المقالات
الاشتباكاتُ الفصائيليــةُ في غــزة: قــراءةٌ أمنيــة في دلالات التوقيــت ومـآلات التصعيــد
- أكتوبر 17, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط

إعــداد: فــداء منصــور
باحــث في برنامـج الأمـن والإرهــاب
في خضمِّ المعاناة التي يعيشها قطاع غزة، وعلى إثْر إعلان جيش الاحتلالٌ في أعقاب التوصّل لاتفاقٍ لوقْفِ إطلاق النار في القطاع بأن “المليشيات المتعاونة مع الجيش الإسرائيلي في غزة لن تدخل إلى إسرائيل، وعليها مواجهةُ مصيرها، الجيش لم يُجبرْ أحدًا على قتال حماس، وعليها تحمّلُ عواقب قراراتها”، اندلعت اشتباكاتٌ مسلحةٌ بين القوات الأمنية لحركة حماس وعشائر وفصائل فلسطينية مسلحة مناوئةٍ لها يوم الأحد الثاني عشر من شهر أكتوبر الجاري، في حي “الصبرة” جنوب قطاع غزة، تلتها اشتباكاتٌ في منطقة “جباليا”، و”حي الشجاعية”، و”بيت لاهيا” شمال شرق القطاع يوم الثلاثاء الرابع عشر من الشهر الجاري، لملاحقة عناصر اتهمتها حماس بالعِمالة لإسرائيل وسَرِقةِ المساعدات، وذلك بعدما أعلنت الحركة في بيان لها أنه تمَّ فتْحُ باب “التوبة والعفو العام” أمام كل من التحق بالعصابات ولم يتورطْ في ارتكاب جرائم قتل، حيثُ أعطت مهلةً لتسليم أنفسهم إلى الأجهزة الأمنية التابعة لحماس خلال فترة أسبوع، تبدأ من يوم الإثنين 13 أكتوبر وحتى نهاية الأحد 19 أكتوبر. في هذا السياق، تُعدّ هذه التطورات مؤشرًا خطرًا في تصدُّع البنية الأمنية الداخلية للقطاع، وتفاقم أزمة الشرعية والسلطة داخل غزة في ظل بيئةٍ أمنيةٍ وسياسيةٍ مأزومةٍ تزداد تعقيدًا منذ اندلاع الحرب؛ إذ تعكسُ الاشتباكاتُ الأخيرةُ ملامح تحوّلٍ في طبيعة التفاعلات الداخلية الفلسطينية، إذ اتخذت شكل حرب الشوارع، ما يثير تساؤلاتٍ عميقةً حول مستقبل الوضع الأمني في غزة، ومدى قدرة حركة حماس الحفاظ على ضمان الأمن والسيطرة في ظل حالة الإنهاك التي تَعصفُ بالمجتمع الغزِّي نتيجة الحصار الطويل والحرب المستمرة.
من هذا المنطلق، تسعى هذه الورقة إلى تسليط الضوء على أن الاشتباكاتِ الراهنةَ تتجاوز كونها مجرد حدَثٍ أمنيٍ عابرٍ، لتُمثِّل مدخلًا تحليليًا لفهْم التحولات البنيوية العميقة في منظومة الحكم داخل قطاع غزة، وطبيعة التوازنات الجديدة بين الفصائل والعشائر والمجموعات المسلحة، فضلًا عن ارتباطها المحتمل بتبدُّل مواقف بعض القوى الإقليمية والدولية تجاه المشهد الفلسطيني. كما تثير هذه الأحداث تساؤلاتٍ جوهريةً تتعلق بإمكانية نشوء نمطٍ جديدٍ من الصراعات الداخلية، يُعيد رسم خريطة النفوذ داخل القطاع ويؤثر بصورةٍ مباشرةٍ على مسار القضية الفلسطينية برمّتها. وعليه، هل تعكس الاشتباكات الجارية إعادة تموضعٍ داخليٍ أم أنها مؤشرٌ إلى الانزلاق نحو صراعٍ فصائليٍ مسلّح طويل الأمد؟
مُجريــاتُ السيــاق الراهــن
