عمّار ياسين: باحث في دراسات السّلام والصّراع
باعتباره في مُقدمة مؤسسات التمويل الدولية من حيث النفوذ والتأثير على الاقتصاد العالمي فضلاً عن سياساته التدخّليّة ومشروطيّاته الواسعة؛ يقوم صُندوق النقد الدولي سنوياً بتقدير وحصر الناتج الاقتصادي العالمي وفق مؤشرات عديدة، ثم يقوم بترتيب اقتصادات الأقطاب الإقليمية والدوليّة بناءً على الناتج المحلّي الإجمالي لكُل دولةٍ على حدة (GDP)[1] ولعل العام الجاري على وجه الخصوص يحمل دلالة معينة لتخطّي حاجز الاقتصاد العالمي 100 ترليون دولار لأول مرة وبانخفاض قُدِّر بنحو 4 ترليون دولار عن توقّعات صُندوق النقد الدولي بسبب تبعات استمرار كل من جائحة كورونا والصّراع الرُّوسي-الأُوكراني وانعكاس ذلك بالسّلب على سلاسل الإمداد في مختلف بِقاع العالم.
Source: Visual Capitalist based on International Monetary Fund (IMF), April 2022[2]
وبالنّظر في الرسم البياني الذي هو مزيج من أرقام صُندوق النقد الدولي (IMF) وتصميم موقع “Visual Capitalist” نستطيع استخلاص ما يلي:
1. لاتزال الولايات المُتحدة الأمريكيّة تتربع على عرش العالم كقوة ضاربة اقتصادياً وعسكرياً، حتى أن حجم اقتصادها وفق ترتيب اقتصادات العالم للعام الجاري يُعادل حجم قارات مُجتمعة، ومن ثم لا يُمكن القول بأن نظام الأُحادية القُطبية الذي تُهيمن من خلاله الولايات المتحدة الأمريكية على دوائر التأثير العالمي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي آخذة في التغيير بصورة جادة، نعم هناك تملمُل وحاجة مُلحّة لدى الصين تحديداً من أجل الدفع نحو نظام عالمي جديد تستعيد من خلاله ثنائيّة قُطبية تكون هي الطرف الثاني الفاعل فيه بدلاً من الاتحاد السوفييتي قديماً، وهناك أيضاً حاجة مُتصاعدة لدى أقطاب دوليّة أُخرى مثل روسيا من أجل خلق نظام عالمي أكثر تعدُّديّة يمثّل توازن قُوى على أن تكون هي الأُخرى إحدى أهم اللاعبات المؤثرات فيه، غير أن حجم الاقتصاد هو صاحب اليد الطُّولى في مثل هذه المواقف، وهو ما سنتلمّسه بالتفصيل في تحليل حجم الاقتصاد الروسي على وجه التحديد.
2. المرتبة الثانية في الترتيب يحتلّها العملاق الصّيني عن جدارة وبفارق هائل عن أقرب مُنافسيه، اليابان وألمانيا، بل إن تقدير “Visual Capitalist” يرى أن الصين بحلول عام 2030 أي بعد أقل من ثماني سنوات من الآن سيتخطّى حجم اقتصادها حجم اقتصاد الولايات المُتحدة الأمريكية؛ وحينها سيكون النظام الدولي في حالة جادة من التغيُّر ولعب أدوار أُخرى إقليمية ودولية للصين ليس فقط في الدوائر الاقتصادية ولكن كذلك في الدوائر السياسيّة والأمنية والعسكريّة في بقاع مختلفة من العالم.
3. شراكة الولايات المُتحدة والصين ترفع شِعار “لا فِكاك” فكل منهما هو الشريك التجاري الأكبر والأهم بالنسبة للآخر، وأنهما يتنافسان حتى في نسب الاستيراد والتصدير للعالم كمركز أول وثانِ وبفارق هائل عن أقرب منافسيهم، بما في ذلك الاستيراد والتصدير فيما بينهم، مما يعني استبعاد حدوث أيّة صراعات جادة بين الجانبين على قضايا حالية مثل الصّراع الروسي الأُوكراني، أو أُخرى مُستقبلية مثل النّزاع الصيني التايواني، مهما كانت هناك بعض المناوشات “الإعلامية” والتي يعلم طرفاها أنها لتهدئة الحلفاء ليس أكثر، وأنها مقصودة في ذاتها من دون أن يترتّب عليها أيّ موقف.
