المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشؤون الدولية > الإدارة الأمريكية ومنظمة الصحة العالمية بين قرار الانسحاب وتصريحات التراجع
الإدارة الأمريكية ومنظمة الصحة العالمية بين قرار الانسحاب وتصريحات التراجع
- يناير 31, 2025
- Posted by: hossam ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية
لا توجد تعليقات
إعداد/ أكرم السيد
باحث مساعد بوحدة الشؤون الدولية
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عزم الولايات المتحدة الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، وجاء هذا الإعلان عقب توقيعه أمرًا تنفيذيًا يقضي بذلك في الحادي والعشرين من يناير الجاري. وتشكل هذه الخطوة في حال إتمامها، ضربة كبيرة لأعمال المنظمة الأممية، إذ يأتي هذا القرار بعد سنوات قليلة من خروج العالم من جائحة كورونا وهو ما يزيد من أهمية دور المنظمة، حيث يعيش العالم حقبة راهنة تتطلب مزيدًا من التضافر العالمي تحت مظلة منظمة الصحة للحد من تكرار أزمات مماثلة، فضلًا عن دفع المنظمة مواصلة أعمالها وبرامجها المختلفة التي تستهدف مناطق جغرافية متنوعة، بما في ذلك المناطق الأكثر فقرًا.
في هذا السياق، يفتح قرار ترامب الباب أمام العديد من التساؤلات، سواء حول أسباب إعلانه الانسحاب من المنظمة بما يتضمنه ذلك من دوافع سياسية واقتصادية وأيديولوجية، أو بشأن الجهات التي يمكن أن تسد الفراغ التمويلي الذي كانت واشنطن تلتزم بسداده، بالإضافة إلى احتمالات تراجع الإدارة الأمريكية عن هذا القرار مستقبلًا.
دوافع القرار
تكوّنت لدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مجموعة من الأسباب التي شكّلت في مجملها مبررًا قويًا دفعه للتوقيع على قرار انسحاب بلاده من منظمة الصحة العالمية، وتتنوع هذا العوامل ما بين عوامل سياسة واقتصادية وأيدلوجية، ويمكن ذكرها في السياق التالي:-
١- أزمة كورونا وتأثيرها على حملته الانتخابية
في مقدمة هذه الأسباب سببا رئيسيا تزامن مع نهاية ولايته الأولى وبدايات تفشي فيروس كورونا. في تلك الفترة، وجه ترامب اتهامات متكررة للمنظمة بالتواطؤ مع الصين، معتبرًا أنها ساعدت بكين على التستر على الفيروس في مراحله الأولى، مما أدى إلى تفشي الجائحة عالميًا والتسبب في إغلاق واسع النطاق وشبه شلل للاقتصاد العالمي.
لكن الأهم من ذلك أن تلك الفترة كانت حساسة للغاية بالنسبة لترامب شخصيًا، حيث كان يستعد لخوض غمار الانتخابات الرئاسية ضد جو بايدن، ولم يكن هناك متسع لتفشي جائحة بحجم كورونا تتسبب في ركود اقتصادي قد يُضعف فرصه الانتخابية في الفوز. ومن ثم يمكن فهم عدائيته الشديدة تجاه المنظمة، ونتيجة لذلك سعى إلى اتخاذ قرارات حاسمة، وقرر الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، إلا أن رحيله عن البيت الأبيض حال دون تنفيذ القرار فعليًا، حيث ألغى بايدن فور توليه السلطة هذا الانسحاب.
٢- استهداف الصين لا المنظمة
لم تكن منظمة الصحة العالمية هي المستهدفة الحقيقية من قرار ترامب، بل كانت مجرد ستار يخفي وراءه معركة أكبر ضد الخصم الاقتصادي الأول للولايات المتحدة وهي الصين. فمنذ حملته الانتخابية الأخيرة وحتى بعد دخوله البيت الأبيض وتنصيبه رسميا، استخدم ترامب خطابًا شديد اللهجة تجاه بكين، خاصة فيما يتعلق بالمجال الاقتصادي، واستطاع أن يصنع صورة ذهنية لنفسه تتمثل باعتباره الرئيس الذي يواجه النفوذ الصيني بشكل صارم، خلافًا للديمقراطيين الذين يتهمهم دائمًا بالتساهل مع بكين على حساب مكانة الولايات المتحدة.
وبالتالي، لم يكن مستغربًا أن يتخذ ترامب قرارًا كهذا، بغض النظر عن مدى صحة أو خطأ مزاعمه تجاه المنظمة، فالأمر في جوهره كان جزءًا من استراتيجيته لمحاربة النفوذ الصيني، الذي رأى أنه امتد حتى إلى المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية.
