الاتفاقُ المائيُ بين تركيا والعراق: توازنٌ هشٌّ بين التعاون المائي والحسابات الجيوسياسية التركية

إعداد: محمود حسن

باحث مساعد ببرنامج دراسات الدول التركية

مقدمة

في العاشر من أكتوبر 2025, أتمّت أنقرة وبغداد توقيعَ مسوّدةِ اتفاقٍ إطاريٍ لإدارة تدفّق نهري دجلة والفرات والتخفيف من تداعيات شُحِّ المياه والجفاف الذي يهدد العراق. وبحسب تصريحات وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، يشملُ الاتفاقُ موافقة أنقرة على زيادة تدفقات المياه، تعريفِ آلياتٍ مشتركةٍ لإدارة المياه، والتزامٍ طويل الأمد بتقديم تركيا لخبراتٍ تقنيةٍ وبنيويةٍ لإعادة هيكلة منظومة المياه العراقية بما يتضمّنُ تطوير بنيةِ السدود المائية العراقية. ورغم التفاؤل المحيط بالاتفاق، إلا أن الفحص الدقيق لتفاصيل المسودة المتاحة ووضْعها في سياق التفاعلات التركية – العراقية الأوسع يطرحُ تساؤلاتٍ مشروعةً حول استدامة الاتفاق وقدرته على تغيير المشهد المائي في العراق.

أولًا: عناصر الاتفاق المائي بين تركيا والعراق:

بناءً على التفاصيل المحدودة التي وردت بمسوّدة الاتفاق، يمكن استعراضُ بنوده الأساسية على النحو التالي:

أ. زيادة التصريفات المائية قصيرة الأجل: ينصُّ الاتفاق على زيادة أنقرة لتصريف مياه نهري دجلة والفرات إلى العراق بمقدار 420 متر مكعب في الثانية لكل نهرٍ خلال شهري أكتوبر ونوفمبر ، وهو ما تمَّ الاتفاقُ عليه إثر محادثاتٍ ثنائيةٍ بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس مجلس النواب العراقي محمود المشهداني في يوليو 2025. ويمثّل هذا البندُ التزاماً تركياً مرحلياً بالاستجابة لاحتياجات العراق المائية المتزايدة، خصوصاً مع اقتراب فصل الشتاء، والذي يمثُّل فرصةً حقيقيةً لإصلاح الخلل المدقع في احتياطات العراق المائية مع توقّعاتِ زيادة الأمطار وفقاً لتصريحات المتحدث الرسمي باسم وزارة الموارد المائية العراقية خالد شمال.

ب. تأسيس إطار عمل مائي طويل الأمد: بجانب إطلاق المياه على المدى القريب، تتضمّنُ المسوّدةُ بنوداً إضافيةً لتنظيم العلاقة المائية بين العراق وتركيا. فمن المفترض أن تستهدفَ الترتيباتُ الجديدةُ تنفيذ مشروعاتٍ تنمويةٍ بمجالات تحلية المياه وإعادة استخدام المياه وتطوير البنية التحتية الكهرومائية في العراق. وتبعاً لذلك، أعلنت وزارة الموارد المائية العراقية عن التنفيذ المشترك مع تركيا لثلاثةِ مشاريعَ سدودٍ استراتيجيةٍ لتجميع مياه الأمطار وتعزيز احتياطات العراق من المياه بالإضافة إلى ثلاثة سدودٍ أخرى لزيادة المساحة المُستصلحةِ في الأراضي العراقية ودعم التنمية الزراعية. وتبلغُ السعةُ التخزينيةُ المقدّرةُ لهذه السدود 5-10 مليون متر مكعب، مما يعكسُ إمكانيةَ تحولِ العلاقة المائية بين البلدين من طلبات مياهٍ مؤقتةٍ إلى بنيةٍ مؤسساتيةٍ وتعاونٍ تِقَنيٍ أكثر شمولاً.