4. وثالثاً تأتي اليابان، حيث يحتل حجم اقتصادها المرتبة الثالثة عالمياً وبفارق معقول عن أقرب مُلاحقيها ألمانيا وبريطانيا، غير أن صدمة اغتيال رئيس وُزرائها السّابق شينزو آبي على يد أحد مُعارضيه منذ أقل من شهر وبصورة أذهلت العالم، رغم ما يُمثّله آبي من رمزية سياسيّة ودور أصيل في رسم السياسة الخارجيّة اليابانيّة تجاه العالم منذ ما يزيد عن عقد من الزمان، تفتح الباب أمام بعض التساؤلات لعلّ أهمها: هل تنأى اليابان بنفسها من الدخول في حالة عدم استقرار سياسي ستؤثّر بطبيعة الحال على سوقها الاقتصادي الواعد وتؤخّر من مسيرة تقدُّمها؟
اليابان واستراتيجيّتا القوة الناعمة والصُّعود السّلمي
تبقى اليابان هي المنافس الأكثر حكمة للعملاقين الأمريكي والصّيني على المدى المتوسّط، ولعلّ ما يُميّز اليابان فضلاً عن براعتها التكنولوجيّة واستقرارها السياسي والاقتصادي؛ هو سياستها الخارجيّة المرتكزة على استراتيجيّة القوة الناعمة واستراتيجيّة الصّعود السّلمي معاً، والتي تُحرز من خلالهما تقدُّماً ملموساً في بِقاع مُختلفة من العالم. على سبيل المثال، وكالة جايكا للتعاون الدولي الياباني مُنتشرة في ثلاثة أرباع الدول الإفريقيّة ولها مشروعات عديدة ومؤثرة، ولليابان كذلك قاعدة عسكريّة في جيبوتي لتأمين حركة تجارتها الدولية من وإلى إفريقيا، وبهدف مُكافحة القرصنة أيضاً وتقديم بعض الدعم فيما يخص المُشاركة الحذرة في قوات حفظ السّلام في عدّة بقاع تجعلها تنأى بنفسها عن أن تكون في مرمى الانتقاد أو المُعاداة.
5. لانزال في آسيا، الهند هي الأخرى تُحقّق قفزات تستدعي الدراسة، فحجم اقتصادها وفق العام الجاري جعلها تحتل المرتبة الثالثة قارياً بعد كل من الصين واليابان، والسّادسة عالمياً؛ مُتفوّقةً على كل من فرنسا وكندا وإيطاليا والبرازيل.
