تُعَدُّ العلاقاتُ بين دولة الإمارات العربية المتحدة ودول الساحل الأفريقي نموذجًا واضحًا لتحوُّل التفاعلات الإقليمية في النظام الدولي؛ حيث تندرجُ هذه العلاقاتُ ضِمْنَ إطار السياسة الخارجية النَّشِطَة التي تنتهجها “أبوظبي” لتعزيز مكانتها الجيوسياسية وترسيخ دورها كفاعلٍ إقليميٍّ مؤثرٍ، وقد ساهمت التحوُّلات الأمنية والتحديات التنموية التي تعصف بمنطقة الساحل – بما فيها تمدُّد الحركات المسلحة وتدهور مؤشرات الاستقرار – في بلورة الإستراتيجية الإماراتية متعددة الأبعاد، التي تقوم على الدَّمْج بين الدبلوماسية التنموية والأمن الوقائي، إلى جانب النفوذ الاقتصادي، وفي هذا السياق، تسعى الإمارات إلى تحقيق مصالحها الوطنية العُلْيَا، من خلال الانخراط في قضايا الأمن الإقليمي، ودعْم الحكومات المحلية، وتعزيز علاقات التعاون، مستفيدةً من أدوات القوة الناعمة والصلبة في آنٍ واحدٍ، ومن هنا؛ يمكن قراءة الحضور الإماراتي في الساحل الأفريقي باعتباره جزءًا من إعادة هندسة التوازُنات الإقليمية في القارة الأفريقية، ضِمْنَ بيئةٍ دوليةٍ تتسم بتعدُّد الفاعلين وتداخُل المصالح.
تُمثِّلُ منطقةُ الساحل الأفريقي أهميةً جيواستراتيجية متزايدةً في الحسابات الإماراتية؛ نظرًا لموقعها الحيوي الرابط بين شمال وغرب أفريقيا، ولقربها من الممرَّات البحرية الحيوية في البحر الأحمر وخليج غينيا، وتندرج المقاربة الإماراتية في الساحل ضِمْنَ مفهوم “السياسة الواقعية الجديدة”، الذي يقوم على توسيع مجالات النفوذ وتحقيق الأمن القومي المُوسَّع؛ إذ يُشكِّلُ الساحل امتدادًا مهمًا للعُمْق الإستراتيجي الإماراتي في القرن الأفريقي وغرب أفريقيا، كما يُشكِّلُ الاستثمار في المنطقة جزءًا من سياسة “ملْء الفراغات الجيوسياسية” التي تركها تراجُع القوى الغربية (خاصَّةً فرنسا)، كما ترتبط هذه الإستراتيجية بسعْي الإمارات إلى موازنة القوى في أفريقيا، لا سيما في ظلِّ احتدام التنافُس بين قوى إقليمية، مثل “تركيا وقطر”؛ إذ تهدف الإمارات إلى تحجيم التمدُّد “التركي والقطري” في غرب أفريقيا؛ حيث استثمرت أنقرة والدوحة في قطاعات التعليم والمساعدات.
