تُمثِّلُ ليبيا إحدى أبرز الساحات التي تشهد تنافسًا دوليًّا محتدمًا؛ حيث تتداخل المصالح الإقليمية والدولية في مشهدٍ مُعقَّدٍ ينعكس على مُجْرَيات الأحداث داخل البلاد، وفي ظلِّ التحوُّلات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، باتت القوى الكبرى تُعيد صياغة إستراتيجياتها تجاه ليبيا، خاصَّةً في ظلِّ تزايد النفوذ الروسي والتحديات الأمنية والسياسية التي تؤثر على استقرارها.
في هذا السياق، شكَّلت زيارة قائد الجيش الليبي، المشير خليفة حفتر، إلى باريس، ولقاؤه بالرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في قصر الإليزيه، يوم 27 فبراير 2025، تطوُّرًا بارزًا في المشهد السياسي الليبي، وأعادت إلى الواجهة الاهتمام الفرنسي بليبيا بعد مرحلة من الانكفاء النسبي، مقابل تصاعُد النفوذ الروسي منذ معركة طرابلس قبْل نحو خمس سنوات، ولم يكن اللقاء مجرد زيارة بروتوكولية، بل حمل رسائل سياسية وأمنية واضحة، تعكس رغبة باريس في استعادة زمام المبادرة في شمال أفريقيا، في ظلِّ احتدام المنافسة بين القوى الدولية والإقليمية على النفوذ في ليبيا.
على الجانب الآخر، تأتي الزيارة في إطار استراتيجية حفتر لتوسيع شبكة تحالفاته الدولية؛ إذ يسعى إلى تنويع شركائه بدلًا من الاعتماد المُفْرِط على روسيا، لا سيما في أعقاب زيارته الأخيرة إلى بيلاروسيا، يوم 17 فبراير الماضي، التي عزَّزت المخاوف الغربية من تنامِي التقارب بينه وبين موسكو. ومن خلال تعزيز التعاون مع باريس، يأمل حفتر في تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية تُعزِّزُ موقفه محليًّا ودوليًّا، وتُضْفِي مزيدًا من الشرعية على دوره في المشهد الليبي.
محاور اللقاء
رغم أن البيان الرسمي الصادر عن القيادة العامة للجيش الليبي أشار إلى أن اللقاء تناول دعم العملية السياسية وجهود الأمم المتحدة، إلَّا أن المباحثات ارتكزت فعليًّا على ثلاثة محاور رئيسية [1]:
أولًا: الوجود الروسي في ليبيا وتأثيره على المصالح الفرنسية
تشعر باريس بقلقٍ متزايدٍ من تنامي الحضور الروسي في ليبيا، خاصَّةً مع تعزيز موسكو لأنشطتها العسكرية في الجنوب الليبي، وهو ما تعتبره تهديدًا مباشرًا لمصالحها الاستراتيجية في الساحل الأفريقي. بعد الانسحاب الفرنسي من دول مثل مالي وبوركينا فاسو، باتت فرنسا في وضع صعب أمام النفوذ الروسي المتزايد، خاصَّةً بعد تشكيل الفيلق الروسي الأفريقي.
في هذا السياق، يبدو أن باريس ترى في حفتر شريكًا يمكنه موازنة هذا النفوذ، عبْر تقليص الحضور الروسي في الجنوب الليبي.
ثانيًا: القاعدة العسكرية الفرنسية في الجنوب الليبي
تعمل فرنسا على تعزيز وجودها العسكري في المنطقة، وتسعى إلى إقامة قاعدة في أقصى الجنوب الليبي، بالقرب من الحدود مع النيجر؛ لتعزيز عمليات مكافحة الإرهاب ووقْف تدفُّقات الهجرة غير النظامية. ويبدو أن باريس طلبت من حفتر السماح باستخدام إحدى القواعد العسكرية هناك؛ لتعويض انسحابها من منطقة الساحل.
