أُثيرت مخاوف عديدة على مدار اليومين الماضيين بشأن مستقبل اتفاق الهدنة في قطاع غزة، وذلك على خلفية إعلان حركة حماس تعليقتسليم الدفعة السادسة من الأسرى الإسرائيليين،والمقرر إجراءها يوم السبت 15 فبراير 2025، وهو الأمر الذي رد عليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بالتهديد بإحداث “جحيم في القطاع” حال لم يتم إطلاق سراح جميع الرهائن حتى ظهيرة السبت المقبل.
ورغم تحرك الوسطاء من أجل إنقاذ الاتفاق من الانهيار، وإبداء حماس استعدادها إلى الالتزام ببنوده شريطة التزام الجانب الإسرائيلي به أيضًا، إلا أن مسؤولو تل أبيب والرئيس الأمريكي لم يبدوا حتى الآن أي تنازل عن مطلب إطلاق سراح جميع الأسرى مرة واحدة، على عكس نص اتفاق الهدنة، وهو الأمر الذي يثير تساؤلات بشأن إمكانية انهيار الهدنة، واشتعال الحرب بين حماس وإسرائيل من جديد:
أولًا؛ انتهاكات إسرائيل تضع اتفاق غزة على المحك:
اندلعت الأزمة الراهنة على خلفية إعلان حركة حماس يوم 10 فبراير 2025، “إرجاء أي عمليات تبادلللأسرى بموجب الاتفاق حتى إشعار آخر“،موضحة أن هذا القرار جاء مدفوعًا بمجموعة من الانتهاكات الإسرائيلية لبنود اتفاق الهدنة الذي دخل حيز النفاذ في 19 يناير الماضي، ومن بينها:
1. انتهاك البرتوكول الإنساني المتفق عليه في مفاوضات المرحلة الأولى؛ حيث أوضح الناطق باسم كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، أبو عبيدة،أن إسرائيل لمتلتزم ببنود الاتفاق؛ من تأخير عودة النازحين إلى شمال قطاع غزة، واستهدافهم بالقصف وإطلاق النار في مختلف مناطق القطاع، وعدم إدخال المواد الإغاثية بكل أشكالها بحسب ما اُتفق عليه، في حين نفذت حماس كل ما عليها من التزامات، مطالبًا بتعويض استحقاق الأسابيع الماضية بأثر رجعي.
وفي هذا السياق؛تفيد تقارير بأن تل أبيب منعت إدخال 50 شاحنة وقود يوميًا كما ينص الاتفاق، وأن ما دخليقل معدله عن 50% من المتفق عليه، كما لم يتم أيضًا إدخال الخيام بكمياتها المتفق عليها، حيث لم يدخل إلى القطاع سوى 53 ألفًا و47 خيمة من أصل 200 ألف، في حين لم يدخل أي كرفان من أصل 60 ألفًا على الأقل.
ومن جانبها؛ نفت وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية، التي تشرف على تسليم المساعدات إلى غزة،هذه الاتهامات، مؤكدة أنها “أدخلت مئات الآلاف من الخيام إلى غزة منذ بداية الاتفاق، فضلًا عن الوقود والمولدات وكل شيء تعهدت به إسرائيل“.
2. استمرار الاستهدافات الإسرائيلية؛ حيث تواصل الطائرات الإسرائيليةضرباتها على مدينة رفح، والتي أخرها القصف الذي نفذته مسيرة إسرائيلية على تجمعًا للمدنيين أثناء تفقدهم منازلهم في منطقة أبو حلاوة بشرق رفحيوم 12 فبراير 2025، مما أسفر عن مقتل شخص، وإصابة آخر بجروح خطيرة، وبذلك؛ يصل عدد القتلى جراء الاستهدافات المباشرة من القوات الإسرائيلية منذ بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار إلى 92 فلسطينيًا، فيما بلغ عدد المصابين 822 شخصًا.
3. المطالبة بتسليم جميع الأسرى مرة واحدة بشكل يتجاوز بنود الاتفاق؛ حيث على خلفية إعلان حماس تعليق عملية التبادل، اقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلغاء اتفاق الهدنة الحالي، في حال رفضت حركة حماس تسليم جميع الرهائن الإسرائيليين حتى ظهيرة يوم 15 فبراير الجاري.
وتأييدًا لموقف الرئيس الأمريكي؛ عقد مجلس الوزراء الأمني المصغراجتماعًايوم 11 فبراير الجاري، تم الاتفاق خلاله على أن “إذا لم تعد حماس الرهائن بحلول ظهر السبت، فسيتم إنهاء وقف إطلاق النار، وسيستأنف الجيش الإسرائيلي القتال بكامل قوته حتى إلحاق الهزيمة النهائيةبحماس“.