بالتزامن مع دخول اتفاقية وقْف إطلاق النار حيز التنفيذ والبدء في المرحلة الأولى، والتي تتضمن انسحابَ إسرائيل إلى الخط الأصفر الأول، دارت اشتباكاتٌ بين قوة “رادع”* التابعة لحركة حماس، مع إحدى العائلات الفلسطينية الكبيرة في قطاع غزة تسمى “دغمش”* والتي تتمركز في حي “الصبرة” و”تل الهوا” جنوب مدينة غزة، اتهمتها الحركة بأنها “متعاونةٌ مع إسرائيل” وتخرقُ النظامَ العامَ، وهو ما ترفضه العائلة واصفةً ما فعلته حماس أنه “لا يمتُّ للمقاومة بصلة”. حيثُ جاء تبادل إطلاق النار بين الطرفين بعد أيامٍ من دخول وقْف إطلاق النار حيّز التنفيذ في قطاع غزة، في أعقاب مقتل اثنين من كتائب القسام – الجناح المسلح لحركة حماس – على يد عناصر من أفراد عائلة “دغمش”، أحدهما نجلُ القيادي الكبير “عماد عقل” يوم الجمعة الماضي، بالقرب من المستشفى الميداني الأردني، فضلًا عن الناشط الصحفي “صالح الجعفراوي”،[1] الأمرُ الذي أشعل التوتر بين الأطراف على الرغم من التهدئة المفترضة. على الجانب الآخر، تقول بعض المصادر إن حركةَ حماس طلبت من أفراد العائلة تسليم الذين شاركوا في عملية القتل، وهو ما رفضه بعض وجهاء ومخاتير العائلة، الأمرُ الذي زاد من توتر الأوضاع، ليدفعَ عناصرَ مسلحةً من الحركة وأجهزتها الأمنية مساء السبت إلى مهاجمة أفراد من العائلة، وذكرت وسائل إعلام فلسطينية أن حماس تمكّنت من السيطرة على مربّعٍ سكنيٍ في حي “الصبرة”، إذ أسفرت الاشتباكات عن قتل ما لا يقل عن 20 فردًا من عائلة “دغمش”، منهم مطلوبون لقتلهم عناصر من الحركة خلال فترة الحرب، واعتقال آخرين، بالإضافة لوقوع بعض القتلى من أعضاء حماس.
ترتب على ذلك مجموعةٌ من المظاهر الأمنية داخل قطاع غزة، تتمثل فيما يلـــي:-
سماح مؤقت: حيثُ صرَّح “دونالد ترامب” ردًا على سؤال مراسل حول تقارير عن إعادة تسليح حماس وتأسيس نفسها كقوةِ شرطةٍ فلسطينيةٍ وملاحقة الخصوم “نحن متفهمون، لأنهم يريدون فعلًا وقف المشاكل، وكانوا صريحين بشأن ذلك، وقد منحناهم الموافقة لفترةٍ من الوقت”. ويمكن القول إن التصريح يعكس تحولًا لافتًا في النهج الأميركي التقليدي القائم على سياسة العزْل والتجريم إلى نهجٍ براغماتي مرنٍ يسمح بالتعامل المؤقت مع الحركة، فهو يعترف ضمنيًا بدور حماس في ضبط الأمن الداخلي، طالما أن ذلك يسهم في استقرارٍ مرحليٍ مؤقتٍ يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية؛ حيثُ قال الرئيس الأمريكي مساء يوم الثلاثاء “إن حماس قضت على بعض العصابات في قطاع غزة لا يزعجني ذلك كثيرًا”، وعليه، يحمل ذلك في طياته خطرًا مزدوجًا؛ فمن جهة يُكرِّس منطق الاعتراف بالأمر الواقع على حساب الشرعية السياسية، ومن جهة أخرى يمنح حماس غطاءً مؤقتًا لإعادة بناء قدراتها التنظيمية والعسكرية، ما قد يؤدي إلى جولةِ صراعٍ جديدةٍ إذا تغيرت موازين القوى لاحقًا، ويُرسِّخ واقع الانقسام الفلسطيني. كما قد يُفسَّر بوصفه محاولةً لإعادة توجيه تركيز الحركة من نهْجِ المقاومة المسلحة إلى الإدارة الأمنية المحلية، وبالتالي يخدم ذلك الرؤية الأميركية الرامية إلى إدارة الصراع لا حلّه.