٣- نهج ترامب البراغماتي في السياسة الخارجية
يتعلق هذا السبب بطبيعة النهج البراغماتي الذي تبناه ترامب في إدارة الملفات الدولية. فهو دائمًا ما يميل إلى تقليل أي جهود أو التزامات أمريكية لا تحقق مكاسب فورية لبلاده، وهو ما ظهر جليًا في سياساته منذ الأيام الأولى لحكمه. على سبيل المثال، اتخذت إدارته منذ أيام قليلة قرارًا بتعليق كافة المساعدات الأمريكية الخارجية لمدة 90 يومًا لمراجعتها وتقييمها بهدف تحديد ما ينبغي استمراره وما يجب إيقافه[1]، وهذا المنطق نفسه ينطبق على موقفه من منظمة الصحة العالمية تمامًا كما انطبق على ملفات أخرى مثل ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، ومطالبته الحلفاء الأوروبيين بزيادة مساهماتهم في حلف الناتو، بل وحتى تهديده أحيانًا بالانسحاب منه. كل هذه التحركات تعكس رؤية ترامب التي تفضل الصفقات ذات العائد السريع على الالتزامات طويلة الأجل التي تستنزف من اقتصاد الولايات المتحدة دون مكاسب مباشرة على حد زعمه.
من يسد الفراغ التمويلي؟
تمثل حصة الولايات المتحدة حوالي ما يقرب من ٢٠% من تمويل منظمة الصحة العالمية مما يجعل قرار انسحابها بمثابة الضربة القوية التي قد تضع المنظمة أمام أزمة تمويلية كبيرة تهدد بعرقلة العديد من برامجها الحيوية، خاصة تلك المتعلقة بمواجهة الأوبئة والأمراض في الدول النامية. كما أن هذا الانسحاب يثير تساؤلا رئيسيا حول الكيفية التي سيتم بها سد هذا الفراغ المالي الكبير، لا سيما أن دور المنظمة يمتد ليشمل جهودًا عالمية تحتاج إلى تمويل مستدام ومنتظم لضمان استمراريتها. ويمكن الإشارة إلى كيفية سد هذا الفراغ من خلال مسارين رئيسيين:-
١-المسار الأول
ويتمثل في ضرورة أن تسعى الدول الأخرى لزيادة حصصها المالية لتعويض هذا النقص، حيث لن يكون هناك مجال آخر أمام الدول المستفيدة من خدمات المنظمة بما فيها الدول النامية التي تعتمد بشكل كبير على دعمها إلا تحمل مسؤولية أكبر لضمان استمرار هذه الخدمات. ومع ذلك، فإن هذا الخيار يواجه عدة تحديات، أبرزها الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها دول عديدة، والتي قد تجعل من الصعب توفير هذا الدعم الإضافي، فضلًا عن غياب مؤشرات واضحة حتى الآن من الدول الكبرى أو التكتلات الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي حول الاستعداد لتحمل هذا العبء المالي.
٢- المسار الثاني
ويتعلق بالقطاع الخاص والمؤسسات الخيرية، وهو خيار محاط بالكثير من الآمال، لاسيما في ضوء ما فعله رجل الأعمال الأمريكي مايكل بلومبرج الذي سبق وأن أعلن عن عزمه تغطية مساهمة الولايات المتحدة في وكالة المناخ التابعة للأمم المتحدة بعد توقيع ترامب قرارا تنفيذا يقضي بانسحاب بلاده من اتفاقية باريس للمناخ[2]، كما أعلنت مؤسسة بلومبرج الخيرية أنها لن تكتفي بالدعم المالي الذي ستقدمه فحسب، بل ستعمل مع شركاء آخرين لضمان استمرار سداد التزامات الولايات المتحدة تجاه القضايا المناخية العالمية، وبالمثل فإنه يمكن تكرار هذا النموذج في قضية تمويل منظمة الصحة العالمية، لا سيما وأن ملف الصحة لا يقل أهمية عن ملف المناخ. وبشكل عام، فإن الطريقة التي ستتفاعل بها الدول والقطاع الخاص مع قضية سد الفراغ التمويلي ستكشف إلى أي حد ستتأثر منظمة الصحة العالمية جراء القرار الأمريكي.