ثانيًا: دوافع العراق وراء توقيع الاتفاق المائي مع تركيا:

يأتي الاتفاقُ الإطاري للمياه بين تركيا والعراق في سياق أزمة المياه غير المسبوقة التي تمرُّ بها العراق، حيث تزامنَ الاتفاقُ مع دعوة وزارة الموارد المائية العراقية بزيادة الإطلاقات المائية في نهري دجلة والفرات بمقدار مليار متر مكعب، أي بواقع 500 متر مكعب في الثانية لكل نهرٍ خلال الشهرين المقبلين. وبحسب تقرير الوزارة ذاتها، يعدُّ عام 2025 هو العامَ الأكثر جفافاً منذ عام 1933، فقد تراجعت إيراداتُ نهري دجلة والفرات إلى 27% فقط مقارنةً بالعام الماضي، وانخفض مخزون المياه في السدود والخزانات إلى 8% من طاقته التخزينية، بنسبة تراجع بلغت 57%.

علاوةً على ذلك، تحملُ الأزمةُ المائيةُ العراقية انعكاساتٍ خطيرةً على الأمن المائي للمواطن العراقي في ظل تقلّصِ الإيرادات المائية للعراق من نحو 70 مليار متر مكعب إلى 40 مليارا فقط، وعليه من المتوقّعِ أن يتراجعَ نصيب الفرد من المياه إلى 479 مترا مكعبا بحلول عام 2030، مقارنةً بالمعيار الذي حددته منظمةُ الصحة العالمية بـ1700 متر مكعب سنويا للفرد. وفي ضوء نقْصِ الحصص المائية العراقية، تمتدُ آثار هذا الجفاف المائي إلى قطاع الزراعة في العراق، إذ تقدّرُ وزارة الزراعة العراقية الأراضي التي لم تعدْ صالحةً للزراعة بنحو 50 % من إجمالي المساحة المزروعة. كما لم يتمّْ استكمال الخطة الزراعية الصيفية وألغيتْ الخطةُ الشتويةُ، مما يعكسُ تداعياتِ الأزمة المائية على الأمن الغذائي العراقي.

ثالثًا: دوافع تركيا وراء الاتفاق المائي مع العراق:

إن إعلان تركيا عن توقيع المسوّدة الإطارية في هذا التوقيت بالذات يعبّر عن مناورةٍ سياسيةٍ تركيةٍ لتحقيقِ جملةٍ من المكاسب السياسية والاستراتيجية. على سبيل المثال، يتزامن الاتفاق مع قُرب موعدِ انعقاد الانتخابات البرلمانية العراقية في 11 نوفمبر المقبل، ونظراً لمحورية ملف المياه في الساحة السياسية العراقية، آثرتْ أنقرة القيامَ بتحركٍ رمزيٍ غير مُلزمٍ للحفاظ على نفوذ أنقرة على القيادة العراقية المقبلة. وفي هذا السياق، يفضل الرئيس التركي أردوغان بقاء رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في السلطة بحكم التعاملات المتبادلة في مسائل القضية الكردية والذي تُوّج بإعلان بغداد منظمة حزب العمال الكردستاني ” منظمةً إرهابيةً” في أبريل 2025. ويتّسقُ هذا الطرحُ مع إعلان الحكومة العراقية أن الاتفاق الإطاري جاء نتيجةً “لتفاهماتٍ متراكمةٍ” تمَّ التوصّلُ إليها أثناء زيارة أردوغان للعراق في العام الماضي.

ولعل هذا يفسرُ الحراكَ التركيَ المتصاعد لتعزيز الموقف السوداني خلال الانتخابات المقبلة. فبجانب توقيع اتفاق المياه الذي يخففُ الضغوطَ الشعبية على السوداني ويمنحُ حكومته إنجازاً سياسياً سريعاً، سبق لتركيا الاتفاقُ على استئناف تصدير النفط العراقي عبر أراضيها في سبتمبر 2025 مع محاولات لتمديد هذا الاتفاق نحو ترتيبٍ طاقويٍ طويل الأمد. هذا يعني أن أنقرة تعمل على حلحلة القضايا العالقة بما يسمح للسوداني بتوظيف هذه المكاسب داخلياً مع عدم إلزام تركيا بأي تنازلٍ جسيمٍ في أيٍ من هذه الملفات.

