المقالات
الاعترافُ بجمهوريةِ قبرص اليونانية: تحليلٌ لمواقفِ الدولِ التركيةِ
- مايو 11, 2025
- Posted by: mostafa hussien
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط

إعداد: أماني السروجي
باحث مساعد في برنامج دراسات الدول التركية
في تطورٍ لافتٍ ضمن مسارِ النزاعِ القبرصي الذي يمتد لعقود، أعلنتْ أربعُ دولٍ محوريةٍ في منظمةِ الدولِ التركيةِ – ثلاث دول أعضاء هي كازاخستان، أوزبكستان، وقيرغيزستان، بالإضافة إلى تركمانستان التي تتمتع بصفة مراقب – عن اعترافها رسميًا بجمهورية قبرص اليونانية، وقد تم اتخاذ هذا القرار خلال قمة الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى التي انعقدت في مدينة سمرقند الأوزبكية يومي 3 و4 أبريل 2025.
هذا التحولُ الدبلوماسيُ لا يُعتبرُ مجردَ تغييرٍ في العلاقات الثنائية، بل يمثّلُ تحولًا استراتيجيًا في مواقف هذه الدول تجاه القضية القبرصية، إذ يعكس تغيُّرًا في توازن المصالح الإقليمية والدولية لهذه الدول، التي كانت تميل في السابق إلى دعم المواقف التركية في النزاع القبرصي، وبذلك يبرزُ الاعترافُ الرسميُ بجمهورية قبرص اليونانية كخطوةٍ فارقةٍ في وقتٍ يشهدُ فيه العالمُ تحولاتٍ سياسيةً على الصعيدين الإقليمي والدولي، ويبدو أن هذه الدول تسعى من خلال هذا القرار إلى تعديل مواقفها بما يتناسب مع مصالحها الوطنية والإقليمية، ما يفتحُ أمامها آفاقًا جديدةً للتعاون مع الاتحاد الأوروبي ويؤذنُ بمرحلةٍ جديدةٍ في العلاقاتِ بين الدولِ التركيةِ وجمهورية قبرص اليونانية.
لذا يقدّم هذا التقرير تحليلًا معمقًا لدوافع هذا التحول، من خلال فهم خلفية النزاع القبرصي، ودلالات هذا التحول، بالإضافة إلى استعراض الموقف التركي من هذا التحرك.
السياقُ التاريخيُ للصراع القبرصي
يُعد النزاعُ القبرصيُ من أقدم النزاعات الجيوسياسية المعقّدة في شرق المتوسط، حيث تعودُ جذورهُ إلى التوتراتِ الإثنيةِ بين القبارصةِ اليونانيين والأتراك منذ استقلال الجزيرة عن بريطانيا عام 1960، وقد تفاقم النزاع بعد الانقلاب اليوناني القبرصي، في 1974، حيث قامت الحكومة اليونانية بالسيطرة على الحكم في قبرص بهدف ضمها إلى اليونان، والذي ردّت عليه تركيا بتدخلٍ عسكريٍ انتهى بتقسيم الجزيرة فعليًا إلى شطرين: شمالي تدعمه أنقرة، وجنوبي تعترفُ به الأممُ المتحدةُ كممثلٍ شرعيٍ للجزيرة.[1]