ثالثًا: الإفراج عن شخصية نيجرية متمردة
شملت المحادثات أيضًا قضايا إقليمية، من بينها مصير محمود صلاح، المعارض النيجيري الذي اعتقلته قوات الجيش الوطني الليبي مؤخرًا؛ حيث ضغطت فرنسا من أجل إطلاق سراحه؛ ما يعكس تداخل المصالح الليبية مع الملفات الإقليمية، لا سيما في النيجر؛ حيث تسعى باريس للحفاظ على نفوذها هناك.
السياقات الحاكمة للقاء
تشكل ليبيا اليوم ساحة صراع بين القوى الكبرى؛ حيث تسعى روسيا لتعزيز وجودها عبْر شركائها المحليِّين، بينما تحاول فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا موازنة هذا النفوذ عبْر تحالفات جديدة، وقد ازدادت أهمية ليبيا بالنسبة لفرنسا بعد تراجُع نفوذها في مالي والنيجر وبوركينا فاسو؛ ما دفعها إلى البحث عن بدائل للحفاظ على مصالحها الأمنية والاقتصادية في شمال أفريقيا والساحل.
إلى جانب ذلك، يتزايد النفوذ الروسي في الجنوب الليبي، مستغلًا الفراغ الذي خلَّفه الانسحاب الفرنسي من دول الساحل؛ حيث تشير التقارير إلى تصاعد النشاط العسكري الروسي في المنطقة، فضلًا عن تفاقم المخاوف الفرنسية عقب زيارة حفتر إلى بيلاروسيا؛ إذ تخشى باريس، أن تصبح ليبيا بوابةً جديدةً لترسيخ الحضور الروسي في أفريقيا؛ بما يشكل تهديدًا مباشرًا لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
كما تُعدُّ ليبيا نقطة انطلاق رئيسية للهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، كما أنها تُمثِّلُ لاعبًا محوريًّا في معادلة أمْن الطاقة، خصوصًا بعد الأزمة “الروسية – الأوكرانية”.
ومن هنا، تسعى باريس إلى تعزيز شراكتها مع حفتر؛ لضمان استقرار المناطق التي يسيطر عليها الجيش الوطني الليبي؛ بما يحدُّ من تدفُّقات المهاجرين، ويضمن حماية الاستثمارات الفرنسية في قطاعيْ “النفط والغاز”.
الأبعاد الإستراتيجية للقاء
1- إثبات الحضور في المشهد الليبي:
تدرك فرنسا أن غيابها عن المشهد الليبي يعني ترْك السَّاحة مفتوحةً أمام منافسيها، وعلى رأسهم روسيا وتركيا وإيطاليا؛ حيث تمكَّنت هذه الدول من تعزيز وجودهما العسكري والسياسي في ليبيا، خلال السنوات الأخيرة؛ فقد استطاعت موسكو، عبر مجموعة “فاغنر” سابقًا، ومن ثمَّ من خلال استراتيجيات أكثر تعقيدًا تشمل الوجود المباشر عن طريق “الفيلق الروسي”، أن تكرّس نفوذها في الشرق والجنوب الليبي.
في المقابل، تواصل تركيا وإيطاليا دعمها لحكومة طرابلس؛ ما يجعل أيَّ تحرُّكٍ فرنسيٍّ في ليبيا محفوفًا بتحدياتٍ كبرى، في ظل هذا التوازن الحَرِج.
في هذا السياق، تسعى باريس إلى تعزيز شراكتها مع حفتر ليس فقط لموازنة النفوذ الروسي، ولكن أيضًا لإعادة ضبْط المعادلة أمام النفوذ التركي والإيطالي، إلَّا أنها تدرك أن المهمة ليست سهلةً، لا سيما وأن حفتر نفسه يدير علاقاته الدولية بمرونةٍ تتيح له تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية دون الانحياز الكامل لأيِّ طرفٍ.
من هنا، لم يكن اللقاء في باريس مجرد إعلان دعم فرنسي، بل جاء ضمن سياقٍ تفاوضيٍّ مُعقَّدٍ يعكس طبيعة المصالح المتشابكة بين مختلف الفاعلين في المشهد الليبي.