وعلى الصعيد الاقتصادي، ستستفيد تركيا من الاتفاقية الجديدة، إذ توفر فرصاً جذابةً لشركات الإنشاءات التركية للمشاركة في مشروعات البنية التحتية وتحلية المياه وتجميع الأمطار الآنف ذكرها. في هذا الإطار، يعبّر الاتفاق عن نُضوجِ التفكير التركي عبر التحول من مواجهةٍ سياسيةٍ وقانونيةٍ حول ” حقوق المياه التاريخية” إلى شراكةٍ تنمويةٍ متبادلةٍ تقودها أنقرة، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عند الإشارة إلى الأزمة المائية بأنها «مشكلةٌ مشتركةٌ»، ما يعكسُ رغبة أنقرة في بناء إطارِ تعاونٍ إقليميٍ مبنيٍ على التشارك وليس فقط المنفعة الذاتية.

رابعًا: مستقبل الاتفاق المائي التركي – العراقي:

من غير المرجّح أن يؤديَ الاتفاق الجديد إلى تحولٍ نوعيٍ في تنظيم وإدارة الموارد المائية بين البلدين، وهذا يمكن إرجاعه للأسباب الآتية:

أ. طبيعة المفاوضات المائية التركية – العراقية: تشيرُ أنماط التفاوض المستمر بين أنقرة وبغداد حول ملف المياه إلى عدم احتمالية حدوث انفراجةٍ حيويةٍ بحكم تاريخ عدم إنفاذ الاتفاقات السابقة. إذ لا توجد معاهدةٌ شاملةٌ وملزمةٌ بين البلدين تُحدد كميات المياه السنوية في كلا النهرين. تشمل التفاهمات السابقة بروتوكولًا لعام ١٩٨٧ تعهدت فيه تركيا بحدّ أدنى من تدفّقِ مياه نهر الفرات إلى سوريا، واتفاقية بين سوريا والعراق عام ١٩٩٠ لتوزيع هذا التدفق، لكن هذه الاتفاقيات لا تُحدد قواعدَ مفصّلةً على مستوى حوض النهرين، مع العراق وتركيا معًا. بالتالي، سمح غياب إطارٍ قانونيٍ ملزمٍ في تنظيم المياه بتطوير برنامج تركيا طويل الأمد لبناء السدود والري في الجنوب الشرقي من البلاد دون تنسيقٍ مسبقٍ مع القيادات العراقية.

واتصالاً بهذه الفكرة، فإن مسوّدةَ الاتفاق الإطاري المتاحة تفتقر إلى تفاصيل واضحةٍ مثل تحديد حصص العراق المائية أو آليات إلزاميةٍ لتنفيذ التعهدات التركية بزيادة تدفقات المياه. ناهيك عن طبيعة المفاوضات الفضفاضة التي لا تشملُ الجوانب الفنية والتقنية اللازمة، مثل لجانِ تقصّي الحقائق أو اللجوء إلى وساطةٍ وتحكيمٍ دولي.

ب. عدم توظيف العراق لأوراقه التفاوضية: يمتلكُ العراقُ ورقةً تفاوضيةً قويةً تتمثل في الميزان التجاري المختل بشدة بين البلدين، إذ يبلغ حجم الاستيراد السنوي من تركيا نحو 16 مليار دولار، مقابل صادراتٍ عراقيةٍ لا تتجاوز المليار دولار. هذا الثِقلُ الاقتصاديُ الكبير قد يمكّن العراقَ من الضغط على تركيا للسماح بتدفّقاتٍ مائيةٍ أكبر في حالة استغلاله. إلا أنه لا يؤجد مؤشراتٌ حاليةٌ تشير إلى نية العراقيين للتحرك في هذا الاتجاه.