ملاحقات أمنية: تأتي تحركات الحملة الأمنية التي أطلقتها حماس ضد الفصائل العشائرية التي تُتهم بأنها مدعومةٌ من إسرائيل، في إطار سعيها إلى تحييد الأطراف التي قد تُستغل لتقويض سلطتها، ما يعكس إدراكها لخطورة تمدّد شبكات النفوذ الخارجي داخل النسيج الأمني والمجتمعي في غزة، فقد أفادت المصادر بمقتل 32 شخصًا خلال اشتباكاتٍ مع قوى مسلحة متعاونة مع الاحتلال، حيثُ ألقت القوة الأمنية الفلسطينية القبض على عددٍ من الخارجين عن القانون بعد اشتباكٍ مسلحٍ في منطقة “المواصي” في خان يونس جنوب القطاع، وبلغَ عدد المعتقلين من عناصر المليشيا – والتي يرجّحُ أنها ميليشيا أبو شباب”، ومصادر أخرى ترجّحُ أنها من عائلة “دغمش” – نحو 60 عنصرًا، تمَّ نقلهم لمواقع آمنة لاستكمال التحقيق معهم. ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية، نشبَ خلافٌ داخل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بين جهاز “الشاباك” وجيش الاحتلال الإسرائيلي بشأن مستقبل هذه المجموعات، وعلى رأسها مجموعة “ياسر أبو شباب”.[2] ففيما يتعلق بـ “ياسر أبو شباب”، تتباين الروايات حول مصيره منذ بدء الاشتباكات؛ حيثُ تشير بعض المصادر إلى انقطاع الاتصال به وسط ترجيحاتٍ باعتقاله، بينما تؤكد أخرى مقتله بطلْقٍ ناري في الرأس، مما يعكس ذلك طبيعة الفوضى المعلوماتية والتعتيم الأمني الذي يرافق الصراع الداخلي في غزة.
بالإضافة إلى ذلك، داهمت حماس منطقةً لعشيرة “المجايدة” في الأول من شهر أكتوبر الجاري؛ لاعتقال عناصر قالت إنهم مطلوبون؛ لقتلْهم عناصر من الحركة، وأعقبَ ذلك تبادلٌ لإطلاق النار؛ ما أسفر عن سقوط قتلى من الجانبين – وفقاً لما قالته حماس وأفراد من العشيرة – على الجانب الآخر، تنفي مصادرُ مقربةٌ من العشيرة اتهاماتِ حماس لها بأن أفرادها على صلةٍ بميليشيا “أبو شباب”، في المقابل، يتهمون حركة حماس باستخدام المداهمة ذريعةً لعمليات قتْلٍ موجّهة.[3] في ضوء ذلك، أشار مصدرٌ أمنيٌ لدى حماس “نفذنا عملياتٍ أمنيةً، واعتقلنا عملاء خارجين عن القانون، وسيطرنا على مواقع ميليشيات مسلحة، وتعاملنا وفقًا لقواعد الاشتباك مع مطلوبين رفضوا تسليم أنفسهم”. إلا أنها نفت الحركة مؤخرًا أي علاقةٍ لها بالاشتباكات التي اندلعت، مؤكدًا على أنها “ليست طرفًا في أي مواجهاتٍ وأنه عملُ الجهات الأمنية”. على الجانب الآخر، قالت منصة “رادع” – الذراع الإعلامي الأمني لحركة حماس – عبر تطبيق “تيليجرام” في بيانٍ مُقتضب: “على امتداد القطاع، ضرباتنا مستمرة من شماله إلى جنوبه، يد رادع تضرب أوكار الخيانة والعمالة في هذه الأثناء”. يشير هذا التضارب إلى أن المشهدَ الأمنيَ في غزة يتجهُ نحو مزيدٍ من التعقيد والتشظي في مراكز القرار، ما يُضعف إمكانية ضبط الفوضى الداخلية ويزيد احتمالاتِ التصعيد مستقبلاً.