4. عودة تحليق طائرات الاستطلاع الاستخباراتيةفي سماء مناطق عدة من قطاع غزة؛ وهو ما يُعد خرقًا واضحًا لاتفاق وقف إطلاق النار، الذي يتضمن عدم تحليقها لمدة 10 ساعات في أيام عدم تسليم أي من المختطفين، و12 ساعة في اليوم الذي ستكون فيه عملية تسليم، إلا أنه لوحظ تحليقها لساعات طويلة خلال اليومين الماضيين.
في السياق ذاته؛ وجه وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، الجيش بالاستعداد لأعلى مستوى من التأهب لأي سيناريو محتمل في غزة، كما أعلن إرسال تعزيزات عسكرية إلى محيط القطاع، تشمل جنود الاحتياط.
5. تعطيل مفاوضات المرحلة الثانية من الاتفاق؛كان من المفترض أن تبدأ هذه المحادثات يوم 3 فبراير الجاري، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أرجأ إرسال فريقه إلى قطر حتى الأسبوع الحالي.
بل أن الوفد الإسرائيلي الذي توجه إلى الدوحة، تألف من 3 مسؤولين لم يسبق لهم قيادة جهود التفاوض الإسرائيلية، وكان تفويضهم يقتصر على الاستماع وليس التفاوض، فضلًا عن أن الوفد ناقش فقط المرحلة الأولى من الاتفاق، ولم يتطرق إلى المرحلة الثانية منه، في خرق واضح للاتفاق، ودليلًا على أن تل أبيب لا تبدي جدية كافية لتسوية باقي مراحل اتفاق الهدنة في غزة.
وجدير بالذكر أنه؛من بين 251 رهينة تم اقتيادهم خلال هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، نص الاتفاق على الإفراج عن 33 رهينة،مقابل إطلاق إسرائيل سراح 1900 فلسطيني خلال المرحلة الأولى من الاتفاق والتي تستمر ستة أسابيع.
ومنذ بدء الهدنة، تم الإفراج عن 16 رهينة من الرهائن الإسرائيليين خلال خمسة عمليات تبادل، مقابل إطلاق سراح 765 معتقلًا فلسطينيًا، فيما لا يزال هناك 73 رهينة من الرهائن محتجزين في غزة، بينهم 35 يقول الجيش الإسرائيلي إنهم قُتلوا.
ثانيًا؛ هل ينهار اتفاق وقف إطلاق النار في غزة؟:
تضع التطورات الراهنة، اتفاق الهدنة في غزة بين سيناريوهين؛ الأول وهو الأكثر تشاؤمًا، يقوم على انهيار الاتفاق وعودة الحرب في القطاع مجددًا، ويستند هذا الرأي على احتمالية أن تفشل جهود الوسطاء، ويتمسك الطرف الإسرائيلي بمطلب ترامب المتمثل في إطلاق جميع الأسرى دفعة واحدة يوم السبت المقبل بدلًا من تحرير 3 رهائن كما كان متفق عليه، خاصةً وأن هناك وزراء إسرائيليين دعوا إلى استغلال هذه الفرصة واستئناف القتال ضد حماس، معلنين دعمهم للطلب الأمريكي.
أما السيناريو الثاني؛ يقوم على احتمالية نجاح الوسطاء في إحداث اختراق في هذا الملف، وأن يتم تسليم الأسرى وفقًا لبنود الاتفاق المقررة في مرحلته الأولى، على أن يتم تدشين مفاوضات جادة حول المرحلة الثانية من الاتفاق، والتي تقضي بتسليم كافة الأسرى الإسرائيليين، ووقف دائم لإطلاق النار في قطاع غزة، تمهيدًا للمرحلة الثالثة منه؛ والتي تختص بإعادة إعمار غزة.
ورغم هشاشة اتفاق الهدنة، يبدو أن السيناريو الثاني هو الأقرب للحدوث والتوافق عليه خلال الساعات القادمة، وذلك نظرًا لعدة أسباب؛ أهمها:
1. جهود الوسطاء المستمرة؛تبذل كلًا من مصر وقطر، جهود حثيثة للوصول إلى نقطة تلاقي بين الجانبين، بما يجعل الاتفاق قابلًا للتنفيذ على الأقل بمرحلتيه الأولى والثانية، ويتفادى انهيارهحاليًا،حيث جرت محادثات بين الوسيط القطري وقيادة الحركة الفلسطينية في الدوحة، ثم توجه وفد حماس برئاسة رئيس الحركة في غزة خليل الحية، إلى القاهرة صباح يوم 12 فبراير 2025، لبحث متابعة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بكل مراحله.
وأفادتمصادر بأن الوسيطان المصري والقطري، خلال الاجتماعات التي جرت في الدوحة والقاهرة بالتتابع، قدما تأكيدات لحماس بمثابة ضمانات على استمرارية الاتفاق، بما يشمل بدء إدخال بيوت متنقلة وخيام ومعدات ثقيلة بشكل تدريجي، قبيل عملية تسليم الرهائن الإسرائيليين الثلاثة المرتقب تسليمهم السبت المقبل.