ج. نقص مخزونات المياه الوطنية التركية: من المحتمل أن تُعرقلَ نِسبُ الجفاف المتصاعدة في تركيا بفعل تأثيرات تغيّرِ المناخ قدرتها على تبنّي سياساتٍ مائيةٍ أكثر مرونة. فوفقًا لبيانات شركة الأشغال الهيدروليكية الحكومية (DSİ)، سجّلت خزانات سدود تركيا معدّل تخزينٍ نشطٍ بلغ 42.2% حتى 12 أغسطس 2025، بانخفاض قدره 10.7 نقطةً مئويةً عن الفترة نفسها من العام الماضي. ويرتبط هذا الانخفاض بانخفاضٍ مماثلٍ في معدّل هطول الأمطار عن المتوسط ​​خلال السنة المائية (1 أكتوبر 2024 – 12 أغسطس 2025)، حيث انخفضَ معدّل هطول الأمطار بنسبة 27.7% مقارنةً بالعام السابق. لذلك، قد تواجهُ أنقرة قيوداً وطنيةً في تمديد زيادة تدفقات المياه خلف المدى الزمني القصير المتفق عليه في ظل تحدياتها المناخية الداخلية.

خاتمة

في ضوء ما سبق، يمكن القول إن الاتفاقَ المائي الإطاري بين تركيا والعراق الموقّع في أكتوبر 2025 يمثّلُ خطوةً إيجابيةً في الاتجاه الصحيح نحو معالجة أزمة المياه المزمنة بين البلدين، إلا أنه لا يزالُ أقربَ إلى كونه ترتيباً سياسياً مرحلياً أكثر من كونه تحولاً هيكلياً في إدارة الموارد المائية المشتركة. فبينما يمنح الاتفاق الحكومة العراقية متنفساً مؤقتاً للتعامل مع تداعيات الجفاف ويعزّزُ من فرص رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في المشهد السياسي الداخلي، فإنه يمنح في المقابل أنقرة أداةً جديدةً لتعزيز نفوذها الإقليمي دون تقديم تنازلاتٍ قانونيةٍ أو فنيةٍ جوهريةٍ.

ومع أن الاتفاق يشير ظاهرياً إلى انفتاحٍ تركيٍ على نهج “الشراكة المائية”، إلا أن غياب الالتزامات الملزمة قانونياً وتحديد الحصص الدقيقة يجعل من الصعب ضمان استدامته أو تحقيق تأثيرٍ ملموسٍ على المدى الطويل. كما أن القيود البيئية والمناخية التي تواجهها تركيا داخلياً، إلى جانب ضعف توظيف العراق لأوراق الضغط الاقتصادية والدبلوماسية، تقلل من احتمالية تحوّل الاتفاق إلى إطارٍ دائمٍ لإدارة المياه بين البلدين.

المراجع

1- فارس الخيام. ماذا بعد الاتفاق المائي بين العراق وتركيا؟. الجزيرة. نت. 16/10/2025. متاح على الرابط التالي: https://tinyurl.com/ys8bxkw6

2- مع اقتراب الانتخابات العراقية.. تركيا تقرر ضخ المياه بنهري دجلة والفرات. إرم نيوز. 21/10/2025. متاح على الرابط التالي: https://tinyurl.com/mpme5ypz

3- سعيد عبد الرازق. تركيا توقع مسودة اتفاق مع العراق لحل مشكلة المياه. جريدة الشرق الأوسط. 10/10/2025. متاح على الرابط التالي: https://tinyurl.com/4b9n2pdp

4- Türkiye’s Dam Reservoir Levels Drop to 42.2%, Sharp Declines in Ankara and İzmir. PA Turkey. 15/8/2025. Available at: https://tinyurl.com/4kzfdvzm

5- Six Strategic Projects Announced in Iraq–Turkey Water Agreement. Peregraf. 15/10/2025. Available at: https://tinyurl.com/5n93z9hp

6- Iraq requests increased water releases from Turkey as drought worsens. Rudaw.Net. 13/10/2025. Available at: https://tinyurl.com/z5r2j94n

7- Amr Salem. Iraq expands agricultural lands as Turkey increases water flows. Iraqi News. 10/7/2025. Available at: https://tinyurl.com/5n7rykbw

8- SUZAN FRASER. Turkey and Iraq reach draft agreement on sharing water as drought worsens. The Associated Press. 10/10/2025. Available at: https://tinyurl.com/3cvwxyra