المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشؤون الدولية > التحول الأوروبي في العلاقة مع إسرائيل من الدعم التقليدي إلى الانتقاد العلني
التحول الأوروبي في العلاقة مع إسرائيل من الدعم التقليدي إلى الانتقاد العلني
- مايو 22, 2025
- Posted by: mostafa hussien
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية
لا توجد تعليقات

أكرم السيد
باحث مساعد في وحدة الشؤون الدولية
شهدت العلاقات الأوروبية الإسرائيلية في الآونة الأخيرة تحولات ملحوظة في ضوء استمرار الحرب في غزة وما خلفته من تداعيات إنسانية وجيوسياسية عميقة، حيث كانت أوروبا لعقود تعد من بين الحلفاء التقليديين لإسرائيل، إلا أن ثمة ملامح تغيير هام تلوح في الأفق، ويتضح ذلك في تصاعد المواقف السياسية التي تتبناها عدد من العواصم الأوروبية تجاه تل أبيب. حيث لم يعد التعامل الأوروبي مع إسرائيل محكومًا بالتحفظ أو الحذر الدبلوماسي، بل بات يتسم بوضوح أكبر في الانتقاد، وجرأة في اتخاذ خطوات عملية تمس جوهر العلاقة بين الطرفين. في هذا السياق، يعد التصعيد الأوروبي الأخير انعكاسًا لتحولات أعمق تتجاوز مجرد كونها ردود فعل لحظية، وتكشف عن إعادة صياغة محتملة لدور أوروبا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولطبيعة شراكتها مع إسرائيل في ضوء متغيرات داخلية وخارجية متشابكة.
السياق العام للتصعيد الأوروبي تجاه إسرائيل
يأتي التصعيد الأوروبي ضمن مشهد دولي معقد تَشكّل خلال أكثر من عام ونصف من الحرب المستمرة في غزة. فبجانب الدمار الواسع النطاق ونوايا التهجير الجماعي والمعاناة الإنسانية المتفاقمة، تولدت أيضًا موجات متتالية من الغضب الشعبي والرفض السياسي في مختلف العواصم، بما في ذلك داخل إسرائيل نفسها. حيث باتت الحرب التي بدأت -طبقا للرواية الإسرائيلية- بهدف القضاء على منابع التهديد سرعان ما تحولت إلى حالة استنزاف شامل، أثرت على الوضع الداخلي الإسرائيلي سياسيًا واقتصاديًا، وأعادت طرح أسئلة كبرى حول جدوى استمرار الحرب. من هذا المنطق يمكن تناول السياق العام للتصعيد على النحو التالي:-
١-على مستوى إسرائيل
تجلى هذا التوتر الداخلي في المواقف غير المسبوقة التي خرجت من داخل المؤسسات السياسية والعسكرية الإسرائيلية. فقد أثار مؤخرا تصريح الجنرال يائير جولان رئيس حزب الديمقراطيين الإسرائيلي، ضجة كبرى داخل وخارج إسرائيل، عندما وصف الحكومة بأنها “تمارس القتل كهواية”، متهمًا إياها بالابتعاد عن القيم التي تأسست عليها الدولة، وبالانزلاق إلى ممارسات تجر إسرائيل نحو عزلة أخلاقية وسياسية[1]. ولا يمكن اعتبار تصريحات جولان استثناء، بل تعبيرًا عن تصدع داخلي متزايد داخل النخبة الحاكمة والمعارضة على حد سواء، وانقسام حاد في الرأي العام حول كيفية إدارة الحرب ونتائجها.
٢-على المستوى الدولي
تبرز مؤشرات متزايدة على فتور في العلاقة بين حكومة نتنياهو وبعض الدوائر السياسية في الغرب، خاصة مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ففي زيارته الأخيرة للمنطقة، امتنع ترامب عن زيارة إسرائيل، واكتفى بلقاء عدد من الزعماء العرب، في رسالة سياسية واضحة. كما تحدث عن رغبته في التوصل إلى اتفاق مع إيران، فضلا عن قيام إدارته بالتوصل إلى وقف إطلاق النار مع الحوثيين في اليمن، وهي خطوات تتناقض كليا مع التوجهات الإسرائيلية، التي ترى في هذه التحركات تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي ومكانتها الإقليمية.