وفي عام 1983، أعلنت إدارة الشمال قيام “جمهورية شمال قبرص التركية”، لكنها بقيت كيانًا غير معترف به دوليًا باستثناء تركيا، بينما بقي الجنوب تحت إدارة القبارصة اليونانيين الذين انضموا إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004، ورغمَ الجولاتِ المتكررةِ من مفاوضات السلام، إلا أن القضيةَ ظلتْ في حالةِ جمودٍ دبلوماسيٍ، حيث يتمسكُ القبارصةُ اليونانيون بالنظام الفدرالي، في المقابل تُصرُ أنقرة والقبارصة الأتراك على حل الدولتين.[2]
وفي هذا السياق، اتسمتْ مواقفُ دول آسيا الوسطى المنضوية تحت منظمة الدول التركية بالحذر، حيث تتبنّى لسنواتٍ مواقفَ إما محايدةً أو داعمةً ضمنيًا للموقف التركي بشأن قبرص، في إطار ما يُعرف بالتضامن الثقافي والسياسي داخل الفضاء التركي المشترك، بالإضافة إلى عدمِ إقامةِ علاقاتٍ رسميةٍ مع الشطر اليوناني للجزيرة، دون أن يصلَ ذلك إلى الاعتراف بجمهورية شمال قبرص. ويُعزى هذا الحذر إلى إدراك تلك الدول لحساسية المسألة بالنسبة لأنقرة، إضافةً إلى رغبتها في الحفاظ على توازن علاقاتها بين تركيا والاتحاد الأوروبي، ومن هذا المنطلق، فإن مواقفَها ظلتْ أقربَ إلى الحيادِ الرمزيِ، وهو ما اتضحَ خلال السنوات الماضية في المحافل الدولية، حيث لم تُبدِ هذه الدول تأييدًا صريحًا لأي من طرفي النزاع، ولكنها تجنبت اتخاذ خطوات قد تُفسر كاعتراف بالسلطة القبرصية اليونانية.
التحركُ الدبلوماسيُ الجديدُ للدول التركية تجاه القضية
خلال السنوات الأخيرة، طرأ تحولٌ ملحوظٌ في مواقفِ بعض الدول الأعضاء في منظمة الدول التركية تجاه القضية القبرصية؛ تمثّل في إقامةِ علاقاتٍ دبلوماسيةٍ مباشرةٍ مع جمهورية قبرص اليونانية، ففي أكتوبر 2023، زار وزير خارجية كازاخستان نيقوسيا، مسجّلًا أولَ تبادلٍ دبلوماسيٍ مباشرٍ بين البلدين، ثم افتتحت قبرص أول سفارة لها في أستانا في أكتوبر 2024، لترد كازاخستان بافتتاح سفارتها في نيقوسيا في فبراير 2025، تبعتها أوزبكستان بافتتاح أول سفارة لها في قبرص في ديسمبر 2024، في خطوةٍ أظهرتْ تحولًا واضحًا في سياساتها الإقليمية، أما تركمانستان، المعروفة بسياساتها الخارجية الحيادية، فقد افتتحت سفارتها في نيقوسيا في 31 مارس 2025، في مؤشر على إعادة تموضع دبلوماسي له دلالاته الرمزية.[3]
وقد تجلّى هذا التحركُ الدبلوماسيُ الجديدُ بشكلٍ أوضح خلال قمةِ سمرقند بين الاتحاد الأوروبي ودول آسيا الوسطى، والتي عُقدت في الرابع من أبريل 2025، وأسفرتْ عن إعلانٍ مشتركٍ مثّل تحولًا لافتًا في مواقف عدد من دول المنظمة تجاه القضية القبرصية، وإن لم يُذكر اسمُ الجزيرةِ صراحةً، فقد تضمّن البند الرابع من البيان تأكيد الأطراف على “احترام سيادة جميع الدول وسلامتها الإقليمية”، والامتناع عن أي خطوات تتعارض مع هذه المبادئ.