6. وفي القارة العجوز، تتصدّر ألمانيا وبريطانيا الترتيب القاري ويأتيان كذلك في الترتيب الخامس والسّادس عالمياً، ولعل ذلك له انعكاس هام في سياسة الاتحاد الأوروبي بصفة عامّة، وحلف الناتو بصفة خاصّة، فالإدارة المُتعقّلة نسبياً لحلف الناتو منذ أن كان الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني كامناً[3] وحتّى بعد أن تحوّل إلى صراع ظاهر[4] ثم إلى صراع مفتوح[5] منذ أشهر، وكبح جِماح التصعيد مع روسيا بسبب حربها يعتبر مؤشر جيّد على ضبط النفس ووجود إدارة مُتعقّلة نسبياً؛ ومن ثم يُتوقَّع استمرار إدارة الأزمة بصورة متأنية من قِبل حلف الناتو تبعاً لتصدُّر كل من الإدارة الألمانية والبريطانية للمشهد، بخلاف ما كانت عليه خريطة القارة الأوروبية في 2020 حينما تم إطلاق عمليّة عسكريّة في مالي ومنطقة السّاحل الإفريقي “تاكوبا Tacoba” بإيعاز من فرنسا وبالمخالفة لسياسة الاتحاد الأوروبي الحذرة بطبيعتها فيما يخص العمليات العسكريّة على وجه التحديد، وتفضيلها إرسال بعثات مدنيّة لتحجيم الخسائر المُحتملة وحماية مصالح الاتحاد الأوروبي الاقتصادية في القارة؛ حيث يعتبر الاتحاد الأُوروبي الشريك التجاري الخارجي الأكبر للقارة الإفريقية، وتعتبر الصين الشريك التجاري الدولي الأكبر في ذات الإطار.[6]
7. تشهد القارة الأُوروبية مفارقة بين دولها على الرغم من وجود اتحاد أُوروبي هو الأعلى في درجات التكامل الإقليمي من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، حيث توجد اقتصادات كبيرة وواعدة مثل: ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا، واقتصادات أُخرى هزيلة للغاية مثل اليونان وسلوفاكيا وبلغاريا، والحال نفسه بالنسبة لإسبانيا وجارتها التاريخية البرتغال؛ فارق هائل في حجم اقتصاد كل منهما.
8. بحسب “Visual Capitalist”؛ مُتوقّع أن يُسجّل اقتصاد آيرلندا القفزة الأسرع في منطقة اليورو بعد أن حقّق اقتصادها مُعدل نمو 5.2% هذا العام، ولعلّ السّر في ذلك كون اقتصاد آيرلندا اقتصاد مفتوح جاذب للاستثمارات الأجنبية المُباشرة عالية القيمة، ومن ثم تعتبر آيرلندا من أكثر الاقتصادات الطّموحة والتي لها مُستقبل واعد في منطقة اليورو.
9. إذا ما نظرنا إلى ترتيب روسيا، سنجدها في المرتبة الحادية عشرة عالمياً والخامسة أُوروبياً بعد كل من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا. ويُمكن هنا الإشارة لملمحين أساسيَّين:
الملمح الأول: أنها ليست على خريطة تعديل النظام الدولي والحَلول ضمن ثنائيّة أو ثُلاثية قُطبية جنباً إلى جنب مع كُل من الولايات المُتحدة والصين، بل إنها ليست أفضل حالاً من جيرانها الأوروبيين التي تراهم إمبرياليين يسعون على بسط وتوسيع نفوذهم على حسابها، ومن ذلك يظهر جلياً كون احتياجها الأساسي لا يتحدّى حُدود القارة العجوز، بأن يتم تأمين مصالحها وتقليم أظافر القوى الأوروبية التي تُحاول استغلال حلف الناتو في إحداث قلاقل وحالة عامة من عدم الاستقرار في القارة، من وجهة النظر الروسيّة بطبيعة الحال.
الملمح الثّاني: كُلفة الحرب باهظة، لعلّ أحد أهم الأسباب التي حدّت كثيراً من الاقتصاد الروسي وجعلته يأتي في هذا الترتيب، هو ما يُدفع يومياً في سبيل مواصلة حرب غير معلوم أهدافها على وجه الدقّة، ولا مداها الزمني ولا حتى الجغرافي، فضلاً عن العقوبات الاقتصادية التي وُقّعت وستوقّع عليها بسبب تلك الحرب الجارية.
وفضلاً عن الملمحين سالف الإشارة إليهما، تبقى السياسة الخارجيّة الرُّوسيّة سبباً في تحديات مُترامية الأطراف حول العالم، لعلَّ أنشطة “مجموعة فاجنر” ككيان شبه عسكري غامض ينشط في إفريقيا ومناطق أُخرى حول العالم، أسهمت في توتير علاقات العديد من البلدان بروسيا؛ على الرغم من عدم الاعتراف الروسي الرسمي بتبعية فاجنر لها؛ بخلاف السياسة الخارجيّة لليابان وألمانيا على سبيل المثال.