هل ستتراجع واشنطن؟
على الرغم من توقيع ترامب قرار الانسحاب من منظمة الصحة العالمية، إلا أنه ألمح لاحقًا إلى إمكانية إعادة النظر فيه[3]، وهو ما يعني أن واشنطن قد لا تغادر المنظمة بشكل نهائي. وبين هذا التناقض بين قرار الانسحاب والتصريحات التي تلمح إلى البقاء، يمكن استخلاص بعض الأسباب التي قد تدفع الولايات المتحدة للاستمرار في المنظمة بدلًا من مغادرتها:-
١-تعقيد القرار وتداعياته العالمية
إن قرار الانسحاب من منظمة الصحة ليس قرارًا سهلًا، حيث يتعلق بالمنظمة الأهم عالميًا في مجال الصحة، والتي تعمل الحكومات والمنظمات الصحية الأخرى تحت إطارها وتوجيهاتها ودعمها، وأي اختلال في عمل المنظمة سيكون له توابع سلبية على مستوى العالم بما في ذلك الولايات المتحدة[4]، وليس فقط على مستوى الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، أثار القرار فور الإعلان عنه موجة من الانتقادات الداخلية والخارجية، سواء على مستوى الأفراد أو من الخبراء في مجال الصحة، وهو ما لا يمكن تجاهله عند تقييم جدوى الاستمرار في المنظمة أو مغادرتها.
٢-النفوذ الصيني في المنظمة
تعد من الأسباب الرئيسية التي دفعت البيت الأبيض لاتخاذ قرار الانسحاب – كما يزعم ترامب – هو هيمنة الصين على أعمال منظمة الصحة العالمية، لكن المفارقة هنا أن الانسحاب الأمريكي لن يحل هذه المشكلة، بل قد يزيدها سوءًا، إذ ستصبح المنظمة أكثر عرضة للنفوذ الصيني في غياب الولايات المتحدة، حيث أنه إذا انسحبت واشنطن بالفعل، فلن يكون لديها أي الحق في إبداء أي عتراض على سلوك المنظمة وأدائها، مما يمنح الصين فرصة ذهبية لزيادة هيمنتها دون أي مقاومة أمريكية.
٣-ورقة تفاوضية وليس انسحابًا حقيقيًا
إن قرار الانسحاب قد يكون مجرد ورقة تفاوضية في يد صانع القرار الأمريكي أكثر من كونها نية حقيقية لمغادرة المنظمة، وذلك بهدف فرض شروط جديدة على المنظمة تكون أكثر ملائمة لتوجهات الإدارة الأمريكية الحالية. فالولايات المتحدة تساهم بحوالي ١٨% من ميزانية الصحة العالمية وهي ليست بالنسبة القليلة، مما يعني أن انسحابها سيشكل أزمة مالية كبيرة للمنظمة وسيضع عبئًا إضافيًا على عاتق الدول الأعضاء الأخرى، مما سيجبر المنظمة إلى الانصياع لأوامر واشنطن، الذي قد يكون من ضمنها هو دفع المنظمة لإعادة هيكلة التزاماتها المالية أو تنفيذ إصلاحات تتماشى مع المصالح الأمريكية بدلًا من الانسحاب التام، حيث كثيرًا ما انتقد ترامب هذا الوضع معتبرًا أنه من غير المنطقي أن تتحمل واشنطن النصيب الأكبر من تمويل المنظمة، بينما تتحمل الصين نسبة ضئيلة رغم أنها كانت بؤرة تفشي جائحة كورونا.
ختامًا، لا يزال أمام واشنطن متسع من الوقت للتراجع عن هذا القرار، حيث إنه بموجب إخطار الولايات المتحدة لمنظمة الصحة العالمية بعزمها على الانسحاب، يظل أمامها سنة كاملة قبل أن يصبح القرار نافذًا بشكل نهائي. ونتيجة لذلك، تبقى احتمالية تراجع الولايات المتحدة قائمة مما يعزز الرؤية التي تعتبر قرار ترامب ورقة تفاوضية لتحقيق مطالبه بإصلاح المنظمة أكثر من كونه انسحابًا فعليًا، خاصة في ضوء تصريحاته الأخيرة التي ألمح فيها إلى إمكانية إعادة النظر في القرار. وفي حال حدوث ذلك، سيكون الأمر لصالح الجهود العالمية في مجال الصحة العامة، نظرًا لما تمثله الولايات المتحدة من ثقل كبير داخل المنظمة.
المصادر:
[1] ترامب يوقع أمرا بتعليق المساعدات الخارجية الأمريكية لمدة 90 يوما، روسيا اليوم، ٢١/١/٢٠٢٥
https://linksshortcut.com/InjtR
[2] بلومبرغ يتعهد بتمويل وكالة المناخ التابعة للأمم المتحدة بعد «انسحاب ترمب»، الشرق الأوسط، ٢٤/١/٢٠٢٥
https://linksshortcut.com/jaasr
[3] ترامب يلمح لإمكانية عودة أمريكا إلى منظمة الصحة العالمية، بيروت إنترناشونال، ٢٦/١/٢٠٢٥
https://linksshortcut.com/KwPtx
[4] What the U.S. Withdrawal From WHO Means for Your Health، very well health, 22/1/2025
https://www.verywellhealth.com/us-withdrawal-from-who-8778494?utm_source=chatgpt.com