ذلك بالإضافة إلى التأكيد الصريح على الالتزام بقراري مجلس الأمن الدولي رقم 541 الذي يعتبرُ إعلانَ استقلال قبرص الشمالية “التركية” باطلًا، ودعا إلى الاعتراف فقط بجمهورية قبرص “اليونانية” سلطة وحيدة في الجزيرة، والقرار رقم 550 والذي أدان ما أسماه جميع الإجراءات الانفصالية بما في ذلك تبادل السفراء المزعوم بين تركيا والقيادة القبرصية التركية.[4]
دلالاتُ التحولِ في موقفِ الدول التركية تجاه قضية قبرص
يُشكّلُ تحركُ بعضِ دولِ منظمةِ الدول التركية نحو إقامةِ علاقاتٍ دبلوماسيةٍ مع جمهورية قبرص اليونانية نقطةَ تحوّلٍ رمزية ومؤسسية في مسار المنظمة، خاصة في ظل أهمية القضية القبرصية بالنسبة لتركيا، ويعكس هذا التحول تآكلًا تدريجيًا في مبدأ “الاصطفاف التضامني” الذي طالما ميّز مواقف المنظمة خاصة فيما يتعلق بالقضايا السيادية والنزاعات الإقليمية، إذ باتت بعض الدول الأعضاء أكثر استعدادًا لتبني مواقف خارجية تختلف عن الخط السياسي التركي التقليدي.
وتبرزُ دلالةٌ خاصةٌ في خطوةِ تركمانستان، التي لطالما تبنّت سياسة “الحياد الدائم” المعترف بها دوليًا، حيث يُعد انفتاحها على جمهورية قبرص اليونانية خروجًا نادرًا عن هذا الحياد في قضية تَمسُ المصالحَ المباشرةَ لحليفٍ إقليميٍ بارزٍ، ما يعكسُ مرونةً أكبر في قراراتها الدبلوماسية، وإما عن كازاخستان وأوزبكستان، فهما تتبنيان منذ سنوات سياساتٍ خارجيةً أكثر براغماتية، واعترافهما بالدولة القبرصية اليونانية يعكس تطورًا في توجهاتهما نحو تنويع الشراكات والانخراط في التوازنات الأوروبية – الآسيوية، ولا يعني بالضرورة موقفًا معاديًا لتركيا، بل يعكس انتقالًا تدريجيًا من الالتزام بالتنسيق السياسي إلى ممارسة دبلوماسية أكثر استقلالًا، وهو ما يعزز تصور أن التماسك السياسي داخل المنظمة آخذ في التراجع لصالح اعتبارات السيادة الوطنية.
إما قيرغيزستان، والتي تميلُ في الغالب إلى مجاراة الديناميكيات الإقليمية، فإن موقفها يشير إلى أن حتى الدول الأكثر تحفظًا داخل المنظمة باتت ترى في تنويع العلاقات الخارجية خيارًا ممكنًا، ولو في إطار خطوات محسوبة وغير تصادمية.
وتكتسبُ هذه التحولاتُ بعدًا أعمقَ في ظل تَزايدِ انخراطِ دول آسيا الوسطى في تفاعلاتٍ تتجاوزُ الفضاءَ التركي – الروسي التقليدي، باتجاه أنماط تعاون أوسع مع أوروبا، فالتحول في موقف هذه الدول من القضية القبرصية يُعد مؤشرًا على ميلها للتقارب مع المنظومات القانونية والدبلوماسية الغربية، بما في ذلك القبولُ التدريجيُ بمرجعياتِ السياسةِ الأوروبيةِ في ملفات السيادة والنزاعات الإقليمية، كما تعكس هذه الخطوة استعدادًا أكبر لدى تلك الدول لإعادة تموضعها داخل شبكة من العلاقات الإقليمية والدولية تتيحُ لها خياراتٍ أكثر تنوعًا، حتى وإن كان ذلك على حساب بعض التوافقات التقليدية داخل المنظمة.