هل تُعامل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها روسيا على قدر حجم اقتصادها قارياً وعالمياً؟ وهل يترتّب على ذلك ثمّة أثر؟
بالطبع، الولايات المتحدة وحلفاءها يُحاولون دفع روسيا إلى ما يُشبه “تأزم الموقف وصولاً للحد الذاتي من التصعيد” بحيث تكون روسيا أمام خَيارين أحلاهُما مُر: إمّا المُضيّ قُدُماً في صراع مفتوح كُلفة الاستمرار فيه غير محسوبة وفي لحظةٍ معينة غير مقدور على الوفاء بها، أو التّراجع للخلف وخسارة أوراق سياسيّة هامّة في اللُّعبة وفي مُستقبل الدور الروسي قارياً ودولياً؛ الفيصل هنا هو حجم الاقتصاد وقدرته على الصّمود والوفاء بفاتورة الحرب بشقّيها؛ مواصلة العملية العسكريّة واسعة النطاق من ناحية، وطمأنة الحلفاء وضمان استمرار دعمهم من ناحيةٍ أُخرى، ومن ثم تُراهن الولايات المتحدة وحلفاءها على عدم قدرة الاقتصاد الروسي على دفع عجلة الصّراع للأمام طويلاً، باعتبار أن أيّ تسوية سياسيّة للصّراع كلّما طال أمد الوصول إليها؛ كُلّما كانت ذات كُلفة أقل، من وجهة النظر الأمريكية بطبيعة الحال.
10. وإذا ما انتقلنا للقارة الإفريقية؛ فهي لاتزال بعيدة عن التأثير الدولي أو الحلول كلاعب فاعل في السّاحة الدوليّة على الرغم من موقعها الجيوستراتيجي الفريد الذي تتمتّع به[6] وكونها تُشرِف بالفعل على طرق التجارة الدوليّة سواءً المارة في البحر الأحمر وعبر قناة السويس مروراً بالبحر المتوسّط أو عبر طريق رأس الرجاء الصّالح[7] فهي سلّة غذائيّة للعالم أجمع، وبها كُتلة تصويتيّة هائلة عددها 54 دولة إفريقيّة مُعترف بها في مختلف المحافل الدوليّة تجعلها باستمرار مطمعاً للأقطاب الدولية لكسب وُدّها ونيل أصواتها في مختلف المسائل الدولية الخلافيّة مثل قضايا تغيُّر المناخ وغيرها. رغم ذلك إجمالي حجم اقتصادها يُقارب قارة أمريكا الجنوبيّة، حتّى أن إجمالي حجم اقتصاد البرازيل وحدها يزيد عن إجمالي حجم اقتصاد إقليم شمال إفريقيا ككُل، خلافاً للأهمية الاستراتيجيّة لإقليم شمال إفريقيا بالنظر للبرازيل سواءً من حيث الموقع أو دوائر التأثير والتأثر.