تنفيذ حكم الإعدام: انتشر مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي يُظهرُ مسلحين ملثّمين بعضهم يرتدي عصاباتِ رأسٍ خضراء مشابهةٍ لتلك التي يرتديها عناصر حماس، وهم يطلقون النار من بنادق رشاشة على ما لا يقل عن سبعة رجال. في هذا السياق، أكد مصدرٌ لحماس بأن تنفيذ أحكام “الإعدام” بحق ما تسميهم العملاء والمجرمين “تم بعد استيفاء الإجراءات القانونية”، ليشكِّل ذلك – وفقًا لحماس – رسالةَ ردعٍ داخلية موجّهةً للخصوم والعناصر المشكوك في ولائهم. في إشارةٍ إلى أنه عرضٌ للقوة في مواجهة الاتهامات بضَعْفِ السيطرة الأمنية بعد تصاعد نشاط الميليشيات المحلية والفصائل المسلحة.
ردّ فعل السلطة الفلسطينية: في المقابل، أدانت الرئاسة الفلسطينية يوم الثلاثاء بأشد العبارات ما وصفته بأنه “عملياتُ إعدام ميدانية طالت عشرات المواطنين في قطاع غزة، خارج نطاق القانون ودون أي محاكماتٍ عادلةٍ”. ووصفت الرئاسة في بيان لها الأحداث بأنها “جرائمُ بشعةٌ ومرفوضةٌ تحت أي مبررٍ كان”، وحمَّلت حركة حماس “المسؤولية الكاملة” عنها، قائلةً إنها تضر بالمصالح العليا للشعب. كما ذكرت أن حماس تفرض سلطتها بالقوة والإرهاب.
تفكّك ميليشيات دعمتها إسرائيل: في تطورٍ لافتٍ وسط المفاوضات الجارية لوقف إطلاق النار في غزة، طلب 5 من عناصر ميليشيا “أبوشباب” العفو من حركة حماس بعد أن تخلَّى الجيش الإسرائيلي عنهم لمواجهة مصيرهم، في خطوةٍ تعكس تصدُّعًا متزايدًا داخل المجموعات المناهضة للحركة وخوف عناصرها من الانتقام مع اقتراب التوصّل إلى هدنة.ٍ وبحسب تقرير نشره موقع “jfeed” العبري، الأحد 5 أكتوبر 2025، بإن خمسةَ أفراد من الميليشيا، التي تتهمها الحركة بالتخابر مع إسرائيل، تواصلوا مع عائلاتهم لطلَبِ وساطةٍ تُتيح لهم تسليم أنفسهم إلى جهاز “الأمن المقاوم” التابع لحماس مقابل العفو؛ حيثُ أقدموا على هذه الخطوة بعد تلقّيهم رسالةً رسميةً من قائديهم “ياسر أبو شباب وغسان الدهيني” أعلنا فيها تخليهما عن المسؤولية تجاههم في حال جرى أي اتفاقٍ أو تسويةٍ.[4] يخوض قادة وعناصر الميليشيات المسلحة المناوئة لحركة “حماس”، وأشهرها ميليشيا “ياسر أبو شباب” في رفح، ما تصفها مصادرُ عبريةٌ بأنها “معركةُ بقاء” و”معركةُ حياةٍ أو موت”.[5]
تمدد الإشتباكات: فقد حذّرَ الجيشُ الإسرائيلي في التاسع من أكتوبر الجاري، من العودة إلى المنطقة الشمالية من القطاع نظرًا لأنها منطقةُ قتالٍ خطرة، وبالفعل في منتصف الشهر الجاري شهدت اندلاعَ اشتباكاتٍ بين القوات الأمنية لحركة حماس وفصائل مسلحة كمنطقة “جباليا”، و”الشجاعية” مع مجموعةٍ مسلحةٍ بقيادة “رامي حلس”، و”بيت لاهيا” مع مجموعةٍ أخرى بقيادة “أشرف منسي”. وأوضحت المصادر أن جهاز أمن “رادع” التابع للحركة، نفّذ حملةً أمنيةً موسَّعةً، يوم الثلاثاء، استهدفت ما قال إنه “وكرٌ للمتعاونين مع إسرائيل” و”تطهير الجبهة الداخلية”.[6]
على الجانب الآخر، بثَّ “حسام الأسطل” – أحد أبرز مناوئي حركة حماس في المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية ومسؤول المنطقة “الإنسانية” في خان يونس – تسجيلًا مصورًا يوم الأحد، وجَّه فيه انتقاداتٍ للحركة، معتبرًا أن سلطتها في غزة ستنتهي فور إتمام عملية تسليم الرهائن. وأضاف “باقون على الأرض ولن نسمحَ بعودة فلول حماس”.