أبرزُ الدوافع السياسية والجيو–استراتيجية لاعتراف دول آسيا الوسطى التركية بجمهورية قبرص اليونانية
تبرزُ مجموعةٌ من الدوافعِ السياسيةِ والجيو–استراتيجيةِ التي تشكّل محفزًا رئيسيًا لدول آسيا الوسطى، لا سيما تركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان، نحو اتخاذ خطوة الاعتراف بجمهورية قبرص اليونانية، في سياق إعادة رسم أولوياتها الخارجية:
-
تعظيمُ فُرص الانفتاح على الاتحادِ الأوروبي والاستفادةُ من شراكاته الاقتصادية:
في أبريل 2025، أعلنتْ المفوضيةُ الأوروبيةُ عن حزمةٍ استثماريةٍ بقيمة 12 مليار يورو لدول آسيا الوسطى، كجزء من استراتيجية “البوابة العالمية”، وذلك خلال قمةِ سمرقند، وتهدفُ هذه الحزمة إلى تعزيزِ الشراكةِ الاستراتيجية بين الجانبين، مع التركيز على أربعة مجالات رئيسية: النقل، المواد الخام الحيوية، الطاقة والمناخ، والاتصال الرقمي. تتضمن الاستثمارات تخصيص 3 مليارات يورو لتطوير ممر النقل الدولي عبر بحر قزوين، و2.5 مليار يورو لتطوير سلاسل القيمة للمواد الخام الحيوية، و6.4 مليار يورو لمشاريع الطاقة المتجددة ومكافحة تغير المناخ، بالإضافة إلى 100 مليون يورو لتعزيز الاتصال الرقمي عبر الأقمار الصناعية.[5]
بالنسبة لدول آسيا الوسطى، يُمثلُ الاعترافُ بجمهورية قبرص اليونانية خطوةً براغماتيةً تهدفُ إلى التماثلِ مع المواقف الدبلوماسية الأوروبية، مما يعززُ من فرصها في الاستفادة من هذه الاستثمارات الضخمة، فمن خلال إظهار الانفتاح السياسي والتوافق مع القيم الأوروبية، تسعى هذه الدول إلى تعزيز الثقة الأوروبية بها كمواقعٍ استثماريةٍ مستقرةٍ، مما يفتحُ أمامها آفاقًا جديدةً للتنمية الاقتصادية وتوسيع شراكاتها الدولية.[6]
-
الرغبةُ في الانفكاك التدريجي عن ضغوط روسيا والصين:
تشهدُ دولُ آسيا الوسطى في السنوات الأخيرة تحولاتٍ تدريجيةً في أولوياتها الجيوسياسية، تنبع من رغبتها في تقليل الاعتماد الأحادي على روسيا والصين، اللتين ظلتا تمثلان لسنوات طويلة مرجعيتين أساسيتين في مجالات الأمن، الاقتصاد، والطاقة. ففي ظل تزايد إدراك هذه الدول لمحدودية الخيارات المرتبطة بالتبعية لمحور شرقي تقودهُ موسكو وبكين، بات من الضروري البحثُ عن توازناتٍ بديلةٍ تكفلُ لها قدرًا أكبر من الاستقلالية الاستراتيجية.
وفي هذا الإطار، يُمثّل الاعترافُ بجمهورية قبرص اليونانية خطوة عملية نحو تعزيز الانفتاح على الاتحاد الأوروبي، بما يتيح لهذه الدول فرصًا لتطوير علاقاتهِا مع الغرب، والوصول إلى بدائل أوسع في مجالات الاستثمار والبنية التحتية والطاقة النظيفة. فتعزيز العلاقات مع دول الاتحاد لا يتطلبُ فقط تقاربًا اقتصاديًا، بل أيضًا تموضعًا سياسيًا يتماشى مع الأولويات الأوروبية، ما يجعل مثل هذا الاعتراف بمثابة إشارة إيجابية تُسهم في إعادة تشكيل التوازنات الخارجية لدول آسيا الوسطى.
