شهدت مدينة مصراتة الليبية، حَدَثًا غير مسبوق منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، تمثل في اندلاع اشتباكات مسلحة داخل المدينة، وقد مثَّلَ هذا التطور تحوُّلًا نوعيًّا في مشهد الأمن الليبي؛ إذ إن مصراتة كانت خلال الأعوام الماضية، توصف بأنها إحدى أكثر مدن الغرب الليبي استقرارًا، ومحورًا لتوازن القوى داخل معسكر طرابلس.
غير أن المواجهات الأخيرة كشفت عن تصدُّع داخلي في البنية الأمنية الحكومية ذاتها، وعن تراجع قدرة السلطة المركزية على ضبْط أجهزتها العسكرية، كما تكمن أهمية ما جرى في أن الاشتباكات لم تكن مواجهة بين معسكرين سياسيين متنازعين، بل بين قوتين تتبعان لحكومة الوحدة الوطنية المنتيهة ولايتها برئاسة عبد الحميد الدبيبة، ما يجعلها دليلًا صارخًا على فشل عملية ضبْط السلاح وتوحيد القرار الأمني داخل مؤسسات الدولة، كما تعكس هذه الأحداث هشاشة مشروع توحيد المؤسسة العسكرية، وعُمْق الإشكال البنيوي الذي يطبع المشهد الليبي منذ أكثر من عقد.
خلفية الحدث وتفاصيل الاشتباكات
اندلعت الاشتباكات في الثالث والعشرين من أكتوبر الماضي، داخل منطقة السكت بمدينة مصراتة الواقعة شرق العاصمة الليبية بـ187 كلم ، إثْر قيام قوة العمليات المشتركة بمداهمة عددٍ من المواقع التي وُصفت بأنها “استراحات مشبوهة”، أسفرت عن توقيف أفراد من الكتيبة 24 مشاة بقيادة نجيب غباق، وهي وحدة تتبع وزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية[1]، واعتبرت الكتيبة أن العملية استهدفت نطاقًا أمنيًّا خاضعًا لها، فباشرت الانتشار الميداني باستخدام آليات ثقيلة لإغلاق الطرق المؤدية إلى مطار مصراتة؛ مما أدَّى إلى اندلاع اشتباكات مباشرة مع القوة المهاجمة استخدمت فيها الأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
وتعرض عدد من المواطنين لإصابات وصلوا مستشفى طوارئ مصراتة نتيجة المواجهات التي امتدَّت إلى طريق المطار في منطقة الغيران، ثمَّ إلى جزيرة الزباطي، بعدما أغلقت لساعات سيارات مسلحة الطريق المؤدي إلى مطار مصراتة بالكامل في الاتجاهين.[2]
وفي فجر الرابع والعشرين من أكتوبر، نجحت وساطات محلية في احتواء الموقف بعد إطلاق سراح الموقوفين وتعهُّدات بعدم التصعيد، لتستعيد المدينة هدوءًا نسبيًّا سرعان ما تحوّل إلى حالة من التوتر والترقُّب، خصوصًا مع غياب موقف رسمي واضح من حكومة الدبيبة التي اكتفت بالإعلان عن “فتح تحقيق” دون اتخاذ إجراءات ميدانية أو إدارية حاسمة.
وعلى الرغم من محدودية زمن الاشتباكات، فإنها تركت أثرًا بالغًا داخل مصراتة، وأعادت طرْح تساؤلات جوهرية حول مدى قدرة الحكومة على ضبْط الأجهزة التابعة لها، وحول حجم النفوذ الفِعْلي للتشكيلات المسلحة المحلية داخل المدن الكبرى في الغرب الليبي.
الدلالات الأمنية والسياسية
تُعدُّ اشتباكات مصراتة الأخيرة واحدة من أكثر المؤشرات وضوحًا على عُمْق الأزمة البنيوية التي تواجها المنظومة الأمنية في المنطقة الغربية؛ فالحدث لم يكن مجرد خلاف ميداني محدود، بل تجسيد لحالة اللامركزية الأمنية التي باتت تحكم مناطق الغرب الليبي؛ حيث تتعايش تشكيلات متعددة الولاءات ضمن مظلَّة حكومية واحدة دون رابط انضباطي فعلي.
وفي ضوء ذلك، يمكن استخلاص عدد من الدلالات الرئيسية على النحو الآتي:
1- تآكل الضبط الأمني وتعدد مراكز القرار: أبرز ما كشفت عنه اشتباكات مصراتة هو أن حكومة طرابلس لا تمتلك السيطرة الفِعْلية على أجهزتها الأمنية والعسكرية؛إذ تتصرف كل قوة باعتبارها كيانًا مستقلًّا يخضع لحسابات ميدانية محلية أكثر؛ مما يخضع للحكومة، وتكشف هذه البنية عن غياب منظومة القيادة والسيطرة الموحدة داخل حكومة الدبيبة، وعن هشاشة مفهوم الانضباط المؤسسي الذي يُفترض أن يحكم العلاقة بين الأجهزة العسكرية والسلطة المدنية.
وبهذا المعنى، فإن السلاح لم يعُدْ أداة تابعة للدولة، بل أصبح أحد مكونات المشهد السياسي ذاته.