دلالات التوقيــــت
الجدير بالذكر، أن بداية نشوب اشتباكاتٍ بين حماس وفصائل مسلحة بعد حرب غزة تعود إلى 18 نوفمبر 2024؛ والتي أسفرت عن 20 قتيل، بعد ساعاتٍ من إعلان مسؤولين من الأونوروا أن قافلةَ مساعداتٍ مكوّنة من 109 شاحنات تعرضت للنهب ليفقد منها نحو 98 شاحنة باستخدام العنف، وبحسب ما نقلته صحيفة الغارديان البريطانية نقلًا عن حركة حماس أن أكثر من 20 شخصًا من لصوص شاحنات المساعدات تمَّ قتلُهم في عمليةٍ أمنيةٍ تمّت بالتعاون مع لجانٍ عشائريةٍ في رفح، كما رصدت الأجهزة الأمنية التابعة لحركة حماس اتصالاتٍ بين اللصوص وقوات الجيش الذي يوفر لها غطاءًا أمنيًا لعملها وشاركت فيها فصائل فلسطينية. في السياق ذاته، كشفت صحيفة “هآرتس” الإسرائيليةُ في 11 نوفمبر 2025، أن الجيش الإسرائيلي أعطى الضوء الأخضر لعشائر فلسطينية بنهْب شاحناتِ المساعداتٍ وأخْذِ إتاوةٍ منها تحت رقابة الجيش عبر معبر كرم أبو سالم.[7] وعليه، فالتطوراتُ الحاليةُ لهذه الاشتباكاتِ جاءت وفق مجموعة دلالات:-
أولًا: اتفاقية إنهاء حرب غزة: تزامنت الاشتباكات الداخلية في غزة بين الأجهزة الأمنية التابعة لحماس وعناصر من العشائر والميليشيات الفلسطينية، مع سريان المرحلة الأولى من اتفاق وقْفِ إطلاق النار؛ إذ يكشف عن تعقيداتِ المشهد الداخلي في القطاع. فبينما يُفترض أن تشكّلَ فترةُ التهدئة فرصةً لترتيب الصفوف وتخفيف معاناة المدنيين، فإن انفجارَ التوترات في هذا التوقيت يسلط الضوء على أزماتٍ كامنةٍ تتجاوز الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وتتمحور حول اتهاماتٍ بالفساد، و”العمالة”، ونهْبِ المساعداتِ، حيثُ إن اندلاعَ هذه المواجهات في ظل البدء في تنفيذ اتفاقٍ دوليٍ، يحمل في طياته دلالةً واضحةً على سعي حماس لإعادة فرْضِ السيطرة والانضباط الأمني، وتصفية مراكز النفوذ غير الخاضعة لها قبل المُضيّ في بقيةِ مراحل الاتفاق. وعليه، يصبح توقيت هذه الاشتباكات ليس عابرًا، بل جزءًا من معركةٍ داخليةٍ على السلطة والشرعية، تأتي في لحظةٍ فاصلةٍ من تاريخ القطاع.
ثانيًا: إعلان إسرائيل بوقف الدعم: إذ إن الإشتباكاتِ اندلعت مباشرةً بعد إعلان الجيش الإسرائيلي تخلِّيه عن دعم الميليشيات الفلسطينية المسلحة التي تعاونت معه خلال العدوان على غزة، وتركْها تواجه مصيرها، في تحوّلٍ لافتٍ في الموقف الإسرائيلي وانعكاساته على الداخل الفلسطيني؛ هذا الإعلان مثَّل تحولًا جوهريًا في طبيعة العلاقة بين الاحتلال وبعض الفصائل أو الأفراد المتعاونين معه، الأمرُ الذي مهّد الطريق أمام تصفيةِ حساباتٍ داخليةٍ تقودها حماس تحت عنوان “حملة أمنية” لضبط الأمن الداخلي. في هذا الإطار، يمكن القول بأن تلاقي توقيت تخلّي إسرائيل عن هذه المجموعات مع بدء تصفيتها ميدانيًا، يُظهر كيف تتغيرُ معادلاتُ القوة في غزة سريعًا، ويكشف عن مرحلةٍ جديدةٍ من إعادة ترتيب المشهد الداخلي وفق ميزان الردع والسيطرة.