وفي ظل كل هذه التحولات المتشابكة، يصبح من الطبيعي أن يتخذ الموقف الأوروبي منحى أكثر حدة، خصوصًا في ظل ضغوط داخلية متزايدة من الرأي العام، وتآكل الشرعية الأخلاقية للحرب لدى دوائر عديدة من الساسين والمواطنين الأوروبيين بشكل جعل إسرائيل لم تعد تتمتع بذات الحصانة السياسية، ولم يعد خطابها التقليدي يحقق الصدى المطلوب.
خطوات تصعيد أوروبية
اتخذت عدة دول أوروبية في الفترة الأخيرة خطوات تصعيدية غير مسبوقة تجاه إسرائيل، تجاوزت حدود الخطابات الدبلوماسية التقليدية إلى تحركات عملية تعبر عن تحول جوهري في موقف أوروبا من الحرب الجارية في غزة. ويعد الاعتراف بدولة فلسطين من قبل دول مثل إيرلندا وإسبانيا والنرويج قبل نحو عام[2]، بمثابة نقطة تحول هامة، سواء من حيث توقيته الذي تزامن مع ذروة التصعيد العسكري الإسرائيلي، أو من حيث دلالاته السياسية التي تعكس انتقالًا من موقف الترقب والدعوة لحل الدولتين إلى خطوات ملموسة تعزز من الاعتراف الدولي بالحقوق الفلسطينية. وتأتي هذه الاعترافات كرسائل قوية إلى إسرائيل بأن استمرار العمليات العسكرية وتجاهل الحلول السياسية سيواجه بردود فعل ملموسة من المجتمع الدولي، لا سيما من شركائها الأوروبيين التقليديين.
علاوة على ما سبق، بدأت بعض الدول الأوروبية مراجعة علاقاتها القانونية والاقتصادية مع إسرائيل، وعلى رأسها اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية التي دخلت حيز التنفيذ عام 2000. وتعد هذه الاتفاقية من أبرز أدوات التعاون بين الطرفين، لكن المادة الثانية منها تنص على أن العلاقات يجب أن تستند إلى احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية كشرط أساسي لاستمرار العمل بها[3]. ومن اللافت أيضا دخول دول أوروبية ذات ثقل كبير مثل فرنسا وبريطانيا على خط الانتقادات المعلنة، حيث أعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مناسبات متعددة عن صدمته العميقة من استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية في غزة، مؤكدًا أن فرنسا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام انتهاكات جسيمة للقانون الدولي. كما أعلنت الحكومة البريطانية – رغم مواقف لندن التاريخية الأقرب إلى تل أبيب- تعليق المفاوضات التجارية مع إسرائيل فضلا عن إقرار مجموعة من العقوبات على المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية[4].
وبشكل عام، يمكن استخلاص أن أوروبا لم تعد تتعامل مع إسرائيل ك”شريك استثنائي” خارج معايير القانون الدولي، بل إن سلسلة الخطوات التصعيدية الأخيرة تعكس إعادة صياغة للعلاقة ترتكز على ربط التعاون السياسي والاقتصادي بسلوك إسرائيل واحترامها للقانون، وهو ما قد يشكل بداية تحول استراتيجي في الدور الأوروبي داخل الصراع.