2- تعزيز النفوذ الفرنسي في الجنوب الليبي:
لا تقتصر المصالح الفرنسية على شرق ليبيا فحسب، بل تمتدُّ إلى الجنوب؛ حيث تُشكِّلُ قاعدة “لويغ الجوية” نقطة ارتكاز حيوية لعمليات باريس في منطقة الساحل، وبحسب تسريبات إعلامية، فإن أحد الملفات التي نُوقشت خلال لقاء ماكرون وحفتر كان إعادة تفعيل هذه القاعدة، في ظل تصاعد التهديدات الأمنية في الصحراء الكبرى، لا سيما مع تنامِي الهجمات الإرهابية في تشاد ومالي والنيجر. [2]
يأتي هذا التوجُّه في وقتٍ تواجه فيه فرنسا تحديات متزايدة بعد انسحابها العسكري من مالي وأفريقيا الوسطى، وتراجع نفوذها في النيجر؛ لذا، فإن استعادة وجودها العسكري في الجنوب الليبي قد تُشكِّلُ ورقة ضغطٍ جديدةٍ بِيَدِ باريس، تُمكِّنُها من إعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية في القارة الأفريقية.
وعليه، يبدو أن باريس تسعى إلى ترسيخ موطئ قدمٍ عسكريٍّ قُرْبَ الحدود مع النيجر؛ في محاولةٍ لتعويض خسائرها الاستراتيجية في الساحل، غير أن هذه الخطوة – إن تحققت – قد تثير ردود فعل قوية، خصوصًا من موسكو، التي ترى في الجنوب الليبي امتدادًا لنفوذها الإقليمي؛ ما يجعل هذه التحرُّكات الفرنسية عاملًا إضافيًّا في معادلة التنافُس الدولي على ليبيا.
3- التمهيد لدور أكبر لحفتر في مستقبل ليبيا:
يعكس استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمشير خليفة حفتر في قصر الإليزيه إدراكًا متزايدًا داخل الدوائر السياسية الفرنسية؛ لأهمية الدور الذي يلعبه الجيش الوطني الليبي كفاعلٍ رئيسيٍّ في مستقبل البلاد، ويؤكد في الوقت ذاته، تحوُّلًا في الاستراتيجية الفرنسية تجاه الملف الليبي؛ بحيث لم يعُدْ يمكن تجاهُل القوى الفاعلة على الأرض لصالح ترتيبات سياسية لم تثبت فاعليتها، كما تدرك باريس أن حفتر، بصفته القوة العسكرية الأكثر تنظيمًا في شرق وجنوب ليبيا، يُمثِّلُ عنصرًا محوريًّا في أيِّ معادلةٍ مستقبليةٍ، خصوصًا في ظلِّ إخفاق الجهود الأممية في تحقيق اختراقٍ حقيقيٍّ نحو تسويةٍ سياسيةٍ شاملةٍ.
وبهذا السياق، فإن إعادة الانخراط الفرنسي مع حفتر تُمثِّلُ رهانًا على الواقعية السياسية؛ حيث بات من الواضح أن تجاهل اللاعبين الأقوياء على الأرض لن يؤدي سوى إلى مزيدٍ من التعقيد في المشهد الليبي، كما أن باريس، التي تنظر بعين القلق إلى النفوذ الروسي المتنامي في ليبيا، تسعى إلى تحقيق توازنٍ استراتيجيٍّ يُعزِّزُ حضورها الإقليمي، وهو ما يتطلب إعادة بناء التحالفات التقليدية مع القوى التي تمتلك ثقلًا عسكريًّا وسياسيًّا حقيقيًّا داخل البلاد.
4- تعزيز المصالح الاقتصادية الفرنسية:
يُمثِّلُ قطاع النفط الليبي محورًا أساسيًّا في الاستراتيجية الفرنسية تجاه ليبيا؛ حيث تُعدُّ شركة “توتال” الفرنسية واحدةً من أبرز المستثمرين في الحقول النفطية الليبية؛ ما يجعل استقرار إنتاج النفط وتدفُّقه إلى الأسواق العالمية أمرًا حيويًّا بالنسبة لباريس. ومن هذا المنطلق، تدرك فرنسا أن ضمان استقرار منطقة الهلال النفطي، التي تقع معظمها في شرق ليبيا، يتطلب دعْم القوى المحلية القادرة على فرْض الأمن والسيطرة على هذه الموارد الاستراتيجية، وعلى رأسها الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر.