ومن ناحيةٍ أخرى، تهدف إلى مواجهة الجماعات المتطرفة، التي تنْشَطُ في الساحل، مثل “داعش في الصحراء الكبرى وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، التي ترتبط أيديولوجيًّا وجغرافيًّا بجماعات في الشرق الأوسط، وتعتبر الإمارات هذه الجماعات تهديدًا غير مباشر لأمنها القومي، كما أنها تسعى إلى ضرْب البِنْيَة التحتِيَّة للإرهاب في منابعه، قبْل أن يمتدَّ وينتشر في المنطقة العربية، أمَّا من الناحية الدولية، فالحضور في ملف الساحل يمنحها وزْنًا سياسيًّا إضافيًّا في المنظمات الدولية، مثل “الاتحاد الأفريقي والأمم المتحد”، كما يُعزِّزُ من صورتها كقوةٍ مسؤولةٍ تُسْهِمُ في تحقيق الأمن والاستقرار في مناطق النزاع، وبذلك تُمثِّلُ دول الساحل ساحةً لتقاطُع المصالح، تسعى “أبو ظبي” إلى تثبيت موطئ قدمٍ لها فيها، ضِمْنَ ما يمكن تسميته بـ “سياسة التموْضع الذَّكي” خاصَّةً في مناطق الهشاشة الأمنية.[1]
ثانيًا: زيارة “شخبوط” للمنطقة
شهدت العلاقات بين دولة الإمارات العربية المتحدة ودول الساحل الأفريقي (تشاد، مالي، النيجر، موريتانيا، بوركينا فاسو) نشاطًا دبلوماسيًّا وعسكريًّا ملحوظًا، خلال السنوات الأخيرة، في إطار سعْي الإمارات لتعزيز نفوذها الإقليمي ودعْم الاستقرار ومكافحة الإرهاب في المنطقة، وفي هذا السياق، أجرى وزير الدولة بوزارة الخارجية الإماراتية الشيخ “شخبوط بن نهيان آل نهيان” زيارةً إلى المنطقة، في ٢٠ مايو ٢٠٢٥، جولة رسمية في منطقة الساحل الأفريقي، شملت “النيجر ومالي وبوركينا فاسو”؛ حيث التقى بقادة المجالس العسكرية الحاكمة في تلك الدول؛ حيث استقبله قائد المجلس العسكري الحاكم في النيجر “الجنرال عبد الرحمن تياني” بالعاصمة نيامي، في لقاءٍ، تناول سُبُل تعزيز العلاقات الثنائية في مختلف المجالات.
كما التقى الوزير الإماراتي في اليوم ذاته، رئيس المرحلة الانتقالية في مالي العقيد “آسيمي غويتا”، في زيارةٍ رسميةٍ إلى العاصمة باماكو على رأْس وفْدٍ إماراتيٍّ رفيع، واختتم جولته بلقاءٍ مع رئيس المجلس العسكري في بوركينا فاسو “إبراهيم تراوري”، ورغم أن البيانات الرسمية الصادرة عن الجانبيْن شدَّدَتْ على الطابع “التعاوني” للزيارة وأكَّدت على “دعْم العلاقات الثنائية وبحث الشراكات التنموية والاستثمارية”، إلَّا أن التحرُّكات الدبلوماسية الإماراتية في دول الساحل أثارت تحليلات متباينة في الأوساط السياسية والإعلامية الأفريقية والدولية، لا سيما في ظلِّ الفراغ الأمني الناجم عن انسحاب القوى الغربية وتصاعُد النفوذ الرُّوسي عبْر مجموعة فاغنر، من المرجح تكرار تلك الزيارات؛ من أجل تحقيق الأهداف الإستراتيجية للإمارات.[2]
ثالثًا: أدوات التأثير الإماراتي “الدَّمْج بين القوة الناعمة والصلبة”
انتهجت الإمارات مزيجًا مُرَكَّبًا بين أدوات القوة الصلبة والناعمة في تعامُلها مع دول الساحل، فعلى مستوى القوة الصلبة، ساهمت في دعْم القدرات الأمنية والعسكرية لدول الساحل، عبْر تمويل وتدريب الوحدات النظامية خاصَّةً ضِمن إطار مجموعة الساحل الخماسية “G5 Sahel”، إضافةً إلى تمويل برامج التدريب والتجهيز العسكري للجيش والشرطة في “مالي والنيجر وتشاد”، كما تقوم بتزويد بعض الدول بمنظومات مراقبة ومعدَّات عسكرية لتعزيز السيطرة على الحدود ومكافحة الإرهاب، ومن ناحية أخرى، هناك تواجُدٌ لوجيستي غير مباشر؛ إذ إنها تعمل على بناء علاقات مع القواعد العسكرية الغربية (خاصَّةً الفرنسية) أو دعْمها لوجستيًّا، إلى جانب استخدام الموانئ والمطارات الإستراتيجية في أفريقيا الغربية كنقاط ارتكاز لنقْل المساعدات أو الانتشار السريع.