دوافع التصعيد الأوروبي
لا يمكن فهم التحركات الأوروبية التصعيدية الأخيرة تجاه إسرائيل بمعزل عن مجموعة من الدوافع المركبة، يمكن تناولها في السياق التالي:-
١-الرأي العام الأوروبي
تأتي الضغوط المتزايدة من الرأي العام الأوروبي في مقدمة هذه الدوافع والذي عبّر في الأشهر الأخيرة في سياقات مختلفة عن استياء واسع من الحرب الإسرائيلية على غزة، خاصة في ظل الصور اليومية للضحايا المدنيين، وتدمير البنية التحتية، واستهداف المستشفيات والمدارس. حيث شهدت كبرى العواصم الأوروبية مظاهرات حاشدة مؤيدة للقضية الفلسطينية، مما دفع الحكومات الأوروبية إلى إعادة النظر في مواقفها التقليدية المتحفظة، خشية فقدان رصيدها الشعبي، خاصة في ظل تنامي خطاب حقوق الإنسان هناك على خلفية الحرب في غزة.
٢-الأحزاب السياسية
لعب التحول داخل المشهد الحزبي والسياسي الأوروبي دورًا هاما، إذ بدأت بعض الأحزاب -سواء في اليسار أو حتى في تيارات الوسط- إعادة تموضعها إزاء الصراع العربي الإسرائيلي. حيث بدأ التأثير الحزبي يضغط باتجاه تبني سياسات أكثر صرامة ضد الاحتلال والانتهاكات، بل إن بعض القيادات السياسية المحافظة أصبحت تدرك أن الانحياز المطلق لإسرائيل لم يعد قابلًا للاستمرار في ضوء الانتهاكات المتكررة، مما يخلق بيئة تسمح بتغيير السياسات على المستوى الرسمي.
٣-السياق الدولي
شكلت التوترات الأخيرة بين واشنطن وتل أبيب عاملًا محفزًا للتصعيد الأوروبي، حيث أنه مع تراجع التنسيق الوثيق بين إدارة ترامب وحكومة نتنياهو، وظهور خلافات واضحة حول رؤية الطرفين لاستمرار الحرب من عدمه[5]، باتت الدول الأوروبية أقل تقييدًا في ردود أفعالها تجاه إسرائيل، حيث لم تعد أوروبا مضطرة لمحاكاة الموقف الأمريكي كما في السابق، بل وجدت في الفجوة بين الحليفين فرصة لممارسة ضغوط خاصة بها، بما يتلاءم مع رؤيتها ومصالحها.
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن التصعيد الأوروبي ليس وليد لحظة عاطفية أو استثنائية، بل هو نتاج تحولات عميقة داخل المجتمعات الأوروبية نفسها وتحول في طبيعة العلاقة مع إسرائيل، وكذلك إدراك بأن الصمت لم يعد ممكنًا في مواجهة مشاهد الإبادة اليومية.
التصعيد الأوروبي وإمكانية كبح التمدد الإسرائيلي
يمثل التصعيد الأوروبي تجاه إسرائيل تطورًا نوعيًا في مسار التفاعل الدولي مع الحرب على غزة، إلا أن أهمية هذا التصعيد لا تقتصر على كونه تصعيدا دوليا تجاه إسرائيل فحسب، بل أيضا امتداده إلى الداخل الإسرائيلي نفسه. فبموجب الإجراءات الأوروبية الأخيرة بدءًا من اعتراف بعض الدول بدولة فلسطين إلى دعم البعض الآخر المحكمة الجنائية الدولية ومذكرات التوقيف، مرورًا بإعادة النظر باتفاقية الشراكة التجارية، كل ذلك يسهم في تعميق الشعور بالعزلة لدى إسرائيل ويفاقم الأزمة السياسية الداخلية، خاصة مع تزامن هذه الضغوط مع تنامي الانقسام المجتمعي والاحتجاجات المتواصلة ضد حكومة نتنياهو، مما يضعف موقفها ويقوض قدرتها على الاستمرار في الحرب بنفس النسق الحالي.
ومن ناحية أخرى، يكتسب هذا الضغط الأوروبي خصوصية إضافية بالنظر إلى العلاقة الاقتصادية الوثيقة بين الجانبين. حيث يعد الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لإسرائيل[6]، مما يجعل من تهاون تل أبيب مع التصعيد الأوروبي احتمالية مستبعدة إلى حد كبير، حيث يتعدى الأمر كونه من قبيل الضغوط الرمزية أو الإعلامية إلى كونه مسألة شراكة تجارية هي الأهم لإسرائيل.