-
اختبارُ أُطر جديدة للتموضع الإقليمي والدولي:
تسعى دول آسيا الوسطى، لا سيَّما كازاخستان وأوزبكستان، إلى تجاوزِ دورِها التقليديِ كساحات نفوذ في صراعات القوى الكبرى، ومحاولة التحول إلى فاعلين نشطين على الساحة الدولية. وفي هذا السياق، يُمثّل الانخراطُ في قضايا ذات طابع دولي – مثل النزاع القبرصي – إحدى الوسائل الرمزية لإظهار استعداد هذه الدول للانفتاح على أطرِ السياسةِ الأوروبيةِ وتبنّي مواقف تتماشى مع قواعد النظام الدولي. وعلى الرغم من أن هذه الدول قد أبدت في السابق تضامنًا سياسيًا مع قبرص التركية في ضوء علاقاتها الوثيقة مع تركيا، فإنها لم تُقدِم على الاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية. وبالتالي، فإن اعترافها بجمهورية قبرص اليونانية لا يعكس بالضرورة موقفًا مبدئيًا من النزاع، بل يُعد خطوة محسوبة ضمن مسعى أوسع لإعادة تعريف مكانتها الدولية وتوسيع هامش تحركها الدبلوماسي.
ويُقرأ هذا التوجّهُ باعتباره محاولةً لتوسيعِ هامش التحرك الدبلوماسي بعيدًا عن السياسات الإقليمية التقليدية، وكسر الصورة النمطية لهذه الدول كأنظمة انعزالية تابعة لمحاور كبرى، فالدخول في ملفات لا تمسّ مصالحَها المباشرةَ يمنحها أدواتِ تفاوضٍ جديدةٍ في علاقاتها متعددة الأطراف، ويعزز من تصنيفها كدول ذات نضج سياسي واستقلالية استراتيجية، وهو ما ينعكس إيجابيًا على قدرتها على التفاوض في قضايا تمس أمنها واقتصادها بشكل مباشر.
-
إعادةُ تعريف أولويات السياسة الخارجية وتوسيعُ هامش الاستقلالية:
تشيرُ خطوةُ الاعترافِ بجمهوريةِ قبرص اليونانية من قِبلِ بعض دول آسيا الوسطى إلى تحوّلٍ أعمق في فلسفة صُنعِ القرارِ الخارجيِ، يقوم على إعادة تعريف أولويات السياسة الخارجية على أسس أكثر براغماتية واستقلالًا، فقد أصبحت هذه الدول أقلَّ التزامًا بمواقف الحلفاء التقليديين، مثل تركيا، التي ترتبط معها بروابط ثقافية ولغوية، وأقرب إلى تبني مواقف تتماشى مع مصالحها السيادية ومتطلبات التموضع الدولي الجديد، ويعكسُ هذا التحولُ رغبةً واضحةّ في تجاوز منطق الاصطفافات الأيديولوجية أو التضامن الرمزي الذي كان يحكم اختياراتها السياسية في الماضي.
كما أن هذا التوجّهَ يكشفُ عن اتساع الهامش السيادي لهذه الدول في إدارة علاقاتها الخارجية، بما يسمح لها بمناورة أدق بين الأقطاب الدولية، والتعامل مع الملفات الدولية من منطلق انتقائي يخدم أهدافها الوطنية، فالاعتراف بقبرص اليونانية لا يُقرأ فقط بوصفه انحيازًا لجبهةٍ على حساب أخرى، بل باعتباره تعبيرًا عن رغبة في تجاوز الأطر التقليدية التي كبّلت سياسات دول آسيا الوسطى لعقود، والتحرر من التبعية السياسية لاعتبارات خارجية، سواء كانت تركية أو روسية أو صينية.
موقفُ تركيا من التحرك الأخير
تُشكّلُ قضية قبرص إحدى القضايا المركزية في السياسة الخارجية التركية، حيث تنظرُ إليها أنقرة بوصفها مسألة ترتبط بالأمن القومي، وترى في الوجود التركي في شمال الجزيرة ضمانةً لاستقرارها السياسي والأمني، وركيزةً أساسيةً لمنْعِ تَمددِ النفوذِ الإقليميِ والدولي المنافس في شرق المتوسط. وعليه، لا تُبدي تركيا أي تردد في التعبير عن التزامها المطلق بدعم جمهورية شمال قبرص التركية، سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، في مواجهة ما تعتبره تهميشًا دوليًا غير عادل.