ثالثًا: الخلافات المتجذرة وتبادل الاتهامات: تعود الخلافات بين حركة حماس والعشائر في غزة إلى تبايناتٍ متجذِّرة في البنية السياسية والإجتماعية للقطاع، حيثُ برزت منذ عام 2007 خلافات حول إدارة الشأنين الأمني والسياسي، إذ تسعى حماس إلى فرْضِ مركزيةِ القرار وتنظيم حيازة السلاح في إطار الحفاظِ على الاستقرارِ، في حين ترى بعض الفصائل والعائلات أن لها دورًا مستقلاً مستندًا إلى نفوذٍ اجتماعيٍ وتاريخيٍ. كما ساهمت الاختراقاتُ الإسرائيليةُ لبعض المجموعات في تعميق الانقسامات، لتتحولَ الاشتباكاتُ المتكررةُ إلى انعكاسٍ لأزمةٍ شرعيةٍ داخليةٍ بين منطق “السلطة الحاكمة” ومنطق “المقاومة المسلحة”.
مــــآلات التصعيـــــد
في ظلّ هذا المشهد المعقّدِ والمتداخل، يطرحُ التصعيدُ الداخلي في غزة تساؤلاتٍ ملحَّةً حول مآلاته المحتملة، وانعكاساته على مستقبل التهدئة والاستقرار في القطاع. وعليه، يمكن استشراف سيناريوهاتٍ محتملةٍ للوضع الراهن:-
السيناريو الأول: تصاعد وتوسُّع رقعة الاشتباكات، يتجّه هذا السيناريو نحو تصعيدٍ أمنيٍ متسارعٍ، يتمثل في اتساع نطاق الاشتباكات بين الأجهزة الأمنية التابعة لحماس والعشائر أو الميليشيات المسلحة، سواء في الجغرافيا أو في حجم القوة المستخدمة. وقد يشمل ذلك مواجهاتٍ أعنف، واعتقالاتٍ موسّعةً، وربما عمليات تصفية ميدانية، في ظلّ سعي حماس إلى فرض السيطرة الكاملة على المشهد الداخلي قبل استكمال مراحل الاتفاق. مثل هذا التصعيد قد يُنتج حالةً من الفوضى الأمنية المؤقتة، ويهدد بإفشال تنفيذ الاتفاق وتعطيل مراحله القادم، خصوصًا إذا تحوَّلت الاشتباكاتُ إلى صراعٍ مفتوحٍ يهدد الاستقرار الداخلي، ويستجلب ضغوطًا إقليميةً أو دوليةً على الأطراف المعنية.
ويُستدلُ على ذلك سرعة انتقال الاشتباكات في مناطق القطاع المختلفة خلال أيامٍ قليلة، حيثُ كانت بدايتها في حي “الصبرة” و”المواصي” جنوب القطاع، وتلتها بصورة سريعة اشتباكاتُ منطقة “جباليا” و حي “الشجاعية” و”بيت لاهيا” شمال القطاع. بالإضافة لانخراط إسرائيل في تلك المواجهات وادّعاءِ هروبِ عناصر ناتجة عن الاشتباكات للمنطقة التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي وفق الاتفاق؛ لتبرير قصفها للمدنيين واستمرارها في محاصرة القطاع. على الجانب الآخر، ذكرت المصادر أن كتائب القسام – الذراع العسكرية لحركة “حماس” – تجهزُ مئاتٍ المقاتلين من أجل “حسْمِ ما تبقى من فلول العملاء”، معتبرةً أن “المُهمة القادمة هي مرحلةُ فرْضِ الأمن والأمان والقضاء على الانفلات الأمني وحالةِ الفوضى التي تُزعزعُ الاستقرارَ والسكينةَ العامة”.