وتجدر الإشارة أيضا أنه على الرغم من صعوبة بناء إجماع أوروبي لفرض عقوبات جماعية ضد إسرائيل نتيجة انقسام مواقف بعض الدول، إلا أن المجال يبقى مفتوحًا أمام الدول الأوروبية لاتخاذ إجراءات فردية تصعيدية، بما في ذلك مراجعة الاتفاقيات الثنائية أو الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وفي هذا السياق، يمكن القول أن إسرائيل تدرك صعوبة التفريط في هذه الشراكة. وبالتالي، فإن استمرار الضغوط الأوروبية قد يسهم فعليًا في دفع الحكومة الإسرائيلية إلى مراجعة سياساتها، خصوصًا إذا تزامنت هذه الضغوط مع عزلة دبلوماسية متزايدة واحتقان داخلي متفاقم. وعليه، فإنه لا يستبعد أن يسهم المسار الأوروبي في إعادة ضبط قواعد الاشتباك الدولي مع إسرائيل، وربما فتح نافذة نحو إنهاء الحرب، أو على الأقل، كبح اندفاعها العسكري وتعديل حساباتها السياسية في المدى المنظور.
ختاما
يبدو أن العلاقات الأوروبية الإسرائيلية تقف عند مفترق طرق، حيث لم تعد المصالح السياسية والاقتصادية وحدها كافية لتبرير الصمت الأوروبي إزاء السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية. حيث فرضت حرب غزة الأخيرة واقعًا جديدًا، دفعت فيه الحكومات الأوروبية لمواءمة سياساتها الخارجية مع ضغوط الرأي العام الداخلي، خاصة في ظل تعاظم التحديات الأخلاقية والقانونية المرتبطة بدعمها التقليدي لإسرائيل.
ومع تصاعد الخطوات الأوروبية تجاه المساءلة وفرض العقوبات، فإن هذا التحول قد يمثل بداية لانفكاك تدريجي عن الانحياز التاريخي، وفتح المجال أمام دور أوروبي أكثر توازنًا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ومع ذلك، يبقى مدى استمرارية هذا التوجه مرهونًا بتطورات الميدان، وقدرة الحكومات الأوروبية على تحويل مواقفها السياسية إلى سياسات مؤثرة تعيد الاعتبار للقانون الدولي، وتسهم في تحقيق سلام عادل وشامل في المنطقة.
المصادر :
[1] إسرائيل.. زعيم حزب معارض يتهم الجيش بـ”قتل أطفال غزة كهواية”، الشرق، ٢٠-٥-٢٠٢٥
https://linksshortcut.com/IdyeI
[2] إسبانيا والنرويج وإيرلندا تعترف بدولة فلسطينية وإسرائيل تحتج، بي بي سي، ٢٢-٥-٢٠٢٤
https://www.bbc.com/arabic/articles/c3gger538pyo
[3] الاتحاد الأوروبي يراجع اتفاقية الشراكة مع إسرائيل على خلفية حرب غزة، سي ان ان، ٢٠-٥-٢٠٢٥
[4] بسبب غزة ـ بريطانيا تعلق محادثات التجارة الحرة مع إسرائيل، دويتش فيلله، ٢٠-٥-٢٠٢٥
https://linksshortcut.com/HIQDL
[5] Trump frustrated by Gaza war, wants Netanyahu to “wrap it up”: U.S. officials, Axios, 20-5-2025
https://www.axios.com/2025/05/20/trump-wants-netanyahu-end-gaza-war
[6] الاتحاد الأوروبي سيعيد النظر في اتفاق الشراكة مع إسرائيل.. ما هي أبرز بنوده وآثاره؟، مونت كارلو الدولية، ٢١-٥-٢٠٢٥