وهذا الإصرارُ التركيُ لا يتغيرُ حتى أمام مواقف حلفاء مقربين، لا سيَّما جمهوريات آسيا الوسطى التركية التي اختارت الاصطفاف ضمن موقف موحد يتماهى مع الطرح الأوروبي تجاه الأزمة القبرصية، ما فتحَ البابَ أمام تساؤلاتٍ واسعةٍ حول مستقبل وحدة منظمة الدول التركية، وهو ما تعاملت معه أنقرة بسياسة احتواء هادئة وحذرة.
على الرغم من إدراك أنقرة لرمزية هذا الموقف الجماعي، لم تُظهرْ انزعاجًا علنيًا أو تصعيدًا سياسيًا تجاه الدول الأربع، وقد يعودُ ذلك إلى حساباتٍ استراتيجيةٍ دقيقةٍ، أبرزُها الحفاظُ على تماسك المنظمة التركية ومنع اختراقها من قِبلِ الفاعلين الخارجيين، ففي نظر صناع القرار في أنقرة، قد يكون خلف هذا الموقف رغبة لدى تلك الدول في تحسين علاقتها بالاتحاد الأوروبي أو التصرف تحت ضغوط غربية، وبالتالي فإن الدخولَ في صدامٍ مباشرٍ معها قد يُفسّر كإملاء أو تدخل في شؤونها السيادية، وهو ما قد يدفعها إلى الابتعاد أكثر عن الفلك التركي، لذلك، اختارت أنقرة التّريثَ والتعويلَ على ما تملكهُ من أدواتِ تأثيرٍ دبلوماسيةٍ واقتصاديةٍ لتقليل الخسائر، ومحاولة توظيف تلك العلاقات مستقبلًا لصالح دعم قضية قبرص التركية في المنابر الدولية.
كما ترى تركيا أن التحركاتِ الدبلوماسيةَ الأخيرةَ في الملف القبرصي لا تنفصل عن سياق إقليمي أوسع يشهد تصاعد اصطفافات تسعى للحد من نفوذها، وعلى رأسها إسرائيل والاتحاد الأوروبي، فبحسب الرؤية التركية، تسعى تل أبيب، بالتوازي مع بروكسل، إلى إقصاء تركيا عن خريطة الطاقة في شرق المتوسط، لا سيما عبر استبعادها من مباحثات تصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، كما أنه لدى إسرائيل والاتحاد الأوروبي قلقًا متزايدًا من احتمال إقدام تركيا مستقبلًا على ترسيم حدودها البحرية مع سوريا، باعتبار أن هذه الخطوة من شأنها أن توسّعَ من نفوذِ أنقرة في شرق المتوسط وتعيد ترتيب موازين القوة البحرية لصالحها، لذا تتعامل تركيا مع هذه الاصطفافات بوصفها محاولاتٌ استباقيةٌ لاحتواء دورها، وفرْضِ واقعٍ جيوسياسي يقيّد حركتها في المجالات الحيوية التي ترى فيها امتدادًا طبيعيًا لأمنها القومي.