السيناريو الثاني: احتواء التوتر واستعادة الهدوء، ويشير السيناريو إلى احتماليةِ النجاح في احتواءِ التوترات الأمنية عبر مجموعةٍ من الإجراءات العسكرية والسياسية، بما يشملُ تهدئةَ المواجهات مع العشائر والميليشيات المحلية وحماس، وتفعيل قنوات الوساطة الداخلية لامتصاصِ الغضبِ وتقليص نطاق الاحتكاك. كما أن استكمالَ مراحل الاتفاق بنشْر قوات الشرطة الفلسطينية المدربة في مِصرَ ودولٍ أخرى – وهي قواتٌ محايدةٌ – قد تعمل على تهدئة الأوضاع، وقد يؤدي ذلك إلى استعادةٍ نسبيةٍ للهدوء، بما يسمح بالمُضي قدمًا في تنفيذ مراحل اتفاق وقْفِ إطلاق النار دون عوائقَ داخليةٍ كبيرةٍ. ويُحتمل أن تلجأ حماس إلى تقديمِ تنازلاتٍ محدودةٍ، أو إعادة ترتيب العلاقة مع بعض العائلات والعشائر، بهدف تفادي انفجارٍ اجتماعيٍ يقوِّض سيطرتها في لحظةٍ سياسيةٍ دقيقةٍ.
ويستند هذا السيناريو على إعلان عشيرة “المجايدة” المتمركزة في منطقة خان يونس جنوب القطاع في 13 أكتوبر الجاري بعد اشتباكها مع القواتِ الأمنيةِ التابعة لحماس في بداية شهر أكتوبر، بيانًا على وسائل التواصل الاجتماعي أكد فيه رئيسُها دعمَه الحملةَ الأمنيةَ التي أطلقتها حماس للحفاظ على القانون والنظام في غزة، وحثَّ أفرادَ العشيرة على التعاون، حيثُ تضمُّ العشيرة أفرادًا من انتماءاتٍ مختلفةٍ؛ بما في ذلك إلى حركتي “فتح وحماس”. في هذا السياق، فإن هذا السيناريو يعزّز فرصَ تثبيتِ التهدئة، لكنه يبقى هشًا ما لم تُعالَجْ جذورُ التوتر.
في الختام، يتضح بعد مرور عامين على حرب غزة أن مسار الحرب تحولَ من الاشتباكِ المسلح المباشر بين حركة حماس والجيش الإسرائيلي إلى حربٍ بالوكالة؛ ليكونَ هناك اقتتالٌ فلسطينيٌ – فلسطيني، وبالتالي يجعل من الوجود العسكري الإسرائيلي في القطاع ملزم. حيثُ تُظهر الاشتباكاتُ الفصائليةُ الدائرةُ في غزة، في هذا التوقيت الدقيق، حجم التعقيد الذي يشوب المشهد الفلسطيني الداخلي، إذ تتقاطع الأبعاد الأمنية والسياسية والاجتماعية في لحظةٍ مفصليةٍ من مسار الصراع مع الاحتلال، فبينما يُفترض أن تُشكّل اتفاقيةُ وقف إطلاق النار فرصةً لإعادة التوازن الداخلي وترتيب الأولويات الوطنية، إلا أن انفجارَ التوترات بين حماس وبعض العشائر والميليشيات المسلحة يكشف عن صراعاتٍ خفيةٍ تفجَّرت بعد انكشاف الغطاء الإسرائيلي عن بعض المجموعات، وسط محاولاتٍ حثيثةٍ لإعادة ضبط موازين القوة الداخلية. وبالرغم من ذلك، يمكن القول إن الإشتباكات الجارية تقع ضمن نطاق “حرب شوارع” ولم ترتقِ إلى “حرب أهلية”.