ولا تقتصر الحسابات الفرنسية على المصالح الاقتصادية فحسب، بل تمتدُّ إلى أبعاد جيوسياسية تتعلق بالمنافسة الأوروبية داخل ليبيا؛ إذ ترى باريس في روما منافسًا رئيسيًّا على النفوذ في البلاد، لا سيما أن إيطاليا، من خلال شركة “إيني”، تمتلك نفوذًا قويًّا في قطاع الطاقة الليبي، وتسعى إلى تعزيز دورها كلاعبٍ رئيسيٍّ في رسْم ملامح مستقبل البلاد.
وفي هذا السياق، تحاول فرنسا عبْر تقوية علاقتها مع حفتر ضمان دور أكثر تأثيرًا في المشهد الليبي؛ ما يسمح لها بالحفاظ على مصالحها الاقتصادية وتقليص مساحة النفوذ الإيطالي المتزايد، خاصَّةً في غرب البلاد؛ حيث ترتكز حكومة طرابلس المدعومة من روما.
انعكاسات اللقاء على التوازنات الداخلية الليبية
1- تعزيز موقف حفتر في مواجهة خصومه: من شأن اللقاء أن يمنح حفتر دَفْعَةً قويةً على السَّاحة الداخلية؛ حيث يعزز موقعه كفاعلٍ رئيسيٍّ يحظى باعترافٍ دوليٍّ واسعٍ، وهذا قد يزيد من قدرته على فرْض شروطه في أيِّ تسويةٍ سياسيةٍ مستقبليةٍ، كما أنه قد يدفع بعض الأطراف الداخلية إلى إعادة حساباتها بشأن موقفها من الجيش الوطني الليبي.
2- تصاعُد التنافس بين القوى السياسية والعسكرية في ليبيا: قد يؤدي التقارُب الفرنسي مع حفتر إلى ردود فِعْلٍ من الأطراف الليبية الأخرى، خاصَّةً حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، التي تحظى بدعم تركيا وإيطاليا. هذا التنافس قد يزيد من تعقيد المشهد السياسي؛ حيث ستسعى كُلُّ الأطراف إلى تأمين دعم خارجي يُعزِّزُ موقعها في أيِّ ترتيباتٍ قادمةٍ.
في الختام:
رغم أهمية لقاء حفتر وماكرون، فإنه لا يُشكِّلُ تحوُّلًا جِذْرِيًّا بقدْر ما يعكس استمرار حالة “التوازن غير المستقر” في ليبيا؛ حيث تتنافس القوى الدولية على النفوذ دون الوصول إلى تسوية نهائية. ويؤكد توقيت اللقاء تصاعد حدة التنافس الجيوسياسي في المنطقة، مع سعْي باريس لإعادة تموْضعها في مواجهة النفوذ الروسي واستعادة ثقلها في شمال أفريقيا، لكن هذا التحرُّك محفوف بالتحديات، سواء على مستوى الداخل الليبي أو في إطار صراع المصالح الإقليمية والدولية؛ ما يفرض على فرنسا إعادة ضبْط استراتيجيتها لتفادي الانزلاق في حساباتٍ غير محسوبةٍ.
وفي ظل هذه التعقيدات، تبدو ليبيا أقرب إلى ساحة إعادة توزيع للأدوار أكثر منها إلى مسار تسوية مستدامة، بينما تبقى زيارة حفتر إلى باريس خطوة تعكس تقاطع المصالح أكثر من كوْنها نقطة تحوُّلٍ حاسمةٍ، في مشهدٍ تحكمه معادلات متغيرة وتوازنات دقيقة؛ تجعل من الصعب حسْم الاتجاه المستقبلي للأزمة في ليبيا.
[2] خليفة حفتر زار باريس بشكل “غير معلن” وناقش مع ماكرون ملفات أمنية وعسكرية، مونت كارلو الدولية، 27 فبراير، متاح على الرابط: https://shorturl.at/PDGfl