وفي هذا السياق جاءت التصريحات التصعيدية من داخل شمال قبرص عقب تلك التطورات، كتأكيد على تماسك الجبهة الداخلية القبرصية-التركية، واستعراض الدعم السياسي والعسكري الممنوح لها من أنقرة، وقد عبّر الرئيس إرسين تتار بوضوح عن أن السلام في الجزيرة مردّه الوجود التركي، وشدد وزير النقل، أرهان آريكلي، على أنه “لا أحد يستطيع تصفية الحسابات مع تركيا.”[7]
كما أن افتتاحَ القصر الرئاسي الجديد في شمال قبرص بتكلفة ضخمة في 5 مايو، أعطى رسالةً رمزيةً على ترسيخ الطابع السيادي لمؤسسات الدولة القبرصية التركية، وإبراز استثمارات أنقرة طويلة المدى في دعم الكيان السياسي هناك، وقد رافق ذلك تأكيد مباشر من الرئيس رجب طيب أردوغان على أن تركيا تظل “الدولة الضامنة” لشمال قبرص، مشددًا على أن استمرار الحصار المفروض على القبارصة الأتراك، وغياب حل عادل ومستدام يتماشى مع واقع الجزيرة، يجعلان أيَ انفتاحٍ تجاه إدارة قبرص اليونانية، سواء عبر التبادل التجاري أو فتح الموانئ التركية أمامها، أمرًا غير وارد.[8]
وأخيراً يمكن القول إن تركيا لا تنظرُ إلى خطوة الدول الأربع كمجرد انحياز دبلوماسي مؤقت، بل كاختبارٍ لقدرتهِا على تثبيتِ نفوذِها في مناطق الانتماء التاريخي والثقافي، ومع أن أنقرة اختارت التهدئة وعدم التصعيد، إلا أن المرحلة القادمة ستشهد – على الأرجح – حراكًا تركيًا موازيًا على ثلاث جبهات: تعزيز الداخل القبرصي التركي، ضبط تماسك منظمة الدول التركية، وإعادة تموضع نشط في معركة الغاز والحدود البحرية في شرق المتوسط.
الخاتمة
في ضوءِ هذا التحولِ الدبلوماسيِ اللافت، يُمكن القول إن موقفَ دول آسيا الوسطى المنضوية في منظمة الدول التركية تجاه القضية القبرصية لم يعدْ يُقرأ فقط من زاويةِ التضامنِ الثقافيِ أو الجغرافيِ مع تركيا، بل بات انعكاسًا لمعادلات مصلحية أكثر تعقيدًا تتجاوز الاصطفاف التقليدي. وبهذا، فإن الاعترافَ بجمهورية قبرص اليونانية لا يعبّر فقط عن إعادة تموضع سياسي، بل يؤذنُ بمرحلةٍ جديدةٍ في علاقاتِ تلك الدول مع الفضاء الأوروبي، ويطرحُ تساؤلاتٍ جدّيةً حول مستقبل التماسك داخل منظمة الدول التركية في ظل تعدد المسارات الاستراتيجية لأعضائها.
المصادر:
[1] عدي الضاهر، الحرب في قبرص.. عندما خرجت عائشة إلى العطلة عام 1974، سوريا تي ڤي، 21 يونيو 2023. https://www.syria.tv/219473
[2] زيد أسليم، اجتماع مرتقب لحل الأزمة القبرصية.. هل تكسر المفاوضات الجمود؟، الجزيرة نت، 22 فبراير 2025. https://www.ajnet.me
[3] أونور أوزرسين، تحركات جديدة على رقعة الشطرنج العالمية: قمة الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى، وقبرص، ورؤية تركيا “الوطن الأزرق”، موقع ذا كريدل عربي، 27 إبريل 2025. https://thecradlearabic.com
[4] سمير العركي، الاختباء خلف قناع “أتاتورك” لطرد تركيا من قبرص!، الجزيرة نت، 27 إبريل 2025. https://aja.ws/o5jkbq
[5] Sertac Aktan, Alice Tidey, EU seals new Central Asia partnership deal as debut Samarkand summit ends, euro news, 4 April 2025. https://www.euronews.com
[6] Paolo Sorbello, Central Asia Opens Diplomatic Rift With Turkiye Over Cyprus, The Diplomat, 18 April 2025. https://thediplomat.com
[7] سمير العركي، الاختباء خلف قناع “أتاتورك” لطرد تركيا من قبرص!، الجزيرة نت، 27 إبريل 2025. https://aja.ws/o5jkbq
[8] أين؟ وكم بلغت تكلفته؟.. أردوغان يفتتح “القصر الرابع” خارج حدود تركيا، ار تي عربية، 5 مايو 2025. https://arabic.rt.com