وعليه، فإن مآلاتِ هذا التصعيد تبقى مفتوحةً على أكثر من سيناريو، تتراوح بين الانزلاقِ نحو مواجهاتٍ أكثر حدّةً قد تهدد ما تبقّى من فرص التهدئة، أو احتواء الأزمة بوسائلَ أمنيةٍ وسياسيةٍ تتيح فرض الاستقرار، وإن كان هشًا. لكن في كل الأحوال، فإن ما يجري يؤكد أن أي تهدئةٍ حقيقيةٍ في غزة لن تُكتبَ لها الاستدامةُ ما لم تُقرن بإصلاحاتٍ داخليةٍ جذريةٍ، تعالج أسباب الاحتقان المزمن، وتؤسسُ لعلاقةٍ متوازنةٍ بين القوى الفاعلة، بعيدًا عن منطق الإقصاء والقوة. فالخطر لا يكمن فقط في الاحتلال، بل في الانشقاقات الداخلية التي تهدد بتآكل ما تبقّى من الجبهة الوطنية الفلسطينية. في إطارٍ متصلٍ، فقد أجرى وزير الخارجية المصري الدكتور “بدر عبد العاطي” لقاءً إعلامياً في يوم 29 يونيو من العام الجاري، وأكد على أن “المشكلةَ الحقيقيةَ هي توفّرُ الإرادة السياسية، فلابد أن يكون هناك إرادةٌ سياسيةٌ من الجميع وأن ترتقي جميع الفصائل الفلسطينية إلى مستوى الحدث والمسؤولية”، وأضاف “نحن الآن نواجهُ مخططاتٍ تهدد بتصفية القضيةِ الفلسطينيةِ لأن تكون أولا تكون”، كما أكد على “إعلاء المصلحة الوطنية الفلسطينية فوق أي مصالحَ فصائليةٍ ضيقةٍ، فلابد أن تكون هناك مصالحةٌ وطنيةٌ فلسطينيةٌ”.
قوة “رادع”: هي قوة ميدانية خاصة أعلن أمن المقاومة في قطاع غزة عن تشكيلها أواخر يونيو 2025، بهدف مكافحة الفوضى وملاحقة اللصوص وقطاع الطرق والعملاء والمتورطين في الجرائم. وتنفذ القوة عمليات مباشرة ضمن إستراتيجية شاملة للقضاء على الظواهر السلبية وتعزيز الأمن الداخلي في القطاع، حيثُ شهدت مرحلة ما بعد التأسيس تصعيدًا ملحوظًا في إجراءاتها، شملت تنفيذ “إعدامات ” ميدانية وعمليات نوعية ضد عناصر يشتبه بتعاونهم مع الجيش الإسرائيلي.
كما أعلنت منصة “رادع” التابعة لحركة “حماس” في 11 أكتوبر الجاري، عن بدء تنفيذ عملية أمنية واسعة النطاق في قطاع غزة تستهدف ملاحقة عناصر المليشيات المسلحة والمتهمين بالتعاون مع إسرائيل خلال الحرب على القطاع.
عشيرة “دغمش”: تُعد من كبرى وأقوى العشائر في قطاع غزة، وتُعرف بأنها مسلحة بشكل جيد؛ إذ يعد زعماء العشيرة السلاح ضرورة تقليدية للدفاع عن أرضهم. والجدير بالذكر، أن لأفراد العشيرة إنتماءات لجماعات فلسطينية مسلحة مختلفة، بما فيها حركتا “فتح وحماس”، حيثُ شاركت في أسر الجندي الإسرائيلي “جلعاد شاليط”.
المصادر:
[1]- “أمن «حماس» يصفي الحساب مع عائلة «دغمش» في مدينة غزة”، صحيفة الشرق الأوسط، 13 أكتوبر 2025. على الرابط الآتي
[2]– أحمد الدخاخني، “حماس تعلن الحرب على ميليشيات ياسر أبو شباب في قطاع غزة”، نيوز رووم، 11 أكتوبر 2025. على الرابط الآتي
[3]– ” أودت بحياة العشرات.. تفاصيل مواجهة حماس وعشيرة المجايدة في خان يونس”، صحيفة الشرق، 3 أكتوبر 2025. على الرابط الآتي
[4]– عبدالمقصود علي، “أبو شباب” يخطط للهرب وعناصر بجماعته تطلب عفو حماس”، رؤية الإخبارية، 5 أكتوبر 2025. على الرابط الآتي
[5]– “أبرزها الأسطل وأبو شباب.. صفقة غزة تُدخل الميليشيات “معركة بقاء” ضد حماس”، إرم نيوز، 11 أكتوبر 2025. على الرابط الآتي
[6] – “تصاعد الاشتباكات بين حماس ومجموعات مسلحة في غزة”، صحيفة الشرق، 15 أكتوبر 2025. على الرابط الآتي
[7]– “20 قتيلا من “عصابات لصوص المساعدات” بعملية أمنية في غزة”، سكاي نيوز العربية، 18 نوفمبر 2024. على الرابط الآتي