتعزيز سيطرته على القضاء، حنقَ مسؤولين رفيعي المستوى داخل النظام القضائي التركي. على سبيل المثال، انتقد كبير القضاة السابق هاشم كيليش قبل استقالته في مارس 2014 “تحول القضاء إلى أداة انتقام سياسية” بعد سيطرة “الشخصيات السياسية المدعومة من الحكومة على القضاء”، في إشارةٍ إلى نتائج انتخاباتِ الهيئاتِ القضائيةِ المذكورةِ أعلاه. علاوةً على ذلك، حذر رئيس المحكمة الدستورية العليا زهدي أرسلان من “خطورة التحكم بالقضاء وجعله أداة لتحقيق أهداف سياسية” على خلفية الصدام القضائي مع أردوغان عام 2016. أخيراً، امتنعت 32 نقابة قانونية عن حضور حفل افتتاح العام القضائي نتيجةً لخلافاتٍ بين الحكومة والسلطة القضائية حول مكان عقد الحفل في 2019، هذا يشيرُ إلى وجودِ شريحةٍ قضائيةٍ كبيرةٍ معارضةٍ لنفوذ الحكومة واسع النطاق داخل القضاء.
ختامًا:
يمكن القول إن تجربةَ القضاءِ الدستوريِ في تركيا تُظهر مدى هشاشةِ مبدأ الفصل بين السلطات في سياقات تغيبُ فيها الضماناتُ المؤسسيةُ والاستقلاليةُ الكاملةُ للسلطة القضائية، فمن هيمنة حزب الشعب الجمهوري في الحقبة الكمالية، إلى التدخل العسكري المباشر في تشكيل وصياغة النظام القضائي، ووصولاً إلى التغلغل العميق للسلطة التنفيذية في عهد حزب العدالة والتنمية، تعكس العلاقة بين القضاء والسلطة السياسية حالةً من التبعيةِ والتسييسِ المستمر، هذا التداخلُ البنيوي بين السياسي والقضائي أضعف من قدرة المحكمة الدستورية على أداء دورها الرقابي بفعالية، وحوّلها في كثيرٍ من الأحيان إلى أداةٍ لخدمةِ مصالح النظام الحاكم. وفي ظل استمرار النزاع بين قوى المعارضة والحكومة داخل الأروقة القضائية، تبقى مسألةُ استقلالِ القضاءِ أحدَ التحدياتِ الأساسية التي تواجهُ المسارَ الديمقراطيَ في تركيا.
المراجع:
-
سعيد، ك. (2016). القضاء في تركيا: بين مطرقة الرئاسة وسندان الحكومة! مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. متاح على الرابط التالي: https://shorturl.at/4B0JP
-
عمر، ج. (2024). كمال كلجدار أوغلو مهدد بالسجن والمنع من العمل السياسي. صحيفة العربي الجديد. متاح على الرابط التالي: https://shorturl.at/wHg3U
-
3. قضية الأحمق”.. محاكمة قضائية تهدد المستقبل السياسي لـ “إمام أوغلو”. (2024). ترك برس. متاح على الرابط التالي: https://shorturl.at/iB5lC
-
Belge, C. (2006), Friends of the Court: The Republican Alliance and Selective Activism of the Constitutional Court of Turkey. Law & Society Review, 40: 653-692. https://doi.org/10.1111/j.1540-5893.2006.00276.x
-
Bâli, A. )2013). Courts and constitutional transition: Lessons from the Turkish case, International Journal of Constitutional Law, Volume 11, Issue 3, Pages 666–701, https://doi.org/10.1093/icon/mot025
-
Werz, M. & Hoffman, M. (2016). The Process Behind Turkey’s Proposed Extradition of Fethullah Gülen. Center for American Progress. Available at: https://shorturl.at/tAiHq
-
Kirişci, K. & Toygür, I. (2019). Turkey’s new presidential system and a changing west. Brookings. Available at: https://shorturl.at/9x77y
-
Bircan, T. (2016). Does Corruption Matter? Impact of 2013 Corruption Scandal on Political Trust in Turkey. Research Institute for Work and Society. Available at: https://tinyurl.com/mv26d9bu