11. يتصدّر حجم اقتصاد نيجيريا الترتيب القاري الإفريقي يليها مصر، ثم جنوب إفريقيا والجزائر وأنجولا بفضل العائدات النفطيّة. غير أنه تجدر الإشارة إلى وجود اقتصادين واعدين هُما: كينيا وإثيوبيا، كلتا الدولتين تقعان في منطقة حوض النيل التي تُمثّل لمصر منطقة مصالح مصيريّة لتعلُّقها بنهر النيل. ويُمكن في هذا الإطار أن نُشير لملمحين إضافيين:
الملمح الأول: من المُهم بمكان المُضيّ قُدُماً نحو التكامل القاري الإفريقي، حتى ولو في إطار الدول البتروليّة “المُنتجة للنّفط والغاز” كبداية، بحيث تقوم نيجيريا بإنتاج الغاز على سبيل المثال باعتبارها رائدة في هذا المجال، وتتعاون مع مصر في سبيل تسييل هذا الغاز باعتبارها رائدة كذلك في مسألة تسييل الغاز ولديها بنية تحتية قوية تُساعدها على ذلك؛ ويعمّ النّفع كلتا الدولتين، والحال نفسه بالنسبة للبلدان النفطيّة وجيرانها من البلدان الإفريقية غير النفطيّة بحيث تكون تلك البلدان أقرب لهمزات وصل بين المُنتِج الأول وبين المُستفيد عبر أنابيب أو مصانع تسييل.. إلخ.[9]
الملمح الثاني: من المُهم المُسارعة في حلحلة وحل أزمة إدارة المياه في منطقة حوض النيل، الحديث ليس فقط عن سد النهضة باعتباره جُزء فقط من إشكالية أكبر، ولكن عن إدارة المياه بصورة أشمل وأعم في تلك المنطقة بالغة الأهمية والحساسية في إفريقيا، وذلك باعتبار قضيّة المياه قضيّة مصير، وباعتبار التصعيد في الأزمة الجارية سيعود بالضرر على الجميع؛ لذا لا ينبغي أن تكون هناك أيّة تحرُّكات أُحادية من جانب إثيوبيا إلا باتفاق شامل وعادل ومُنصف ومُلزم في نفس الوقت لجميع الأطراف.
12. أمّا بالنسبة للشّرق الأوسط، تبقى ثنائيّة المملكة العربيّة السّعوديّة وإيران قائمة كمُتنافسين أساسيين، وفي مرتبة تالية عليهما تأتي تُركيا والإمارات العربية المتحدة بفارق معقول عن أصحاب المرتبة الثالثة مثل العراق وقطر والكويت، ولعلّ الرّهان سيكون على المرتبتين الثانية والثالثة في هذه المنطقة مع ما يُمكن أن يحدث فيهما من تغيّرات اقتصاديّة تليها بطبيعة الحال تغيّرات سياسيّة، أو العكس.
13. وأخيراً فيما يخص الاقتصادات الواعدة والعابرة للقارات، من المهم تسليط الضوء على اقتصادات كل من: كندا، كوريا الجنوبيّة، أُستراليا، إيران وإسبانيا، وفهم أسباب اتساع أحجام اقتصاداتهم فضلاً عن وجود قاسم مُشترك فيما بينهم، عدا إيران بطبيعة الحال، كون سياساتهم الخارجيّة سياسات توافقيّة لا تُوقعهم بصفة عامة في أزمات إقليميّة ودوليّة، وبالتالي لا تتعرض اقتصاداتهم لاهتزازات مُعرقلة لمسيرة تقدُّمهم، وهو ما يؤكّد تداخل وتأثير العوامل السياسيّة في العوامل الاقتصاديّة وأنه لا استقرار في الاقتصاد إلا بالاستقرار في السياسة الداخلية والخارجيّة على حد سواء.
تبقى الإشارة إلى أهميّة المُتغيّرات التي من الممكن أن تَحدُث؛ وتُحدِث تغييراً في حجم الاقتصادات سالف الإشارة إليها، فلا يستبعد الباحث أن نكون في مثل هذا الوقت من العام القادم أمام مُتغيّرات جديدة تفتح الباب أمام قراءة جديدة وتحليل لواقع جديد؛ لنُجرّب إحداها الآن في قضيّة إدارة أزمة المياه في منطقة حوض النيل بإفريقيا.