2- تصدُّع التحالفات داخل المعسكر الواحد:تُظهر المواجهات التي دارت بين قوتين تتبعان الجهة نفسها، بأنه لا يمكن تفسيرها بوصفها حادثًا عرضيًّا، بل هي انعكاس لصراع أعمق على الموارد والنفوذ والتموضع داخل المدينة الواحدة؛ فالتداخل بين الأمني والسياسي والاقتصادي جعل التشكيلات المسلحة تسعى إلى ترسيخ حضورها، من خلال السيطرة على المربعات الأمنية التي تمثل مصدرًا للتمويل والشرعية المحلية، ومن ثمَّ، أصبح الصراع المسلح وسيلة لإعادة توزيع موازين القوة داخل المعسكر الواحد، لا لمواجهة خصوم خارجيين.
3- محدودية مشروع الدمج والتوحيد المؤسسي:تشكل اشتباكات مدينة مصراتة نموذجًا لهشاشة مشروع حكومة الدبيبة في دمْج وتوحيد المؤسسات الأمنية بالغرب الليبي؛ حيث تواجه مساعي الحكومة بدمْج التشكيلات المسلحة، بما في ذلك جهاز الرَّدْع، واقعًا صعبًا على الأرض؛ فمحاولات دمج هذه الأجهزة إلى سلطة الحكومة لم تخلُ من مقاومة، ويستدل على ذلك بموجات الاشتباكات المتقطعة التي تحدث كل حين وآخر في طرابلس ومناطق غربية أخرى.
وحتى بعد سنوات من توقيع اتفاقات اللجنة العسكرية المشتركة “5+5”، ما تزال التشكيلات المسلحة تعمل ضمن أُطُر محلية منفصلة، في حين يقتصر دمْجها على المستوى الإداري فقط ضمن وزارتيْ “الدفاع والداخلية”، دون إخضاعها فِعْليًّا للحكومة.
وعليه؛ فإن الصدام الأخير في مصراتة يُظهر أن هذا الدَّمْج الورقي لم يؤدِّ إلى بناء مؤسسة أمنية موحدة، بل أبقى السلاح تحت سيطرة جماعات محلية تتحرك وفق توازنات مصلحية لا وطنية، كما أن انتشار ما يقارب 29 مليون قطعة سلاح خارج الأُطُر القانونية، وفْقًا لتقارير أممية[3]، يجعل أيَّ مشروع دمْج فعلي رهينًا بتفاهمات سياسية وميدانية معقَّدة، لا تملك حكومة الدبيبة القدرة على إدارتها بمفردها.
4- اهتزاز صورة حكومة الدبيبة وتراجع الثقة في قدرتها على الضبط:عكست استجابة حكومة الوحدة الوطنية، للأحداث ارتباكًا واضحًا في منظومة القرار السياسي؛ فغياب الموقف الحازم والتأخر في التعامل مع التشكيلات المسلحة، اللتين يفترض أنهما تتبعان لها، يعكسان ضعْف الإرادة التنفيذية وتردُّد القيادة في مواجهة القوى التي تمثل في الوقت نفسه قاعدة دعمها، وبهذا المعنى، شكّلت مصراتة اختبارًا عمليًا لفكرة الدولة القادرة؛ إذ بدا أن الحكومة تفتقر إلى الحدِّ الأدنى من السيطرة على أدواتها؛ ما يُضعف موقعها أمام خصومها الداخليين ويقوّض مكانتها التفاوضية في أيِّ مسار وطني لتوحيد المؤسسة العسكرية.
في الختام:
تكشف اشتباكات مصراتة الأخيرة التي حدثت للمرة الأولى منذ سقوط نظام القذافي، هشاشة الواقع الأمني في الغرب الليبي واستمراره عُرْضةَ للصدامات المحلية، كما توضح أن محاولات دمْج التشكيلات المسلحة في مؤسسات الدولة تبقى رهينة توازنات مُعقَّدة بين الولاءات القبلية والسياسية والمصالح المحلية؛إذ تتجاوز عملية حصْر السلاح وتحجيم النفوذ العسكري الجانب الأمني لتصبح مسؤولية سياسية واجتماعية شاملة.
كما تُظهر الأحداث أن دمْج التشكيلات المسلحة لم يعُدْ خيارًا إصلاحيًّا بل ضرورة أمنية لضمان تماسك الدولة واستقرارها؛ فالاشتباكات التي حدثت بين تشكيلين مسلحين يتبعان الحكومة نفسها يكشف فشل الضوابط المؤسسية في تحديد تبعية كل تشكيل وحدود مسؤوليته القانونية والميدانية، ويبرهن أن الإطار الإداري الهشّ داخل وزارتيْ “الدفاع والداخلية” لحكومة الدبيبة لا يكفي لمواجهة الاحتكاكات الواقعية.
كما تؤكد هذه الأحداث أن الولاءات القبلية والمصالح المحلية تظلُّ عاملاً محوريًا في رسْم ديناميكيات القوة؛ ما يجعل التشكيلات المسلحة المحلية لاعبًا أساسيًّا في تحديد خطوط الأمن والتحكُّم بالمرافق الحيوية داخل المنطقة الغربية، ومن هذا المنطلق، يصبح دمْج هذه التشكيلات وتحديد صلاحياتها بدقة شرطًا أساسيًّا لأيِّ استراتيجية وطنية للسيطرة الأمنية وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
[3]تقارير أممية ودولية تؤكد وجود 29 مليون قطعة سلاح خارج الأطر القانونية للدولة، اندبندنت بالعربية، 15 أغسطس 2025، متاح على الرابط: https://shorturl.at/tSiJ4