أمَّا في مجال القوة الناعمة، فوظَّفت الإمارات أدواتها الإنسانية والتنموية، فمن الناحية الإنسانية، تقوم بإرسال الإغاثات والمساعدات، مثل التدخُّل السريع في حالات المجاعة أو الكوارث الطبيعية، وتوزيع مساعدات غذائية وطبية، عبْر الهلال الأحمر الإماراتي ومؤسسة خليفة بن زايد للأعمال الإنسانية، ومن الناحية التنموية والتعليمية، قامت بإنشاء المدارس وآبار المياه، والمستشفيات ومراكز التدريب المهني في المناطق الريفية، إلى جانب الاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة لتوفير الكهرباء للمناطق المعزولة، إضافةً إلى تقديم مِنَحٍ دراسيةٍ لطلاب من دول الساحل للدراسة في الجامعات الإماراتية، وتنظيم زيارات رسمية ومؤتمرات مشتركة لتعزيز التقارُب الثقافي والدبلوماسي، وتعكس هذه الأدوات فلسفة التدخُّل الإماراتي غير الصدامي، القائم على تحقيق النفوذ عبر التأثير بدلًا من السيطرة المباشرة.[3]
رابعًا: الانعكاسات الجيوسياسية على التوازنات الإقليمية
أفْضى الانخراط الإماراتي المتزايد في الساحل الأفريقي إلى تحوُّلات ملموسة في البيئة الإقليمية والدولية، وهو ما يمكن قراءته في الآتي:
1- إعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية
لا سيما في ظلِّ تراجُع الدور الفرنسي التقليدي، قد ساهم الحضور الإماراتي في ملْء الفراغ السياسي والأمني الناتج عن تآكُل النفوذ الفرنسي، خاصَّةً بعد الانسحاب العسكري الفرنسي من “مالي وبوركينا فاسو والنيجر”، كما أن الإمارات قد باتت تُصنّف ضمن البدائل الجيوسياسية التي تلجأ إليها الأنظمة الساحلية الباحثة عن دعْمٍ خارجيٍّ غير مشروطٍ.
2- تعزيز مكانة الإمارات كفاعلٍ غير تقليديٍّ في أفريقيا
فقد تحوَّلَتْ الإمارات إلى وسيط إقليمي، حيث تُعزِّزُ “أبوظبي” موقعها كـ “قوة وساطةٍ مَرِنَةٍ” قادرة على التفاعُل مع حكومات قائمة أو انتقالية دون صدام أيديولوجي، وهو ما مَنَحَها دورًا في إدارة الأزمات، سواء عبْر دعم الاستقرار، أو من خلال التنسيق بين القوى الدولية والمحلية، كما أنها باتت تُقدِّمُ نفسها كـ “فاعل شمولي” يجمع بين الحلول الأمنية والاقتصادية والإنسانية، وهو ما يميزها عن قوى أخرى تُركِّزُ فقط على الجانب العسكري.
3- توتُّر العلاقات مع بعض الفاعلين الغربيِّين
عبَّرت بعض القوى الأوروبية، خاصَّةً (فرنسا وألمانيا) عن تحفُّظاتٍ غير معلنةٍ تِجَاه التحرُّك الإماراتي المنفرد، باعتباره قد يُخِلُّ بالتنسيق الدولي في مكافحة الإرهاب، كما أثارت العلاقات الإماراتية مع أنظمة غير ديمقراطية في المنطقة نِقَاشًا حول المعايير السياسية لتقديم الدعم الخارجي.