لنتصوّر أن إثيوبيا تخلّت عن نهجها المُتعنّت واستشعرت خطورة التحرُّكات الأُحادية التي اعتادتها في السنوات القليلة الماضية فيما يخص بناء وملء وتشغيل سد النهضة بالمُخالفة لاتفاقية إعلان المبادئ الموقّعة عام 2015 فيما بينها كدولة منبع وبين مصر والسُّودان باعتبارهما دولتا مصب، وأن تأثر سلاسل الإمداد الغذائيّة الآتية لإفريقيا والمتأثرة بطبيعة الحال بجائحة كورونا وباستمرار الصّراع الرُّوسي-الأُوكراني، ولّد رغبة أكبر في مد أواصر التعاون والتّكامل، ومن ثم إنجاح المفاوضات المُستمرة منذ سنوات دون جدوى والوصول لتسوية مُرضية ومُلزمة في الوقت نفسه؛ حينها ستكون البلدان الموقّعة على الاتفاقية أمام فُرصة تاريخيّة للتعاون وإقامة مشروعات مُشتركة تستهدف تفعيل بِقاع شديدة الخصوبة في إفريقيا واستغلال الوفورات المائيّة غير المُستغلَّة لخلق سِلال غذاء للداخل الإفريقي أولاً بحيث تقضي على أزمة الأمن الغذائي المتصاعدة، وفي مرحلة لاحقة تكون تلك البلدان أمام فُرصة أُخرى للتوسُّع خارج إفريقيا ونيل مكانة دولية لائقة بحجم اقتصاد مُغاير عن ما هو عليه الآن. مثل هذا التصوُّر، لو قُدِّر له أن يحدث، سيُغيّر كثيراً من مُجريات اللُّعبة في القارة الإفريقية وسينعكس ليس فقط على اقتصادات البلدان الثلاثة ولكن على سائر بلدان حوض النيل الإحدى عشرة، بما فيها جنوب السّودان، بل سيمتد أثره على مفهوم الأمن والسّلم الدوليَّين في المنطقة برُمّتها.
من واقع التحليل، بُنيت الأوزان النسبية السياسيّة لمختلف الأقطاب الإقليميّة والدوليّة واستُشرِفت دوائر تأثيرها القاري والدولي على عامل اقتصادي بحت هو حجم اقتصاداتها وفق أحدث ترتيب للعام الجاري، وذلك باعتبار أن السياسة والاقتصاد وجهان لعملةٍ واحدة، ما يحدث في وجهٍ منها ينعكس إيجاباً و/أو سلباً على الوجه الآخر، ومن ثم لا يمكن بحال فصل الدوائر السياسيّة عن الدوائر الاقتصاديّة، بل ينبغي النظر بصورة أكثر شمولية إلى مختلف دوائر التأثير والتأثر باعتبارها وحدة واحدة مُكمّلة لبعضها البعض، وباعتبار أن أيّ آثار اقتصاديّة سيكون لها انعكاسات سياسيّة والعكس بالعكس، أيّ قلاقل سياسيّة أو عدم استقرار سينعكس بطبيعة الحال على حجم اقتصاد الدولة المعنيّة ومدى إسهامها في منظومة الاقتصاد العالمي.
لعلّنا بِتْنا الآن قادرين على تلمُّس الأوزان النسبيّة للأقطاب الإقليمية والدولية الفاعلة ومن ثم استشراف مُستقبل وحدود الدور الذي من الممكن أن تلعبه في المرحلة المقبلة، وذلك خلافاً لبعض ما يُتداول إعلامياً من اقتراب العلاقة الأمريكية-الصينيّة على سبيل المثال من مُستوى الأزمة والصّراع الثنائي المُحتمل إمّا بسبب أُوكرانيا أو قريباً بسبب تايوان؛ وهو ما أظهر التحليل ضعفه واستبعده بالمرّة، حيث لا توجد احتمالية لدخول قوّتين عُظميين في أيّة صراعات ثنائيّة بالنظر لحجم المصالح الاقتصادية الهائلة والمتبادلة فيما بينهم؛ على الأقل طوال فترة تربُّع الولايات المتحدة على عرش الاقتصاد العالمي حتى عام 2030 وفق تقدير صُندوق النقد الدولي.
المصادر
[1] الناتج المحلّي الإجمالي (Gross Domestic Product- GDP) هو أحد أهم مؤشّرات الاقتصاد الكُلّي، ويعني القيم السُّوقيّة لكُل من السّلع والخدمات المُنتجة محلياً بصورة نهائية وفي فترة زمنية مُحددة، بحيث يعكس الحالة الاقتصادية لكُل دولة عبر تقدير حجم اقتصادها ومُعدّل نموها ومدى إسهامها في الاقتصاد العالمي.