2. إعلان حماس تمسكها بالاتفاق وبنوده؛ حيث أعلنت أكثر من مرة أنها ملتزمة بالاتفاق، وأن التأجيل جاء بهدف دفع الوسطاء بإلزام إسرائيل ببنود الاتفاق، وجاء ذلك على لسان القيادي بالحركة باسم نعيم،الذي صرح يوم الإربعاء 12 فبراير، بأن “الباب مفتوح أمام الوسطاء للتدخل وإعادة اتفاق وقف إطلاق النار إلى مساره“، مشيرًا إلى أن “تبذل حماس قصارى جهدها لتفادي أي عقبات وأي تحديات، لأنها لا ترغب في أن ينهار الاتفاق“، معربًا عن استعدادهاتسليم الأسرى يوم السبت المقبل،في حال التزمت تل أبيب.
3. الضغوط الإسرائيلية الداخلية الرافضة للحرب؛ وخاصةً من طرف المعارضة وذوي الأسرى المحتجزين في غزة، حيث أصدر “مقرعائلات الأسرى الإسرائيليين” بيانًا دعا فيه الوسطاء الدوليين إلى التحرك الفوري والفعال، لضمان تنفيذ الاتفاق واستئناف الإفراج عن المحتجزين، فيما أغلق أهالي رهائن إسرائيليين ونشطاء، الطريق السريع الرئيسي بين تل أبيب والقدس، لمطالبة رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو بالتحرك لضمان الإفراج عن باقي الأسرى.
وفي السياق ذاته؛ حث زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد، نتنياهو على الذهاب إلى الدوحة، في محاولة لاستئناف إطلاق سراح الرهائن، وتدارك الأزمة مع حماس.
4. الضغوط الأممية لتنفيذ الاتفاق؛ حيث دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش،يوم 11 فبراير الجاري، إلى ضمان استمرار تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار،والمضي قدمًا في عملية إطلاق سراح الرهائن،واستئناف المفاوضات الجادة في الدوحة للمرحلة الثانية منه، مؤكدًا أنه“لا بد أن نتجنب بأي ثمن استئناف الأعمال العدائية في غزة،والذي من شأنه أن يؤدي إلى مأساة هائلة“.
5. فشل الحل العسكري لتحرير الأسرى الإسرائيليين؛ باتت تل أبيب مدركة أن إعادة الأسرىمن قطاع غزة بعمليات عسكرية، أصبحت أمرًا معقدًا وغير ممكن تقريبًا، والدليل على ذلك؛ أنه منذ بداية الحرب، قُتل أكثر من 30 محتجزًا إسرائيليًا لدى حماس جراء الضربات الإسرائيلية، ومن المرجح أن يرتفع هذا العدد إذا استؤنفت العمليات العسكرية.
6. التخوف من التبعات الكارثية لاستئناف الحرب؛ سواء فيما يخص عودة نزوح فليسطينو القطاع مجددًا على خلفية اندلاع القتال العسكري مرة أخرى، وبالتالي توفير فرصة ذهبية لتنفيذ مخطط التهجير الذي يروج له الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي، أو فيما يخص تدهور الوضع الإنساني في القطاع، وزيادة معاناة سكانغزة، نتيجة ما يترتب على تجدد الحرب من نزوح ونقص المواد الأساسية الغذائية والطبية.
وإجمالًا؛يبدو أن اتفاق الهدنة في غزة قد يصمد قليلًا بعد، وأن تتم عملية تبادل الأسرى في موعدها المحدد في الاتفاق وهو يوم السبت 15 فبراير 2025، بحيث التوصل لنقطة وسط وهي “تنازل إسرائيل عن مطلبها بتحرير كل الأسرى والاكتفاء بإطلاق سراح 9 رهائن كما تردد بدلًا من الـ3 المتفق عليهم، في مقابل حصول حماس على ضمانات من الوسيط المصريوالقطري، بأن إسرائيل ستسمح بإدخال مزيد من المساعدات الإغاثية بكل أشكالها، إلى جانب بدء مفاوضات المرحلة الثانية من الاتفاق”.
ولكن هذا لا يعني حل الأزمة بشكل كلي، بل تبقى المعضلة الأهم والأكثر تعقيدًا؛ وهي الخلاف حول حيثيات المرحلة الثالثة من الاتفاق والمعنية بملف إعادة الإعمار، إذ تتواجه الرؤية الأمريكية الإسرائيلية القائمة على تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى بعض دول الجوار من أجل إعادة إعماره، مع الرؤية العربية التي تقودها مصر والقائمة على إعادة إعمار القطاع دون تهجير الفلسطينيين منه.