تتعدَّى انعكاسات العلاقات “الإماراتية – الساحلية” مُجرَّد تحقيق مكاسب ثنائية، لتصل إلى إعادة رسْم الخرائط الجيوسياسية في غرب ووسط أفريقيا، في سياقٍ عالميٍّ يتسم بتعدُّد الأقطاب وتنافُس المشاريع الإستراتيجية، وقد فرض ذلك على الإمارات انتهاج دبلوماسية متوازنة تجمع بين الحضور الفاعل وتفادِي التصادُم مع القوى الكبرى.[4]
خامسًا: مستقبل العلاقات الإماراتية ودول الساحل الأفريقي
من المتوقع أن تواصل الإمارات توسيع تعاونها الأمني والعسكري مع أنظمة الساحل، خاصَّةً في مجال التدريب والدَّعْم اللوجستي والاستخبارات، وستعتمد في ذلك على أدوات القوة الناعمة والصلابة التي تمَّ ذِكْرُها سابقًا، إضافةً إلى تعزيز دور مؤسساتها، مثل صندوق أبوظبي للتنمية والهلال الأحمر في تمويل برامج تنموية محلية تُكْسِبُها شرعيةً شعبيةً، ومن المرجح أنها ستحرص على عدم الدخول في صدامٍ مباشرٍ مع قوى كبرى، مثل (روسيا وتركيا وفرنسا) عبْرَ انتهاج سياسة “التموْضع المتوازن”، كما قد تلعب دور “الوسيط المحايد” أو “الفاعل الإنساني” لترسيخ حضورها دون إثارة حساسيات سياسية؛ فمستقبل العلاقات الإماراتية مع دول الساحل الأفريقي مُرَشَّحٌ لأن يكونَ متوازنًا بين الطموح السياسي والتحوُّط الجيوسياسي؛ فبينما تسعى الإمارات لتثبيت نفسها كفاعلٍ دوليٍّ في أفريقيا، فإنها مضطرةٌ للتحرٌّك بحَذَرٍ في بيئة شديدة التقلُّب، ويتوقع نجاح الإستراتيجية الإماراتية على مرونتها في التعامُل مع المتغيرات، وقدرتها على بناء تحالُفاتٍ محليةٍ مُسْتَدَامَةٍ لا تقوم فقط على المصالح الأمنية، بل على التنمية الشاملة والشرعية الشعبية.
ختامًا:
تُمثِّلُ العلاقات الإماراتية ودول الساحل الأفريقي نموذجًا مُتقدِّمًا من السياسة الخارجية متعددة الأدوات والأبعاد؛ حيث تسعى الإمارات من خلالها إلى تحقيق مزيجٍ من الأهداف الأمنية، الجيوسياسية والاقتصادية، في سياقٍ إقليميٍّ ودوليٍّ مضطربٍ، يتسمًّ بالتنافُس على مناطق النُّفُوذ، كما أنها عكست تحوّلًا نوعيًّا في العقيدة الدبلوماسية الإماراتية، من سياسة المساعدات الخيرية والانكفاء الإقليمي إلى سياسةٍ خارجيةٍ فاعلةٍ ومبْنِيَّةٍ على التموْضع الإستراتيجي في مناطق الهشاشة الأمنية والسياسية، كما جسَّدَتْ سعْي الإمارات إلى التحوُّل من مجرَّد لاعبٍ اقتصاديٍّ إلى فاعلٍ جيوسياسيٍّ مؤثرٍ في موازين القُوَى الأفريقية.
المصادر:
[1] الإمارات تؤكد أهمية تحقيق الاستقرار في منطقة الساحل الأفريقي، مركز الاتحاد للأخبار، ٢١ يونيو ٢٠٢٤، https://tinyurl.com/bdeteuz .
[2] زيارة مشبوهة لمبعوث “دويلة الإمارات” إلى منطقة الساحل، MDC NEWS، ٢١ مايو ٢٠٢٥، https://mdcnews.net/ .
اجتماع وزاري إماراتي أفريقي لتعزيز التعاون بالنقل والسكك الحديدية، الخليج، ٤ مايو ٢٠٢٥، https://tinyurl.com/yc7m6yuv .