[2] يُعتبر موقع “Visual Capitalist” أحد أهم مواقع النشر العالميّة التي تُترجم الأرقام والإحصاءات إلى نسب مئويّة وتقديرات بصريّة لاستساغة قراءة وتحليل الأرقام بعناية. انظُر في هذا الصّدد:
Avery Koop, “The $100 Trillion Global Economy in One Chart”, (Visual Capitalist: July 12, 2022):
https://www.visualcapitalist.com/100-trillion-global-economy/
[3] الصّراع الكامن “Latent Conflict” هو ذاك الذي يضرب جُذور العلاقة بين الطرفين/الأطراف من دون أن يطفو على السّطح، بحيث يُصيب في تلك المرحلة منظومة الأهداف لا السّلوكيات الظاهرة.
[4] الصّراع الظّاهر “Surface Conflict” هو ذاك الذي يضرب جُذور العلاقة بين الطّرفين/الأطراف ويطفو أيضاً على السّطح.
[5] الصّراع المفتوح “Open Conflict” هو ذاك الذي يضرب جُذور العلاقة بين الطرفين/الأطراف ويطفو على السّطح ويتشعّب بحيث لا يستطيع أحد التنبؤ بمداه الزمني أو المكاني، ويظل عادةً لأجل غير مُسمّى إلى حين تحقيق الطرف الأقوى لأهدافه أو تدخل فاعلين مُؤثرثين في الصّراع ودفع الأطراف لوضع حد وسقف لما يحدث على الأرض. للمزيد، يُرجى الاطّلاع على: دليل المُصطلحات العربيّة في دراسات السّلام وحل النّزاعات، للدكتور/ عمرو عبدالله والكاتب وآخرين:
https://www.undp.org/ar/iraq/publications/دليل-الُمصطلحات-العربّية-في-دراسات-الّسلام-وحِّل-النزاعات
[6] كيف أنّ لإفريقيا شريكين تجاريين مختلفين يحتلّان معاً المرتبة الأُولى بالنسبة لها في نفس الوقت؟ تجدر الإشارة هنا إلى أن تصنيف الصين كشريك تجاري “دولي” أوّل لإفريقيا لا إشكالية فيه، إلا أنّ تصنيف الاتحاد الأُوروبي كشريك تجاري “خارجي” أوّل أيضاً لإفريقيا يحتاج بعض التوضيح، باعتبار أن الاتحاد الأُوروبي كيان يضم مجموعة من الدول ومن البدهي أن يكون مجمل حجم التجارة الدولية مع مجموعة من الدول، وبخاصّة دول القارة الأوروبية مجتمعةً، عدا بريطانيا بعد خروجها مؤخراً من الاتحاد الأُوروبي، أكبر من مجمل حجم التجارة الدولية مع دولة واحدة مهما تعاظم حجم تجارتها ألا وهي الصين، ومن ثم كلا التصنيفين صحيح، كون الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الخارجي الأكبر لإفريقيا، وكون الصين هي الشريك التجاري الدولي الأكبر لإفريقيا.
[7] للمزيد، انظُر ورقة بحثيّة منشورة للكاتب: “مُستقبل الغاز الإفريقي في ضوء استمرار الصّراع”، (مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجيّة، 18 مايو 2022):
https://pharostudies.com/?p=10440
[8] د. غادة البيّاع، “إفريقيا في الاقتصاد الدولي”، (جامعة القاهرة: مُقرر غير منشور على طُلاب وطالبات دبلوم العلوم السياسيّة بكُلية الدراسات الإفريقية العُليا، 2021-2022).
[9] د. سامي السيّد، “إفريقيا في السياسة الدوليّة”، (جامعة القاهرة: مُقرر غير منشور على طُلاب وطالبات دبلوم العلوم السياسيّة بكُلية الدراسات الإفريقية العُليا، 2021-2022).